هذه نصوص قصيرة، داومت على كتابتها على فترات متباعدة، وضمنت بعضها مجموعة قصاصات، إنها مجرد خاطرة مثل خواطر الشعراء، تعن لك فجأة ثم تترك وترحل. لا أستطيع تصنيفها، لا أعرف إن كانت قصصًا أم قصائد نثر. إنها حالات خاصة قد تقترب أحيانًا من شكل القصة القصيرة جدًّا، وأحيانًا لا تكون إلا مجرد فكرة، أو ما يشبه قصيدة النثر. أظن أنها تستجيب لميلي القديم لكتابة الشعر، فلها نفس وقع القصائد عندما تتراءى لي، ونفس سطوتها، فهي تستبد بي أحيانًا وأجد نفسي ألاحق تلك الخواطر الشاردة. الحقيقة أنني أفرق بينها وبين القصص القصيرة بحدس داخلي، لا أتمكن من الإمساك به وصوغه في كلمات، لكنها في النهاية لحظة مكثفة أو انطباع أو موقف أو حتى فكرة، تثير انتباهي ورغبتي في تشكيلها.

الطريق إلى البيت

ينتهي عمله في بنزينة التعاون بحلول الثانية عشرة ليلًا. يعود إلى بيته من شارع المعسكر. لا يوجد في الشارع غير عمود نور واحد، في وسط الشارع أمام معسكر الجيش، أحيانًا يطفئه العساكر فيظهر من بعيد نور الصيدلية على ناصية شارع سعيد ويجعل الشارع يشبه نفقًا مظلمًا.

كل يوم يشاهد عسكري الخدمة أمام البوابة، يحمل السلاح وفي يده راديو ترانزستور، وصوت خافت لأغاني لا يتبينها، إذ إن الوهن من العمل اثنتي عشرة ساعة في اليوم يجعل الجسد منفصلًا عنك، يترك لك فرجة صغيرة من الوعي لتحلم بالسرير، تكون تقريبًا أكثر سعادة، من شخص الصباح الذي يمشي بخطوات ثقيلة إلى البنزينة، لا يريد للطريق أن ينتهي ولا أن يصل إلى العمل.

في ليلة شتوية باردة، رأى جنديًّا قصير القامة، يلبس الزنط، ولهجته لهجة أهل الصعيد، يغني بصوت خافت مع أغنية تذاع في الراديو:

أنا كل ما أجول التوبة يا بوي ترميني المجادير.

ويعلي صوته في المقطع الثاني:

وحشاني عيونه السودة يا بوي ومدوبني الحنين.

في كل ليلة أثناء العودة، يُنبِّه نفسه بأنه يجب ألا يعود إلى البيت من شارع المعسكر، سوف يأخذ طريقًا آخر، لكن قدمه تقوده إلى نفس الشارع مترقبًا رؤية الجندي يتمشى من سور مدرسة الأقباط ويعود إلى بوابة المعسكر، يحمل البندقية وفي يده الترانستور.

يفكر في زملائه في فترة التجنيد في الإسماعيلية، ويحاول تخمين الطرق التي أخذتهم إليها الحياة؛ بعضهم ربما يعمل في بنزينة مثله، وبعضهم ربما سافر أو توظف عن طريق واسطة في أحد الشركات، وواحد منهم عرف عن طريق الصدفة أن أباه باع فدان أرض من أجله، دفع ثمنه إلى مسئول كبير ليُعيِّنه في النيابة.

وجود العسكري أمام البوابة يجذبه بشكل ما، ربما كان مؤنسًا له، ربما يقارن سرًّا بين شقائه وشقاء العسكري فتهون عليه حياته. في إحدى الليالي أدرك أنه لن يتمكن من تغيير طريقه إلى البيت، فقد كان دون أن يدري يواسي نفسه بمقارنة شقائه بشقاء العساكر، ويتخيل تلك الأيام الصعبة التي قضاها في خدمة السلاح أو مخزن الذخيرة أيام تجنيده.

كانت ليلة شتوية تمهلت فيها خطواته أمام المعسكر، مراقبًا عسكريًّا يقف مستندًا إلى الحائط، ليس معه راديو ويسعل سعالًا خشنًا، سعالًا يُنبئ بالتهاب رئوي أو مرض في الصدر، وسمعه يقول بصوت خافت:

آه يابا تعالى لي يابا.

تلك آخر ليلة في طريقه إلى البيت يمر من شارع المعسكر، لن يمر فيه مرة أخرى، فقد رأى مصيره مُجسدًا في سعال العسكري ووحدته واستنجاده بأب غير موجود في ذلك النفق المظلم.

الذكرى السنوية

أنت تفترض أن كفاءة الشخص تتوقف على مقدار معارفه، عندك حق، لكن ذلك التعالي الذي نعامل به من لا يعرفون، يجعلنا نفكر في نوع واحد من المعارف، على أنها المعيار؛ المعارف التي تمنحنا مكانة، صحيح أن ما يجب ذمه في كل وقت، هو التظاهر بالمعارف، ومحاولة جذب الانتباه أو إثبات العلم، وبالأحرى المحاولة البائسة للحصول على تقدير لن يناله المرء بهذه الطريقة.

عندما تزور المدينة تجلس مع أصدقاء المدرسة الثانوية في المقهى، نافشًا ريشك، متذكرًا أنك كنت الأفضل وأنك من بينهم من طلعت صورته في الجرائد، وجاءت الإذاعة لتُسجِّل معك، هنا في بيتك في شارع محب.

يبدو أن زيارتك للمدينة ولقاء أصدقاء الصبا، كأنه لقاء دوري، الذكرى السنوية لربحك تلك المباراة القديمة. تنظر بسخرية هنا، ومُعلقًا بسخرية هناك، تلقي بحكمة كأنك امتلكت العلم بين يديك، وتسرد أخبارًا تقول إنها حصرية عن العلاقات المتشابكة بين المال والسياسة، وسطوة الشركات الأجنبية على اقتصاد البلاد.

هل تظن أن ذلك سيعيد إليك النصر القديم الذي أحرزته في شبابك؟

صدقني لن تعود تلك اللحظة القديمة، لأنها استنفدت كل ما لديك ببريقها، فلن تتمكن من الخروج من أسرها، ولن تهبك تلك الألعاب التي تمارسها في زيارتك لمدينتك، ومقابلة أصدقائك القدامى، غير شهوة مؤقتة، مثل استمناء ستشعر بعده بخواء لا نهاية له. إحساس بالوحدة والرغبة في تكرار لحظة النصر القديمة، في إيجاد صراع تنتصر فيه مرة أخرى على من انتصرت عليهم ذات مرة.

في كل مرة تنتهي الزيارة بالحزن، وأنت تغادر مدينتك في المساء عائدًا إلى العاصمة، لأنك في الصباح سيكون عليك مقابلة رؤسائك في الشركة الدولية التي تعمل بها، وأنت تعرف أنهم أصحاب النعمة، وأن عليك أن تقدم لهم كل ما يثبت أنك أهل للعز الذي حملوه إليك.

المصحف الضائع

لون ماء القناة راكد، سمكة بزعانف، رصاصية تسير ببطء. جلس الصبي على حافة القناة، يراقبها. الشمس تصعد إلى قلب السماء، الغيطان تمتلئ بالناس، ومن هناك، من بعيد، يسمع صوت عراك على الساقية، ابن المحمدي ضرب الولد ابن العيسوي، فتح له رأسه، وهو يجلس مكانه، يشاهد السمكة الصغيرة تسير بتمهل وهي تقضم عشبًا في قاع القناة، تثير حركتها غبارًا في الماء ثم يعود إلى الماء صفاؤه.

خلف الأعشاب التي تنمو في قاع القناة توجد سمكتان صغيرتان، انضم إليهما عدد آخر. تحركت الأسماك في لعبة، وازداد الصخب عند الساقية. الولد ابن العيسوي قطع أذن المحمدي بالمنجل. الأعشاب حوله تهتز، وسمع صوت صفير حشرة داخل نباتات كثيفة بجانبه، اقترب وراح يراقب الحشرة ذات الأرجل المعوجة وهي تقف، وتصدر صفيرًا.

كان عليه أن يذهب إلى «الكُتَّاب» لكنه هرب وعاش مع الحشرات والسمك وعشب القناة. مالت الشمس للمغيب، وبدأت نسمات الهواء الطرية للمساء، وخلت الغيطان من الناس. سار باتجاه الدار.

على الساقية رأى آثار دماء، متجلطة على الأرض، وفكر أن السمكة سوف تنام وسوف تتذكره مثلما يتذكرها، وشعر بارتباط عميق مثل الأخوة بينه وبين السمكة.

عندما وصل إلى الدار، تذكر أنه نسي المصحف، عاد إلى الغيطان المظلمة، يبحث عنه، ولكنه لم يجده. جلس بجانب القناة ينتظر أن يظهر المصحف، وفي نفس الوقت كان أهله يبحثون بـ «الكلوبات»، يبحثون عن طفل خرج في الصباح ولم يعد إلى الدار.

براءة

تاجر صغير، وقَّع ضامنًا لجار له في شراء أجهزة كهربائية من أجل زواج ابنته. لم يوفِّ الجار بالدين. رفع «المحل» قضية على الشاري والضامن، وعندما تم إعلامه بميعاد القضية، وقف في باحة داره خائفًا.

أول مرة في حياته يجيء مُحضِر إلى بابه، ويترك له ورقة حكومية بميعاد قضية. تقريبًا لم يدخل المحكمة في عمره كله غير مرة واحدة من أجل إعلام الوراثة بعد موت أبيه. كان رجلًا بسيطًا يتهيَّب الجهات الرسمية، وظل عامين يتابع القضية بنفسه، ويُذكِّر المحامي بمواعيد الجلسات، لا تؤثر فيه طمأنات المحامي، فلا خير يأتي من جهة الحكومة.

بعد عامين حكمت المحكمة بالبراءة. في قاعة المحكمة وقف غير مُصدِّق، أخرج من جيبه كل ما في جيبه من نقود على قلتها، وراح يُوزِّع على الكاتب وعسكري الأمن وسكرتير الجلسة، وقال للمحامي لم يعد معي غير ثمن العودة إلى البلد، وقبل ما يدخل الليل يكون حقك عندك.

في المغرب دخل مكتب المحامي لكي يعطيه أتعابه، وبعد أن جلس، بدا متشككًا في الحكم فسأل من جديد:

– صحيح القضية أخذت براءة؟

قال المحامي بدهشة:

– ما لك يا عم؟

– أنا بسأل بس يا أستاذ.

– ما انت كنت حاضر.

– يعني خلاص نهائي، ملهاش ذيل.

– نهائي… نهائي.

أخرج من جيبه أتعاب المحامي ووضعها على المكتب وعيناه تلمعان لا يعرف كيف يصدق أنه بريء.

وجه أخي

وصلنا إلى منطقة باب اللوق، في ظهيرة حارة من شهر مايو/أيار. جلسنا في مقهًى صغير في زقاق أمام صيدلية. كان أخي مُتحمسًا يرى أن عليَّ أن أعمل بجدية ما دامت كتابتي تحظى بالقبول. شرب الشاي ودخَّن سيجارة وسرح بصره بعيدًا عني.

عندما يتحدث إليَّ في أمر جاد، يبعد عينيه عنِّي، كأن الكلام يُقال عرضًا. في ذلك اليوم بعدما وقعت عقد كتابي كان ينظر إلى وجهي بجدية ويقول:

اشتغل، لا تهدر حياتك، أنت تهاب الشغل مثل أبينا، أنت مثله هوائي، وتريد أن تعيش حسب مزاجك، لو كنت مكانك لن أقوم من على المكتب، اشتغل.

أشاح ببصره بعيدًا، ينظر إلى العمارات العالية، كنت فَرِحًا باقتراب صدور الكتاب، مُتحمسًا، ووجدت صدى كلماته يتردد في كياني: «عنده حق». حمَّست نفسي وقلت سوف أعمل بكل ما أملك من طاقة.

بعد ذلك اليوم بثلاث سنوات رحل أخي عن الحياة، وبقيت تلك الظهيرة شاهدًا على أنه كان هنا، شاهدًا على محبته ورغبته في الحياة، تلك الرغبة التي لا تموت إلا عندما يغمض الجفن.

هناك خط غير مرئي يفصل الموت عن الحياة، يكون أخوك معك الآن ثم لا يكون موجودًا في الآن نفسه، وهو مُمدد في فراشه مفتوح العينين. تيبس الوجه على حالة واحدة. لم يعد يمت إلى الحياة الآنية هكذا بكل بساطة. وجه له ملامح أخي الصغير، يظهر عليه شحوب الموت.

في اللحظة الفاصلة تلك، على سريره في غرفته، وفوقه مُعلقة على الحائط صورة زواجه، مفتوح العينين، مستغرق في النظر إلى هناك، إلى اتساع الأبدية، رأيت ملامح وجه أبي، نفس الملامح، نفس الشخص، إنه هو الأب، له نفس الأنف والجبهة التي تسري فيها خطوط ثلاثة تقطعها من اليمين إلى اليسار، ومنبت الشعر متراجع قليلًا، نفس الشعر الأصفر، الفارق أن وجه الأب كان به لمسة نحاسية من شمس الغيطان، وأخي بوجهه لمسة شاحبة من ظلال شقق القاهرة.

غابت روحه فظهر الأب من الداخل؛ الأب الذي حضر في كلامنا في تلك الظهيرة عندما وقعت عقد كتابي، ونقاشنا عن أننا لا بد أن نتلافى أخطاءه ونصنع حياة أكثر فاعلية.

الآن كفت الفاعلية عن السريان في جسد أخي، وعيناه المفتوحتان لم تعودا تحدقان في مكان، رغم أنهما تنظران، لم يعد حسه بالحياة موجودًا، ولكي أصدق أنه رحل، تجاسرت ومددت يدي لأسبل له جفنيه. تراجعت قليلًا عن السرير، وقد شعرت بالرعب، فقد رأيت ملامحي تطل من ملامحه كأنني أنظر إلى نفسي في المرآة.

أساطير الثورة

مات بطلق ناري في شارع محمد محمود يوم 20 نوفمبر.

يقول الخبر في الجريدة.

عامل لحام شاب. عندما حملوا جسده عثروا في جيب بنطاله على وصل من صيدلية بأنه اشترى قطن وشاش للمستشفى الميداني. لا أظن ذلك الشاب اهتم بشيء قدر اهتمامه بمنع قوات الشرطة من التقدم، ربما جاءت تلك التفصيلة من خيال مُحرِّر الجريدة، رغبةً منه في إضفاء طابع عاطفي على موت شاب.

إنه نفس المنبع القديم الخفي لخلق المقدس والرغبة في مفارقة حياتنا العادية. لا يمكن أن تمر الحياة دون أن نعاين ولو مرة واحدة فكرة البطولة، نعاينها ونراها مُجسدة في جسد عامل لحام كان أشجع من فكرتنا عن البطولة، لأننا أبينا إلا أن نُخلِّده بوصل خيالي من صيدلية لا تعطي وصولات عندما يشتري منها المرء الشاش والقطن.