ألهبت قصيدة الحلاج «والله ما طلعت شمس ولا غربت» مشاعري بشدة، وهيجت وجداني فور سماعها، فأعدتها مرارًا دون توقف، ثم شرعت في سماع العديد من التواشيح الصوفية الأخرى، كان معظمها لفرقة ابن عربي للإنشاد الصوفي مثل «أحبك حبين» و«أدين بدين الحب» وغيرهما من كلمات محيي الدين ابن عربي.

وكعادتي أنني لا أترك شيئًا دون تفسير، مكثت أتأمل هذه الحالة، ما الذي يحدث لي بالضبط حين سماع تلك الأشعار؟، وما الذي بها حتى تثير وجداني سريعًا لهذا الحد؟، وبما أنني مهتم بمجال الفكر إجمالاً، فبداهة شغلني تكوين رأي شخصي تجاه هذه القضية، حتى يتحدد على أساسه موقفي تجاهها قبولاً أو رفضًا أو أمرًا آخر أكثر إنسانية وأقرب لمفهوم المُكَابَدة الذي أحيا به، آملاً به أن تتشرب جميع ذراتي بدين الله خلوصًا إليه وتصطبغ بصبغة الله توحيدًا له.

ما شعرت به إزاء استماعي الكثير من هذه القصائد، أنه نعم المشاعر تهتاج ولكن في الوقت نفسه أشعر بعدم الراحة، وتساءلت: كيف يجتمع هياج الوجدان مع وخزة عدم الاطمئنان؟، تبادر إلى ذهني أن عدم الراحة قد تكون بسبب تلك العبارات الموهمة في القصائد مثل بيت الحلاج:

ولا هممت بشرب الماء من عطش :: إلا رأيت خيالاً منك في الكاس

ولكنني – بحكم تكوني – لا يستقر تأملي عند المستوى الأول من التحليل إيمانًا مني أن الكَبَد بحاجة إلى إعادة نظر ثم إعادة نظرة في إعادة النظر وهلم جرا؛ لأنه كي يشق الإيمان في القلب لا بد من عملية حفر وتعبيد له، ولا يتم ذلك إلا بقناعات ترسخت بعد عملية شاقة من التعبيد والحفر، وبها تترك كل عملية مكابدة للفهم أثرًا لا يمكن محوه، وعليه يمكن للإنسان تحمل مسئولية اتخاذ قرارات أخلاقية يتحمل تبعاتها إيمانًا منه أنها تخص دينه هو، وأنه مسئول أمام ربه عما عُبِدَ في قلبه من فهم وما حفرته تلك العملية في وجدانه من مشاعر مستقرة.

وبعد تأمل وجدت أن هناك نوعين من المشاعر: مشاعر أولية، وهي سريعة الاستثارة، قوية المفعول، وسريعة التطاير أيضًا شأنها شأن عطر الياسمين المرَكّز، سرعان ما تنتشر في الجو، ويظهر ريحها بمجرد فتح الزجاجة، وتزكي الأنف مع أولى طلائع الرذاذ المنتشر في المحيط.

أما النوع الآخر، فهو ما يتكون على آثار تراكم العلاقات الواعية القائمة على المسئولية، يكون صاحبها على وعي ودراية بذاته «الجوانية» أثناء القيام بالأعمال المقامة وفقًا لمقتضيات هذه العلاقة، وإذا كانت المشاعر الأولى كعطر الياسمين المرَكّز، فمشاعر الثانية شأنها شأن الياسمين نفسه. قد لا تعطي الرائحة نفسها، ولا تزكي الأنوف فور سريانها، بل قد تذبل، ولا يرجى منها النفع حين ذبولها، ولكن الفارق بينها فرق الجسد الحقيقي – وإن كان عليلاً – والجسد الماكيت المصنوع لأغراض الدراسة.

وإذا أسقطنا هذا الفهم لطبيعة المشاعر على أشعار المتصوفة لوجدنا أنها تخاطب هذه المشاعر الأولية سريعة المفعول والتأثير؛ فهي تلهبها سريعًا، ولكنها أشبه بحالة الحب العذري، غير القائم على معنى المسئولية، في حين أن المشاعر المتولدة على إثر المُكَابدات وفقًا لعلاقة حية متجددة بالله سبحانه وتعالى شبيهة بشعور الشخص المتزوج – ولله المثل الأعلى سبحانه – قد لا يشعر بزوجته كما شعر مجنون ليلى بليلاه، فلا يثار وجدانه مثله، ولكن العلاقة بها من مساحات الثراء والتنوع ما هو أدعى لحقائق الحياة، أشمل لمساحات الابتلاء المختلفة، كالصبر على العسر، والشكر في اليسر، كتقوى الله عند الغضب، وتذكره في الفرح، …إلخ.

وبعد ذلك، تطرقت في التأمل إلى هل يمكنني مثلاً مناجاة الله على طريقة الأشواق الصوفية؟، فوجدتني أيضًا لا أرتاح لذلك استنادًا على ترسخ فهم سابق لدي عن مفهوم البيان؛ فالبيان حين ذكره الله في القرآن، أقرنه مع خلقه – سبحانه وتعالى – للإنسان في قوله تعالى: «الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان» (الرحمن 1-4).

فالبيان كالخلق، فهو معجز من جهة، ولكنه نقصان من جهة أخرى، لذا فكل بيان مهما بلغ من البلاغة والدقة والشاعرية فهو نقصان، وهذا فعلاً ما أشعر به في البيان الإنساني إجمالاً مهما بلغ من الجمال والسحر، فأجدني قادرًا على رؤية مواطن القصور فيه، وقدرتي على تفكيك النص تجعلني لا أثق فيه ثقة كاملة.

ولا أنفي أشواق المتصوفة، فقلبي يتحرك بالأشواق، لذا أقدّر جدًا ما قيل منهم مما قرأته أو سمعته، وأشعر بتلك السبحات في عالم الملكوت، برغم ذلك أؤمن بأن «ليس كل ما يُعرَف يُقَال»؛ فمساحة الوجدان الإنساني سر من أسرار الله عز وجل؛ فهو صوت الروح، وترجمان القلب، لذا أرى أن عملية توليد تلك الأشواق في قفص اللغة سيكون مآلها النقصان حتمًا، كما هو في حال تجسد روح الإنسان في قالب الجسد. فمثل تلك المشاعر والأشواق تتفلت حين تحاول حبسها في القوالب اللفظية، وفي تقديري أنه أدعى تركها في حيزها الطبيعي.

البيان البشري نقصان كما قلت، لهذا أجدني أميل لترجمة هذه الأشواق بالمأثور من الأدعية النبوية والقرآن الكريم؛ لأنهما أشمل وأحوط ما يعتمل في خلجات نفسي. فأجد جماع الأمر مثلاً في الدعاء المتواتر، حين يلتهب الشوق داخلي لله عز وجل، وبهذا لا أنكر على نفسي شوقي الفطري لله، وأضمن له التمدد والاتساع بدلاً من تكبيله في قوالب لفظية تحول دون سريانه وتدفقه على أقل تقدير.

قال لي أحد أساتذتي إن شجر البرتقال حتى يكتمل نموه تنبت في أعلاه «شوشة»، وهي جزء ضيق المساحة تنبت فيه بعض ثمار البرتقال، وغالبًا ما تكون تلك الثمار من أجود الثمر؛ فهو أكثره تعرضًا للشمس. وبرغم ذلك، تُقطَع هذه «الشوشة» لأنها تحجب الشمس عن بقية الشجرة، ويكون ضمان توزع أشعة الشمس على محيط هذه الشجرة بأكمله هو بتر هذه الرأس.

وهذا المثال ينطبق على من يقيم دينه – جله أو كله – على مثل تلك المشاعر، مثله مثل من يستغني بالياسمين ويستخدم عطره دومًا، فتلك الحالة – وإن كانت توهم بإمكانية الاستغناء عن غيرها – خطيرة إن استفحلت؛ لأنها لا تُبنى على أهم ركائز المعاني في الإسلام بعد أركانه الخمسة ألا وهي المسئولية.

ولعل مقولة النفري: «اللهم إني أعوذ بوجدك من فقدك» خير تعبير عما أقول؛ فالإنسان قد يفقد علاقة حية مع الله قوامها المسئولية بحالات الوَجد الرذاذية المجيشة للمشاعر الأولية المتطايرة.

هل هذا يعني أنني أرفض التصوف أو التغني بالشعر الصوفي؟، بما أنني أرفض الثنائيات الحادة وأجدها آلية مخالفة للمنظور الشرعي الإسلامي القائم على سعة تصوره، أجد أن القضية لا تطرح على هذا النحو؛ فالاستماع للأشعار ذات المعاني النبيلة ليس من المحرمات، كما أنني أتبنى فتوى الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله في المعازف في كونها من المُبَاحات المسكوت عنها؛ أي أنها مباحة نعم ولكن بوعي ومسئولية دون سرف أو إلهاء، وأرى أن هذا الميزان الشرعي خير ما يعبر عن شعوري الشخصي تجاه تلك القضية إجمالاً.

أما عن العبارات الموهمة في أشعار الصوفية، فأتفق مع الشيخ علاء عبد الحميد في قوله: «لولا المجاز لكفر الشعراء جميعًا»، وأضيف ولولا إدراك ما في البيان من نقصان لفسق البشر جميعًا. وفي النهاية كل يؤخذ منه ويُرَد إلا رسولنا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وكل ندعو له بالرحمة والمغفرة حتى وإن كان من أكابر الصوفية كالحلاج وابن عربي وغيرهما. وأشعار الصوفية إجمالاً مما قرأته أو سمعته بلا أدنى شك نوع من الأدب رفيع المستوى ذا ذائقة إسلامية مُهذب للنفس مقارنة بغيره من غثاء هذه الأيام.

والله أعلم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.