جاء عدوان قطعان المستوطنين على بلدة حوَّارة جنوب نابلس لتؤجج اشتعال التوتر في الضفة الغربية؛ حيث هاجم مئات المستوطنين البلدة، وقتلوا فلسطينيًّا وأحرقوا العشرات من السيارات والبيوت والمحلات التجارية التي وجدوها في طريقهم. 

وأتت هجمات مجموعات المستوطنين الإرهابية بطريقة ممنهجة شبيهة بهجمات العصابات الصهيونية الوحشية الشهيرة كالهاجاناه وشتيرن والأرغون، في ظل تواطؤ وتغاضٍ من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.

وبعد هذا الهجوم الذي وصفه جنرال إسرائيلي بالـ «مذبحة» دعا وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، لمحو البلدة! وعقب ذلك شنت القوات حملة اعتقالات في الضفة، رغم أن الوزير المتشدد قال إن الإعلام أساء تفسير كلامه، دون أن يتراجع عن مطالبته بإبادة القرية.

كما دعا النائب البرلماني عن حزب «العظمة اليهودية» (عوتسما يهودت) المتطرف، تسفيكا فوغل، أيضًا لحرق حوارة قائلًا: «علينا إحراق القرى عندما لا يتحرك الجيش»، بينما طلبت منظمة العفو الدولية من تل أبيب تعويض سكان حوارة الفلسطينيين ومحاكمة المجرمين وترميم المباني والبنى التحتية المتضررة.

وأعلنت إسرائيل اعتقال المستوطنين المتهمين بشن تلك الهجمات، لكنها ما لبثت أن أفرجت عن معظهم سريعًا.

ومنذ بضعة أيام تشدد قوات الاحتلال المدججة بالسلاح تطويق نابلس في شمال الضفة الغربية بحواجز تفتيش وإجراءات أمنية صارمة وتفتيش دقيق للمارة.

وأتت تلك الإجراءات الانتقامية عقب سلسلة من المواجهات؛ فبعد ظهور مجموعة عرين الأسود الاستشهادية في نابلس ومحيطها وانتشارها في مدن الضفة ومخيماتها، اقتحم الاحتلال نابلس أكثر من مرة، رغم أنها تابعة نظريًّا للسلطة الفلسطينية، لكن الإسرائيليين يداهمون المدينة من وقت لآخر بحثًا عن عناصر عرين الأسود الذين يشنون هجمات فردية خاطفة ضد الاحتلال.

وأحكم الجيش الإسرائيلي منذ يوم الاثنين حصاره لنابلس، بعد عملية إطلاق نار أدَّت إلى مقتل اثنين من المستوطنين تبعتها هجمات ليلية للمستوطنين.

وتشكل هجمات عرين الأسود كابوس رعب للاحتلال لأنها جماعة لا تفعل شيئًا سوى المقاومة، فلا تربطها اتفاقيات مع الاحتلال، وليس لها حيز جغرافي تسيطر عليه، بل تعاهد أفرادها على اللجوء للمقاومة المسلحة بعد ثبوت فشل المسارات السياسية لديهم.

ولا يمكن للاحتلال التكهن بهجماتها ولا وقفها؛ لأنها تتم بشكل فردي وفجائي، وفي أماكن غير متوقعة مسبقًا، بل يختار المهاجمون أهدافهم وفق المواقف التي تقابلهم، مما شكل تهديدًا كبيرًا للاحتلال الذي ظن أنه استطاع ردع المنظمات الفلسطينية وإسكاتها، فجاءت هذه المجموعة لتُفسد تلك الترتيبات، وأعادت من جديد إحياء ظاهرة العمليات الاستشهادية.

حقبة التطرف الصهيوني

يأتي هذا في عهد صعود غلاة التطرف الصهيوني إلى رأس السلطة؛ فاليوم تقبع أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفًا بزعامة نتنياهو في سدة الحكم، وتشهد خطط الاستيطان انتعاشًا كبيرًا، وتتزايد الاعتداءات الهمجية على السكان العرب العزل بشكل منظم.

فالوزير سموتريتش، ليس فقط متعاطفًا مع المستوطنين، بل هو أصلًا من مستوطني الضفة الغربية المتطرفين الذين يخوضون المواجهات مع الفلسطينيين، وسبق أن تعرض للسجن في إسرائيل نفسها بسبب تورطه في أنشطة إرهابية، وبحكم منصبه تعهد سموتريتش بعدم تجميد للاستيطان ولو ليوم واحد، على حد قوله.

كما أن وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، انتقد اعتقال المتهمين بالإرهاب، ووصف المستوطنين في الضفة بأنهم أبطال، إذ يعد هذا الشخص من أبرز رموز التطرف، ويُطلق عليه مسمى «هتلر إسرائيل»، ويرأس حزب العظمة اليهودية.

ويسير خلف بن غفير جمهور من أشد المتعصبين، فمن ضمن المقربين منه حنامئيل دروفمان، الذي تولى إجراءات تقنين جماعة «التحية لأسراكم» (شالوم أسيرايخ) وتسجيلها كجمعية مرخصة، وهي منظمة تتبنى الدفاع عن المجرمين ممن ارتكبوا فظائع ضد الشعب الفلسطيني كحرق الأطفال مثل المجرم عميرام بن أوليئيل، المتهم بقتل الرضيع الفلسطيني علي دوابشة وأبويه حرقًا بالنار.

ويكفي لتصور مدى غلو هذه المنظمة معرفة أن المنظمات اليمينية المتطرفة الداعمة لليهود الذين تتهمهم سلطات الاحتلال بالإرهاب مثل منظمة «حونينو» المتطرفة تحاول النأي بنفسها عنها لشدة إيغالها في الإرهاب.

ومع ذلك فإن التيارات المختلفة من أقصى اليمين لأقصى اليسار في الكيان الصهيوني لا تختلف فيما بينها على دعم استمرار الاحتلال للأراضي العربية، بل تختلف على التفاصيل والجزئيات ووسائل مواجهة المقاومة الفلسطينية، فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة – حتى التي لم يهيمن عليها غلاة المتطرفين – شجعت الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة التي يطلقون عليها الاسم التوراتي «يهودا والسامرة».

فبحسب منظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية ذات التوجه اليساري، فإن تل أبيب تستخدم المستوطنين كوسيلة غير رسمية لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية.

واستعرض تقرير صادر عن المنظمة تفاصيل نهب المستوطنين لنحو 30 كيلومترًا مربعًا من الأراضي الزارعية والمراعي خلال خمس سنوات، كما أن جنودًا نظاميين يشاركون بشكل مباشر في هجمات المستوطنين بدعم من سلطات الاحتلال، وليس كما يُزعم أن هذه الجماعات تتحدى سلطة الحكومة الإسرائيلية، مما يعني أن الخلافات الظاهرية بين الحكومة والمستوطنين أحيانًا تكون مجرد تقسيم أدوار للتنصل من المسئولية عن تلك الهجمات الإرهابية.

 انسداد الأفق

يعد انسداد الأفق السياسي السبب الرئيسي لاندلاع التوترات في الضفة الغربية؛ فالجيل الفلسطيني الشاب لا يرى سوى عمليات المقاومة سبيلًا في ظل انغلاق أي طريق آخر، فعملية السلام التي بدأتها منظمة التحرير الفلسطينية منذ التسعينيات وأنتجت اتفاق أوسلو لم تثبت نجاحًا ولو بالحد الأدنى، فبعد مرور ثلاثين عامًا لم تلتزم تل أبيب تقريبًا إلا بالتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، في حين تضاعف الاستيطان في أراضي الضفة بشكل هائل.

ولم تحترم تل أبيب بنود الاتفاق مع السلطة وتقسيم الضفة إلى مناطق بعضها تديره الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ومع ذلك ظل الاحتلال كلما اقترب الوضع من حافة الانهيار يسرع باتخاذ إجراءات أمنية واقتصادية لمنع انهيار السلطة التي يريدها ضعيفة أمام جنوده ومستقوية على الشعب الفلسطيني، لذلك كرر الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، تهديداته مرارًا بحل السلطة.

ويقدر الفلسطينيون عدد قتلاهم بـ 64 شخصًا في أول شهرين من عام 2023 إلى جانب 13 إسرائيليًّا في الضفة الغربية المحتلة ومدينة القدس، مما يعكس مدى سخونة الأحداث وصعوبة المشهد الحالي.

وشهدت مدينة العقبة الأردنية مطلع الأسبوع الحالي مباحثات إسرائيلية-فلسطينية، لتهدئة التوترات الأمنية قبل دخول شهر رمضان المبارك، مما أثار استهجانًا في الشارع الفلسطيني لانعقاد اللقاء في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية.

وتمخض اللقاء عن بيان يلزم تل أبيب بوقف بدء مشروعات استيطانية جديدة بالضفة الغربية لمدة تتراوح بين 3 و6 شهور، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، رفض محتوى البيان وتعهد بعدم تجميد الاستيطان.

وتستمر الحكومات الإسرائيلية في دعم الاستيطان بالضفة منذ احتلالها عام 1967، وشيد اليهود عشرات المستوطنات لتضم اليوم ما يقدر بقرابة نصف مليون إسرائيلي يعتبر المجتمع الدولي إقامتهم غير شرعية وتمنع التوصل إلى سلام وتخالف ما وقعه الاحتلال من معاهدات وما صدر من قرارات من الأمم المتحدة، لأن إسرائيل تعمل على تغيير الواقع لفرض حقائق جديدة على الأرض تجعل من أي تسوية على أساس رفع الاحتلال عن الضفة مطلبًا غير واقعي، بالنظر إلى أن الاحتلال يلعب على عامل الزمن ويماطل طالما أن الوقت يمر لصالحه، ويراهن على إماتة القضية بشكل بطيء، وهو الأمر الذي تعمل مجموعات عرين الأسود على مقاومته وتكبيد الاحتلال ثمنًا مؤلمًا له.