من جديد، تشهد الهند أزمة طائفية بين الهندوس والمسلمين بعد تصريحات لـ«نوبور شارما» المتحدثة بِاسم الحزب الحاكم «بهاراتيا جاناتا» أساء فيها للنبي محمد.

هذه التصريحات أثارت جدلاً محليًّا ودوليًا استدعى تدخّلاً من الحزب الرئيسي في الهند، أقال بموجبه المتحدثة بِاسمه ونشر بيانًا أكّد فيه احترامه لكافة الأديان.

رغم هذه المساعي، فإن تلك الأزمة الكبيرة هي رأس جبل جليد هائل الحجم لا نعرف كثيرًا عن تداعياته، جبل من مشكلة معقدة يعاني منها المجتمع الهندي منذ عشرات السنوات تتعلّق بالأوضاع المهينة للأقلية الإسلامية في البلاد الآخذة في التدهور من وقتٍ لآخر.

الهند فوق أتون اللهب

في 2005م، أمر رئيس الوزراء الهندي- وقتها- مانموهان سينغ بتشكيل لجنة من 7 أفراد ترأّسهم راجيندر ساشار رئيس المحكمة العليا في دلهي، لبحث أوضاع المسلمين في الهند، وخلصت اللجنة إلى أن المسلمين يعانون تهميشًا على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، ووثّقت عشرات الحالات التي تعرض فيها مسلمون للتمييز في التعليم أو العمل لمجرد أن اسمه مسلم أو يرتدي غطاء للرأس لو كان امرأة.

السنوات الفائتة مثّلت ذروة تصعيد الهندوس ضد المسلمين، وهو ما انعكس في تتالي الهجمات التمييزية بحقّهم في الشهور القليلة الفائتة، ففي مارس من هذا العام، رفضت محكمة هندية في ولاية كارناتاكا السماح للفتيات بارتداء غطاء الرأس في المدارس بدعوى أن «الحجاب ليس جزءًا أساسيًّا من الإسلام»، وهي الخطوة التي ردَّ عليها تجار مسلمون بإغلاق محلاتهم احتجاجًا على هذا القرار.

لاحقًا صعّد الهندوس من استفزازهم للمسلمين حين منعوا التجار المسلمين من البيع والشراء جوار معابدهم، بل وعلّقوا لافتات على المعابد تقول إن التجار غير المسلمين غير مسموح لهم بالتجارة هنا.

وتأتي هذه الأفعال مدعومة بقانون سنّته حكومة الولاية التابعة للحزب الحاكم، والتي حظرت على المسلمين القيام بأي أعمالٍ تجارية جوار معابد الهندوس.

في أبريل من هذا العام، وخلال احتفالات دينية هندوسية في مدينة خارجون، تم تعليق شعارات مسيئة للمسلمين فوق أحد المساجد وهو ما أدّى إلى اندلاع أعمال شغب ورشق بالحجارة بين الطرفين.

وعادةً ما يعتبر الهندوس تلك المهرجانات وسيلة للإعراب عن قوتهم ورفضهم للمسلمين الذي يتعمّدون استفزازهم ورفضهم، فيقتحمون بمواقعهم أحياء إسلامية ويرددون شعارات مسيئة للإسلام أمام البيوت والمساجد وهم يحملون العصي والسيوف، لذا عادة ما تنتهي بوقوع اشتباكات كبيرة بين الفريقين.

بلغت الخسائر مدى حرجًا دفع الحكومة لحظر التجوال في المدينة، وتوعّد رئيس الحكومة بإجراءات عقابية مريعة ضد مُثيري الشغب، وهو ما لم يُطبّق إلا على المسلمين فقط، لم يُعاقبوا بالسجن أو بالاعتقال وإنما نفذت السُلطات المحلية عمليات واضحة لهدم منازلهم، وهي خطوة أثارت انتقادات المجتمع الدولي، وعلى رأسه منظمة العفو الدولية، التي انتقدت إجراءات الحكومة الهندية في بيانٍ رسمي اعتبرت بموجبه أن واجب الدولة حماية الأقليات الدينية كما تفعل مع الأغلبية.

وفي ذات الشهر، سعى أحد فقراء المسلمين إلى تلمُّس قليل من الرزق عبر بيع الأواني بجوار محفل هندوسي يغصُّ بالبشر، وما إن علم الهندوس هويته حتى ضربوه وطردوه، وهو ما يحدث دوريًا مع مئات صغار البائعين الذين يمنعهم الهندوس من محاولات التجارة على هامش المهرجانات الهندوسية.

لم يتوقّف الأمر على حدِّ الاحتكاكات الشعبية وإنما تطوّرت إلى مواقف تبنّاها رجال دين هندوس كبار يحظون برعاية الحكومة، ففي العام الماضي، دعا الزعيم الديني الهندوسي ياتي نارسينغاناند إلى إبادة المسلمين جميعًا في البلاد، وهو ما أثار موجة عارمة من الاحتجاجات الدولية، فاضطرت الحكومة لإلقاء القبض عليه لفترة قصيرة ثم أطلقت سراحه لاحقًا. أيضًا– منذ أيامٍ معدودة- انتشر مقطع مصوّر لرجل دين هندوسي آخر في أبريل من هذا العام يُخاطب حشدًا من الهندوس ويُطالبهم فيه بالقبض على فتيات المسلمين واغتصابهن، وكان لافتًا أن هذا الحشد المتطرف إنما وقف في حماية رجالة الشرطة الهندية الذين لم يُحرّكوا ساكنًا إزاء كافة تلك التهديدات الإجرامية.

صحيفة سوابق الحزب

جزء كبير من هذا الاحتقان يعود إلى حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم في الهند، والذي يمتلك سجلاً أسود في التعامل مع المسلمين لم يقتصر فقط على السجالات اللفظية المتبادلة بين الطرفين، وإنما تبنّى أعمال عنفٍ على أرض الواقع، ففي عام 1992م هاجَم مؤيدو الحزب مسجدًا تاريخيًّا يُدعى «مسجد بابري»، في ولاية أوتار براديش وهدموه بدعوى أنه بُني على أطلال معبد هندوسي قديم، وهي الخطوة التي فجّرت أعمال عنفٍ بين الجانبين تسبّبت في مقتل ألفي شخصٍ على الأقل.

وبسبب هذه الوقائع مات قرابة ألف فرد في ولاية كجرات الهندية، والتي كان يحكمها وقتها مودي رئيس الوزراء الحالي.

ويستند الحزب في أطروحاته إلى أفكار المُنظر الأيديولوجي راشتريا سوايامسيفاك سانغ، الذي يدعو للحفاظ على ثقافة البلاد الهندوسية ولتحويل المسلمين إلى مواطنين من الـ«درجة ثانية»، ويعتبر أن الهندوس هم أصحاب الأرض الحقيقية، وأن وجود المسلمين فيها يُفسد قداستها لذا عليهم مغادرتها فورًا، وهو ما يُترجم إلى دعوات مستمرة تُطالب بطرد المسلمين إلى باكستان.

ولطالما شارك قادة ذلك الحزب في إنشاد أغان وشعارات مسيئة للإسلاميين، مثلما فعل «تي راجا سينغ»، عضو الحزب في المجلس التشريعي، الذي ألقى خطابًا في أبريل الماضي يؤكد فيه السيادة الهندوسية ويحضُّ على كراهية المسلمين.

وفي مايو من العام الماضي، وخلال شنِّ إسرائيل حربها على غزة أظهرت آلاف الحسابات الهندية على موقع «تويتر» دعمًا غير محدود إلى إسرائيل، بعدما دشّن هندوس متطرفون هشتاج #UnitedAgainstJehad، والذي دأب على ترديد روايات معادية للإسلام ومبررة لحرب الإسرائيليين ضد الفلسطينيين.

أغلب هذه التدوينات تجاهلت الصراع الشرق أوسطي وانسحبت على مواقع الحياة في الهند بعدما اتّهمت آلاف التدوينات المسلمين بأنهم يُهدّدون حياة الهندوس، وخطر على الأمن القومي الهندي وغيرها من الشائعات التي لطالما ردّدها قادة حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم في الهند.

وكان من اللافت أن عديدًا من تلك التدوينات احتفت بهدم «مسجد بابري» بِاعتباره خطوة على الطريق الصحيح نحو تطهير الهند من الإسلام والمسلمين.

جذور الأزمات المتلاحقة

في عام 1947م، قسّم البريطانيون شبه القارة الهندية، معلنين قيام دولة منفصلة للمسلمين هي باكستان، وهو القرار الذي أثار موجة جبّارة من أعمال الشغب شملت حرق قُرى بأكملها وانتشار الجثث في الشوارع، ما دفع المؤرخين لتقدير حجم الضحايا بقرابة 200 ألف شخص!

أتت هذه الوقائع بعد سنوات من الشحن الطائفية التي لطالما احتضنها البريطانيون ضمن سياستهم الشهيرة «فرّق تسُد»، كوسيلة للتفريق بين أنسجة الأمة الهندية حتى يسهل حُكمها، وهو ما كان له تداعيات مدمّرة في نهاية الأمر.

رسّخ مساعي التقسيم الزعيم الديني محمد علي نجاح، الذي أصرّ على إعلان دولة للمسلمين في باكستان، وذلك رغم ميوله التوحيدية سابقًا وعضويته في حزب المؤتمر العلماني، لكنه سرعان ما انسحب منه بسبب شكوكه في أن الحزب سيسعى لتهميش المسلمين عقب انتهاء الاحتلال، وبالفعل نفّذ مخططه بإعلان باكستان دولة مستقلّة لمسلمي الهند.

لم ينزح كافة مسلمي الهند إلى باكستان بعدما فضّل عدة ملايين البقاء مع أقاربهم الهندوس أو للحفاظ على مصالحهم الاقتصادية، وبعضهم كان مُعارضًا لتشكيل دولة باكستان من الأساس. منذ انفصال باكستان عاشت تلك الأقلية الإسلامية أعمال انتقامٍ مروّع مات على أثرها قرابة 40 ألف مسلم في أعمال شغب معادية للمسلمين.

في مقاله اعتبر الباحث السياسي سوديش فيرما، أن الفجوة بين الهندوس والمسلمين هي أكبر تحدٍّ يُواجه الهند اليوم، فالمسلمون أقلية بالفعل، لكنهم أقلية كبيرة مؤلّفة من ملايين الأشخاص ما يجعلهم قادرين على اتخاذ ردود فعل عظيمة ضد أي اعتداء يقع علهيم من جانب الأغلبية الهندوسية التي كفّت عن محاولات احتواء المسلمين ضد النسيج المجتمعي الواحد للهند.

وما يُفاقم الأمر أن أعداد المسلمين في زيادة مطردة في الهند، بلغت 195 مليون فرد عام 2015، ويُتوقّع في عام 2060م أن يُشكل المسلمون قرابة 19% من السكان، وبذلك تكون الهند أكبر دولة في العالم تضمُّ مسلمين أكثر من بلاد الشرق الأوسط ذاتها كالسعودية ومصر.

هذه الكتلة السكانية الضخمة من المسلمين تعيش في معدلات عالية من الفقر والأمية مقارنة بباقي السكان، فأكثر من نصفهم يعملون لحسابهم الخاص، وأكثر من ربعهم يعملون في وظائف مؤقتة بحسب ما قدّمته أطروحة «المسلمون في المجال الاقتصادي الهندي» التي أعدّها معهد دراسات الداليت في نيودلهي.

وكذلك كشف تقريرٍ حقوقي هندي صدر عام 2006م ألقى الضوء على معاناة المسلمين داخل المجتمع، وتهميشهم سياسيًّا عبر حرمانهم من الوظائف الإدارية العُليا في الدولة.

فبينما يقود المسيحيون والهندوس ولاياتهم التي يتمتّعون فيها بأغلبية لا يُسمح للمسلمين بذلك بما في ذلك ولاية كشمير ذات الأغلبية الإسلامية، لكن حكومة الهند لا تسمح بإجراء انتخابات فيها.

أما عن الانتخابات البرلمانية فلطالما كان تمثيل المسلمين ضعيفًا فيها وينحدر بِاستمرار، فبعدما شغل المسلمون قرابة 10% من المقاعد عقب انتخابات 1980م تدنّت تلك النسبة إلى 4% فقط في انتخابات 2014م، التي فاز بها الحزب اليميني بهاراتيا جاناتا بـ303 مقاعد من أصل 542 مقعدًا، وهو ما ينسجم مع سياسة الحزب العلنية باعتبار المسلمين غير موجودين، فلم يهتم بترشيحهم على قوائمه أو تعيينهم حكّامًا للولايات، وهو ما يضاعف من حجم الهوة المجتمعية التي تعيشها الهند، والتي يبدو أنها لن تلتئم بسهولة.