عفوًا، فإني إن رثيتُ فإنّما أرثي بفاتحة الرثاء رثائي عفوًا، فإني مَيِّتٌ يا أيُّها الموتى، وناجي آخر الأحياء

هكذا رثى الشاعر أحمد مطر ضمير الثورة الفلسطينية، الفنان الكاريكاتوري ناجي العلي، الذي كان يوصف دائمًا بأنه كان بسيطًا، طيبًا، عميقًا، عنيدًا، صابرًا، ثرَّ العطاء.

كل شيء كان ينغرس في أعماقه، إنما يعود ليتفجر على (صفحته) بشكله الأصلي دون مواربة أو مجاملة أو تجميل.

كان ناجي العلي هو التمثيل الحقيقي للأرض التي تتنكر في هيئة إنسان.


ابن الشجرة وضمير الثورة

ولد «ناجي سليم حسين العلي» في قرية الشجرة الواقعة بالقرب من طبريا، وقد لُقب بـ «ضمير الثورة»، ولا يُعرف تاريخ ميلاده بالتحديد ولكن يُرجح أنه ولد عام 1937، وهاجر مع أهله عام 1948 إلى جنوب لبنان وعاش في مخيم عين الحلوة بعد الاجتياح الإسرائيلي، ثم هاجر من هناك وهو في العاشرة من عمره، ومنذ ذلك الوقت لم يعرف ناجي الاستقرار أبدًا.

حيث مكث مع أسرته في مخيم عين الحلوة بجنوب لبنان، واعتقلته القوات الإسرائيلية وهو صبي لنشاطه، وكذلك تم اعتقاله أكثر من مرة في ثكنات الجيش اللبناني، فقضى أغلب وقته داخل الزنزانة يرسم على جدرانها. وقد سافر ناجي بعد ذلك إلى طرابلس وحصل من هناك على شهادة ميكانيكا السيارات.

لقد كانت مهمة الكاريكاتير عند ناجي العلي هي كسر حاجز الخوف بين السلطة والناس.

وفي أثناء زيارة الأديب الصحفي غسان كنفاني لمخيم عين الحلوة، اطلع على بعض رسومات ناجي الكاريكاتورية، وأعجب بها، فقرر أن ينشر له بعض رسومه، وبالفعل قام غسان بنشر أولى لوحات ناجي، وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوّح، وقد نُشرت في مجلة «الحرية» العدد 88 في 25 سبتمبر 1961.

في عام 1963 سافر ناجي إلى الكويت ليعمل محررًا ورسامًا ومخرجًا صحفيًا، فعمل في الطليعة الكويتية، والسياسة الكويتية، والسفير اللبنانية، والقبس الكويتية، والقبس الدولية.

وقد أصدر ناجي ثلاثة كتب في الأعوام (1976، 1983، 1985) ضمت مجموعة من رسوماته المختارة، وكان يتهيأ لإصدار كتاب رابع لكن وفاته حالت دون ذلك.

وشاركت رسوماته في عشرات المعارض العربية والدولية، وحصلت أعماله على الجوائز الأولى في معرضي الكاريكاتور للفنانين العرب، أُقيما في دمشق في عامي (1979، 1982)، وقد اختارته صحيفة أساهي اليابانية كواحد من بين أشهر عشرة رسامي كاريكاتير في العالم.

وقد نُشر أكثر من 40 ألف لوحة كاريكاتورية لناجي طيلة حياته، ما عدا المحظورات التي ما زالت حبيسة الأدراج.


ريشة العظم البشري

لقد كانت مهمة الكاريكاتير عند ناجي العلي هي كسر حاجز الخوف بين السلطة والناس، فقد وصفته مجلة التايم قائلة «هذا الرجل العظيم يرسم بالعظم البشري»، فكانت ريشة ناجي الذي أراد أن يعبّر بها عن الأوضاع المأساوية لبني جلدته وغيرهم ممن عانوا من ظلم الحكام العرب، كانت توحي بأنه يرسم بالعظم البشري؛ لأنه كان يجسد معاناتهم، ويصف ما كانوا يمرون به من محن ببراعة لم تعهدها الشعوب في الفن الكاريكاتوري من قبل.

وقد جسد ناجي صور المعاناة تلك من خلال عدة شخصيات بارزة وثابتة، كان دائمًا يستخدمها للتعبير عن واقع المجتمع المؤلم، فقد استخدم شخصية رجل تبدو على ملامحه الطيبة والسكينة، ولم يحدد له ناجي اسمًا ثابتًا أو محددًا، فمرة يُدعى «العم عباس»، ومرة «أبو حسين»، ومرة «أبو الياس»، ومرة «أبو جاسم»، ومرة «أبو أحمد»، ومرة مارون، ومرة محمد،… إلخ.

هذا الرجل النحيل الجسم، الحافي القدمين، يرتفع بقامته الطويلة المرقعة الثياب ووجهه المهموم، ليرمز للرجل العربي الفقير البسيط الطيب المكافح الذي لا يعرف الكذب والتملق، المواطن العربي بجسمه الوطني والقومي وإيمانه العميق بأمنه وتاريخه وقضيته المركزية معبرًا عن ذلك الإيمان بالعديد من المواقف الشجاعة والتي يواجه بسببها علاوة على شقائه القائم بالسجن والتعذيب والنفي والقتل، المواطن العربي ليس بمعاناته وسجنه وموته بل ورفضه ونضاله وأمله.

«هذا الرجل العظيم يرسم بالعظم البشري»، هكذا وصفت مجلة التايم ناجي العلي، الذي عبرت ريشته عن الأوضاع المأساوية لبني جلدته.

إنه صورة واحدة وشخصية واحدة لأسماء عديدة من مختلف أنحاء الوطن العربي، شخصية تعلن انتماءها ووفاءها للوطن والشعب والأمة، وتبغض وتدين الطوائف والطائفية والمذهبية، تمامًا كما ترفض الاعتراف بالحدود المصطنعة بين الأقطار الغربية وتتمنى زوالها لأنها تدفع من حريتها وكرامتها وحياتها بسبب هذه الحدود.

فهو الفلسطيني المشرد والمقهور والمناضل والمعتقل والمغدور والمقتول، وهو اللبناني المشرد في وطنه والفقير المكافح والقتيل، وهو المصري الكادح المحب لمصر والعروبة، وهو الخليجي والسوداني والعراقي والانتماء الوطني والوعي القومي.

إنه الشهيد في العديد من لوحات ناجي العلي الذي يتم اغتياله بسبب الشعارات الوطنية والقومية التي يكتبها ويصرخ بها.

وقد كانت هذه الشخصية لها نقيضها الثابت، والتي جسدتها ريشة ناجي برجل متكرش مبطون يلبس ربطة العنق والطقم الغربي ويعيش في الفنادق الفخمة ويشرب السيجار ويحتسي الخمر، إنه «أبو باصم» الجشع الطماع صاحب الأموال المتنقل بين الدول الأوروبية والولايات الأمريكية طالبًا الاستجمام، إنه أبو باصم الذي لم يعرف معاناة الرجل الطيب وعذاباته، هو النموذج المنسلخ عن وطنيته وأهله وشعبه وقضيته، وهو الشريحة التي لا تتحقق إلا على حساب الوطن والمواطن.

وقد كان لدى ناجي شخصيات أخرى رئيسية تتكرر في رسومه، شخصية المرأة الفلسطينية التي أسماها ناجي «فاطمة» في العديد من رسومه، وهي شخصية لا تهادن، تتميز بأن لها رؤية شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية وبطريقة حلها، بعكس شخصية زوجها الذي ينكسر أحيانًا في العديد من الكاريكاتيرات، فيكون رد فاطمة قاطعًا وغاضبًا، كمثال الكاريكاتير الذي يقول فيه زوجها باكيًا: «سامحني يا رب بدي أبيع حالي لأي نظام عشان أطعم ولادي»، فترد فاطمة: «الله لا يسامحك على هالعملة».

وقد لعبت فاطمة أدوارًا كثيرة ومتعددة ومختلفة في معظم لوحات ناجي، تختزل صبر ومعاناة المرأة الفلسطينية العربية المناضلة وعطاءها وصلابتها ووعيها وحضورها الدائم في مختلف المجالات ومشاركتها الإيجابية في الحوارات والمواقف.

ومقابل هاتين الشخصيتين أي (فاطمة وزوجها) تقف شخصيتان أخريان؛ الأولى شخصية السمين ذي المؤخرة العارية والذي لا أقدام له سوى مؤخرته، مُمثِلاً به القيادات الفلسطينية والعربية المرفهة والخونة الانتهازيين، وشخصية الجندي الإسرائيلي، طويل الأنف، الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكًا أمام حجارة الأطفال، وخبيثًا شريرًا أمام القيادات الانتهازية.

ومن الشخصيات النسائية التي تمثل النقيض لفاطمة ذات القوام المتناسق والملبس الطويل والمنديل، نجد أم عبد الكادر – المقصود – أم عبد القادر ولكن تخفف القاف إلى كاف باللهجة الفلسطينية كما ورد على لسان شخصيات كريكاتير ناجي العلي. وأم عبد الكادر هي زوجة المقاول الكبير عبد الكريم عبد القادر، تلك المرأة التي تصنف نفسها من سيدات المجتمع الراقي، فهي مبطونة متكرشة، لا تلبس المنديل، وتقص شعرها وتصففه وفق الموضة وتلبس على الموضة (آلميني جيب) والأحذية ذات الكعب العالي، وتتزين بالخواتم والعقود والأساور الذهبية وتشرب الخمر، وتدخن التبغ.

إنها النقيض تمامًا لفاطمة في مختلف صورها، فهي رمز الجشع والطمع والانحلال، وهي تمثل جوهر حياة المستغلين والمتسلقين والانتهازيين الذين يعيشون في قصور فخمة يلبسون الثياب الفاخرة ويجمعون الذهب، ولا علاقة لهم بالوطن.


أيقونة الانهزام والضعف في الأنظمة العربية

ارتبط اسم ناجي العلي بحنظلة، الشخصية التي ابتدعها، ولاقت قبولاً ورواجًا جماهيريًا كبيرًا، وتمثل صبيًا في العاشرة من عمره، وقد ظهر رسم حنظلة في الكويت عام 1969 في جريدة السياسة الكويتية، وأدار ظهره في سنوات ما بعد 1973 وعقد يديه خلف ظهره، وأصبح حنظلة بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته.

وقد لقي هذا الرسم حب الجماهير العربية كلها وبخاصة الفلسطينية؛ لأن حنظلة هو رمز للفلسطيني المعذب والقوي رغم كل الصعاب التي تواجهه، فهو شاهد صادق على الأحداث ولا يخشى في الحق لومة لائم.

وقد وصفه ناجي العلي بـ «إن حنظلة هو بمثابة الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية».

وقال ناجي في إحدى المقابلات معه «وُلد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائمًا في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء».

وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: «كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبّع».


ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة

لقد كان من الطبيعي أن يدرك العلي منذ بداية حياته الفنية بحسه الوطني وانتمائه السياسي ومن خلال التجربة القاسية التي مر بها منذ كان طفلاً في تلك القرية الشمالية الأثرية «الشجرة»، التي اجتاحها الوباء في العام 1948، أن الحل السياسي للقضية الفلسطينية كما سماه «حل ميؤوس منه»، و«أن ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة».

فقد كانت من أوائل رسوماته في هذا الصدد اللوحة التي يصور فيها سيدة من سيدات الوباء تنشر غسيلها في العراء، وهي مندهشة ومفزوعة من «الشورت« الذي يقطر دمًا، والقميص الذي يرفع «كُمَيه» علامة الاستسلام، وفي يمين خلفية الصورة يشرح حالة الخوف والرعب التي يعيش فيها اليهود. وهذا الموقف السياسي من القضية الفلسطينية هو الموقف الذي تبناه العلي منذ بدء حياته الفنية المبكرة، ولم يغيره ولم يتنازل عنه في المستقبل، فقد كان شعار «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» أحد الشعارات القوية المطروحة في الشارع العربي والشارع الفلسطيني في ذلك الوقت المبكر من الستينيات، وهو الشعار الذي تبناه العلي في رسوماته، وكان أحد محاور تفكيره السياسي والوطني.


الأفكار أولاً

لقد كان العلي مولعًا ولعًا شديدًا بالأفكار الجديدة، التي أراد أن يبثها في وعي المتلقي، فكان رسامًا يهتم بالفكرة أكثر من اهتمامه بالتشكيل، فقد كان يقول «الفكرة عندي أهم من التشكيل والتوزيع».

وقد تأثر ناجي كثيرًا ببعض المدارس الكاريكاتورية المصرية، فنرى الابتدائية في الخطوط واقتراب النسيج العام للوحة فهو في ذلك كان متأثرًا بمدرسة رسامي مجلتي «روز اليوسف» و«صباح الخير» المصريتين، وهو تأثير بيِّن وواضح، حتى أن ناجي نفسه أكد أكثر من مرة بقوله إنه تأثر في مقتبل حياته بالمدرسة الفنية لرسامي هاتين المجلتين، من أمثال أحمد حجازي وبهجت عثمان وصلاح جاهين وغيرهم.

وكذلك تأثر بالرسامين اللبنانيين مثل جان مشعلاني وبيار صادق ونيازي جلول وملحم عماد، كما تأثر بعلي فرزات من سوريا، ومحمد الزواوي من ليبيا، وعلي عبيد من تونس، ولكنه فيما بعد أخذ خطوطه الخاصة، وأصبح لا ينتمي إلى مدرسة فنية خاصة.

وقد أشاد به بعض ممن تأثر بهم وتتلمذ في مدارسهم، فقد قال عنه بهجت عثمان:

إن ناجي العلي أستاذنا جميعًا.
وقال صلاح جاهين فيما بعد أيضًا:

في 29 أغسطس 1987، تُوفي ناجي العلي في لندن متأثرا برصاصة أطلقت عليه في 22 يوليو من نفس العام، في عملية اغتيال لم تتحدد بشكل قاطع الجهة التي قامت بها، ودُفن في لندن، خلافًا لرغبته بالدفن في مخيم عين الحلوة حيث قبر والده. وقد ترك وراءه ميراثًا من الرسومات الكاريكاتورية التي ما زالت تعبّر عن غضب الشارع العربي وكأنه كان يستشرف مستقبل تلك الأمة.


في حضرة ناجي العلي

علمنا ناجي العلي الرسم عندما أصبحنا أساتذة.

فيما يلي بعض أعمال ناجي العلي التي خالدت اسمه في الذاكرة الفلسطينية والعربية:

المراجع
  1. "ناجي العلي"، موقع الجزيرة نت، 12 ديسمبر 2014.
  2. أماني بهجت، "ناجي العلي: صاحب حنظلة لا يموت أبدًا"، موقع ساسة بوست، 23 يوليو 2015.
  3. "بعد 28 عاما على اغتياله: ناجي العلي حي عبر حنظلة ورسوماته الخالدة"، موقع I24 نيوز، 29 أغسطس 2015.
  4. أحمد الخميسي، "ناجي العلي: انتظار الوطن"، موقع البداية، 29 يوليو 2016.
  5. "ناجي العلي"، مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – وفا.
  6. أحمد مطر، "ما أصعب الكلام (إلى ناجي العلي)"، الموسوعة العالمية للشعر العربي.