تمهد البدايات طريق اللاعب رفقة فريقه الجديد خاصة إذا كان المهاجم الرئيسي للفريق. يحتاج المهاجم أن يسجل هدفه الأول سريعًا ليتمتع بالثقة اللازمة داخل الملعب. هدف ثانٍ من أجل كسب ثقة الجماهير، لكن ماذا عن هدف ثالث خلال ثالث مباراة، ثم هدف رابع وأسيست في الرابعة؟ إنها حتمًا دلالة أن الرجل وجد بيئة مناسبة وملائمة للتألق.

فعلها مصطفى محمد كبداية مثالية تمامًا له بقميص فريقه الجديد جالاتا سراي. تبدو تلك البداية افتتاحية مناسبة لقصة يستطيع خلالها أن يلعب مصطفى دور البطل الأوحد داخل الأراضي التركية خلال فترة وجيزة.

قبل أن تتهمني بالمبالغة وتذكرني بعشرات اللاعبين الذين بدوا كنجوم لامعة في البداية ثم أدارت الكرة لهم ظهرها دون رجعة، دعني أؤكد لك أن الحديث عن تألق مصطفى المحتمل لا يتعلق إطلاقًا بالأربع أهداف التي أحرزها مصطفى بالفعل-حتى الآن-، لكن المنطق هو الذي يدعم مصطفى بقوة بالإضافة للظروف المحيطة، دعنا ننتقل سويًا إلى تركيا لقراءة الموقف بالتفصيل كي تبدو الأمور أوضح.

الثلاثة الكبار

هناك مصطلح أساسي في كرة القدم التركية يدعى «الثلاثة الكبار»، والمقصود هنا بالطبع فرق فناربخشه وبشيكتاش وجالاتا سراي.

يدعم 80% من سكان تركيا البالغ عددهم 83 مليون نسمة واحدًا من تلك الأندية الثلاثة. استطاعت تلك الأندية الثلاث مجتمعة أن تتوج بالدوري 54 مرة خلال المواسم الـ 62 الماضية، لكن ماذا عن الوضع الراهن؟

انتهى الدوري التركي في نسخته الماضية ليعلن عن نادي إسطنبول باشاك شهر كبطل له أما عن الثلاثة الكبار فالوضع لا يبدو جيدًا على الإطلاق، إنه وضع مزري عنوانه الديون.

كانت الأمور على ما يرام في بشيكتاش بعد تولي السيد فكرت أورمان رئاسة النادي والذي ساعد النادي بالفوز بالدوري عامي 2016 و2017 بصفقات مثل بيبي وكواريسما والبرازيلي تاليسكا. لكن تلك الصفقات أثقلت الفريق بالديون وانتهى الأمر باستقالة أورمان في سبتمبر 2019 تاركًا الفريق مديونًا برقم يقرب إلى 280 مليون يورو.

لا يختلف الأمر كثيرًا في فناربخشه. استخدم النادي طرق الائتمان لجلب الأموال وكانت جميع مصادر الإيرادات مرتبطة بسداد الديون. آخر سبع سنوات من تاريخ بشيكتاش هي محاولة لإبقاء النادي على قيد الحياة في ظل خسارة الإيرادات وتراجع العلامة التجارية. كذلك بعض الانتدابات الباهظة التي لا تتناسب مع وضع النادي المالي مثل ناني وفان بيرسي.

أما عن جالاتا سراي وهو الضلع الأهم لنا من الثلاثة الكبار فالوضع المالي لا يختلف كثيرًا، حيث تقدر الديون بأكثر من 190 مليون يورو. كذلك يعاني النادي على المستوى الإداري والفني من عدم استقرار واضح.

يعاني رئيس النادي مصطفى جنكيز من سوء الحالة الصحية بشكل مستمر وسط أنباء حول تنازله عن منصبه. أما عن المستوى الفني فلم يستطع الفريق أن يتجاوز المركز السادس في جدول الدوري للموسم الماضي.

وسط توقع بتغير خريطة كرة القدم في تركيا خلال القادم من السنوات واجهت إدارات الأندية الثلاثة موجات من الغضب والتشكيك الجماهيري بالطبع.

هكذا هو المشهد الكروي في تركيا، مشهد تبدو خلاله إدارات الثلاثة الكبار في مأزق مستمر وسط حلول غير مجدية. ولذا ففكرة انتداب مهاجم مصري شاب قادر على صناعة الفارق كانت بمثابة طوق نجاة لإدارة جالاتا سراي ودلالة هامة لإدارات فرق بشيكتاش وفناربخشه.

صفقة شهدت تنافسًا مع فريق أوروبي آخر -الفرنسي سانت ايتيان- استمرت لمدة شهر تقريبًا، وكان عامل الحسم فيها هو مصطفى نفسه. كان ذلك هو كل ما يحتاجه إدارة جالاتا سراي للتأكيد أن النادي لا زال قادرًا على اجتذاب المواهب الصاعدة كفريق له أهميته في أوروبا.

هذا يفسر أهمية مصطفى لإدارة جالاتا سراي وهو ما دفع نائب رئيس النادي السيد «عبد الرحيم البيرق» بوصف مصطفى محمد باللاعب الذي لا يقدر بثمن واللاعب ذي القيمة الكبيرة بالنسبة جالاتا سراي.

لهذا وعليه فسيحصل مصطفى على كل الدعم اللازم من إدارة الفريق التركي بل وسيتم التركيز على نجاحاته بشكل كبير لأنها ببساطة نجاح هام وفيصلي لإدارة النادي.

أما عن المستوى الجماهيري فيبدو أن قصة مصطفى ستكون أكثر تشويقًا مع الوقت.

جماهير تتلهف خلف القضبان

يؤكد الكثيرون أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو مشجع لنادي جالاتا سراي، لكن هذا لا يخفف من حنق الجماهير شيئًا. يبدو أردوغان محبوبًا ومكروهًا من قبل أنصار كرة القدم على قدم المساواة.

أشرف الرجل على برنامج التحديث الشامل لكرة القدم في تركيا، والذي شهد ظهور ملاعب حديثة جديدة مصممة لهذا الغرض في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك فقد تحسر العديد من المشجعين على فقدان المناطق التي شهدت تجمعاتهم بجوار الأندية لصالح إنشاء مراكز التسوق والتطورات السكنية التنفيذية على الأرض التي أخلتها النوادي.

تعاني مجموعات المشجعين في جميع أنحاء البلاد من نظام بطاقة Passolig الذي قدمته الحكومة في 2014. كان هذا النظام رداً على تصاعد عنف الجماهير وأصبح بدونه لا يمكنك الدخول إلى الملعب.

يضطر المشجعون الآن إلى شراء بطاقة عبر أحد البنوك ويتم مشاركة معلوماتهم الشخصية مع الجهات الحكومية. وقد أدى هذا إلى انخفاض كبير في عدد الحضور في الدوري التركي حيث قل تواجد الجماهير بشكل ملحوظ وصولًا للكورونا التي منعت الجماهير في العالم أجمع.

وسط هذا المشهد الكروي على مستوى المشجعين أصبحت المغالاة عنوانًا رئيسيًا. تستطيع أن تلمح هذا في استقبال مصطفى محمد في مطار إسطنبول ومع استمرار تألق مصطفى رفقة الفريق الأكبر في تركيا سيصبح معشوق الجماهير الأول دون شك.

تتلهف الجماهير لوجود بطل لقصة عودة جالاتا سراي لقمة تركيا دون هبوط، ويبدو أن مصطفى يصلح كبطل لهذه القصة خاصة أنه تمسك بالانتقال للفريق ولا يتوقف عن التسجيل أبدًا. كما أنه لاعب صغير السن وتلك قصة أخرى.

أهلًا مصطفى .. وداعًا «عواجيز» أوروبا

نال المدرب فاتح تريم القسط الأكبر من هذا غضب جماهير جالاتا سراي الموسم الماضي. حيث بدأ الجميع يقتنع أن الرجل المحنك لن يقدم أكثر مما قدمه، أما شهرة الرجل أنه قادر على صناعة النجوم وتصعيد لاعبين صغار السن لمساعدة الفريق يبدو أنها كانت في طريقها للانهيار بفضل المهاجم فالكاو.

لم يستطع فالكاو كثير الإصابات صاحب ال 35 عامًا أن يسجل سوى 10 أهداف فقط احتل بهم المرتبة الـ 15 في سباق الهدافين للدوري التركي. يضج الدوري التركي بأمثال فالكاو وهو ما لا يروق للجماهير بالطبع.

تشعر الجماهير في تركيا أن الدوري أصبح مكانًا مناسبًا لتقاعد لاعبي أوروبا أصحاب التاريخ الكبير. ولم يشفع فوز باشاك بالدوري مستعينًا بعدد من اللاعبين كبار السن أمثال ديمبا با وجايل كليشي وروبينيو أن يخفف حنق الجماهير حول قيمة الدوري التركي.

أشركت جميع فرق الدوري التركي الـ 18 خلال الموسم الحالي باستثناء أربعة فرق فقط لاعبًا على الأقل فوق سن الثلاثين. لقد تغير شكل الدوري التركي الذي بدا في استقبال عدد من الأسماء الهامة قديمًا مثل جورج هاجي ثم ويسلي شنايدر وماريو جوميز لكن مع الوقت أصبح الدوري التركي بمثابة دار مسنين للاعبي أوروبا.

لذا تتلهف الجماهير على سطوع نجم شاب من قلب تركيا، أن يصبح الدوري التركي مسرحًا للأحداث وليس مكانًا مناسبًا للراحة والاستجمام. لذا وجود لاعب قرر أن يبدأ مسيرته في الدوري التركي ويتطور ويصبح صفقة محتملة لكبار أوروبا يعد أمرًا مميزًا بل وسيبقى هذا المثال الأهم على ضرورة الاستغناء عن عواجيز أوروبا للأبد.

القادم من ميت عقبة لأرض الجحيم

شهد موسم 1993 مباراة هامة جمعت بين مانشستر يونايتد لمواجهة العملاق التركي جالاتا سراي في دوري أبطال أوروبا للمرة الأولى. رفع مشجعو الفريق لافتة مكتوب عليها: أهلا بكم في الجحيم.

لم يتوقف الأمر هنا بل احتشد المئات عند الفندق مصدرين كل الضوضاء الممكنة حتى لا ينعم لاعبو مانشستر بقسط من النوم. أما في الملعب فكان الجحيم بالفعل، وصلت الضوضاء إلى ذروتها في الوقت الذي نزلت فيه الفرق إلى أرض الملعب. أشار السير أليكس فيرجسون أن الشرطة كانت مخيفة أكثر من الحشد.

بسبب هذه الحادثة تحديدًا يطلق على مدرجات تركيا أرض الجحيم وهو السبب الذي يوضح تدخلات الحكومة التي تحدثنا عنها سابقًا. لكن الشاهد هنا أن الجماهير التركية خاصة جماهير جالاتا سراي هي جماهير كرة قدم حقيقية تشبه مثيلتها في مصر. تقدر تلك الجماهير تمامًا اللاعب التنافسي الذي يبذل كل جهده من أجل الفريق وهو ما يتوافر في مصطفى محمد القادم من فريق كبير تنافسي وهو الزمالك. بل إن مصطفى يستطيع أكثر من غيره التعامل مع مثل هذه الجماهير دون الشعور بضغوط أو أزمات.

كل الظروف ملائمة لكي يلمع مصطفى في تركيا أكثر وأكثر، بل وقد يصبح الرجل أهم لاعب كرة قدم داخل تركيا خلال ستة أشهر فقط.