حبس المراقبون أنفاسهم ترقبًا لوصول طائرة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى العاصمة التايوانية، تايبيه، وهي الزيارة التي حاول الصينيون منعها بكل قوة، وحذروا الأمريكيين من أن «اللعب بالنار» سيقود إلى «عواقب وخيمة»، وأصبحت الطائرة هي الأكثر تتبعًا على مستوى العالم، بأكثر من 200 ألف متابع على موقع «فلايت رادار 24» الخاص بتتبع الرحلات الجوية، بسبب صدور تهديدات غير رسمية بالرد عسكريًا على الزيارة و«إسقاط» الطائرة، واتخذت الرحلة مسارًا جويا بعيدًا فيما وُصف بأنه محاولة لتجنب اعتراض محتمل من قِبل الطيران الصيني.

وفي مقابل تهديدات الصين برد فعل عسكري وأن جيشها «لن يقف مكتوف الأيدي أبدًا»، أكدت وزارة الدفاع التايوانية، امتلاكها القدرة العسكرية والعزم على مواجهة هذا التحدي، وتعهدت بنشر قواتها المسلحة للرد على أي تهديدات، مبينة أن زيارات الضيوف أجانب «موضع ترحيب»، وتجمعت الحشود خارج مطار سونغشان للترحيب ببيلوسي.

بينما ذكرت وسائل الإعلام الحكومية الصين أن مقاتلاتها تحركت إلى مضيق تايوان، وتحركت السفن الحربية والطائرات باتجاه خط الحدود غير الرسمي بين الصين والجزيرة في مضيق تايوان، ووفقًا لمصادر غير رسمية فقد تم حشد الدبابات والمدرعات عبر مدينة شيامن، على بُعد خمسة كيلومترات فقط عبر المياه من كينمن، أقرب الجزر التايوانية للساحل الصيني.

وأعلنت السلطات الصينية، الثلاثاء، فرض حظر مفاجئ على الواردات من أكثر من 100 شركة أغذية تايوانية، وهو ما فُسر على أنه رد فعل على الزيارة، كما أعلنت عن بدء مناورات عسكرية واسعة بالذخيرة الحية بالقرب من تايوان، واحتجت دبلوماسيًا لدى الولايات المتحدة واستدعت سفيرها لديها وأبلغته هذا الاحتجاج.

صين واحدة وتفسيران

بمجرد وصولها كررت بيلوسي التأكيد على الالتزام الثابت لبلادها «بدعم الديمقراطية النابضة بالحياة في تايوان»، وأن هذا التضامن «أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى، حيث يواجه العالم خيارًا بين الاستبداد والديمقراطية».

ففي مقالها على موقع صحيفة «واشنطن بوست» الذي نُشر بالتزامن مع وصولها إلى الجزيرة، قالت بيلوسي إن الزيارة يجب أن يُنظر إليها على أنها «تصريح لا لبس فيه بأن أمريكا تقف إلى جانب تايوان، شريكنا الديمقراطي، وهي تدافع عن نفسها وعن حريتها».

وقالت:

قبل ثلاثين عامًا سافرت في وفد من الكونجرس من الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) إلى الصين، حيث رفعنا في ميدان تيانانمين، لافتة باللونين الأبيض والأسود كُتب عليها: «لأولئك الذين ماتوا من أجل الديمقراطية في الصين» (في إشارة للمذبحة التي نفذها الأمن الصيني في هذا الميدان ضد المطالبين بالديمقراطية) لاحقنا رجال شرطة يرتدون الزي الرسمي أثناء مغادرتنا الميدان، ومنذ ذلك الحين يستمر سجل بكين السيئ في مجال حقوق الإنسان وتجاهلها لسيادة القانون، حيث يشدد الرئيس شي جين بينغ قبضته على السلطة.

وأضافت:

القمع الوحشي الذي قام به الحزب الشيوعي الصيني ضد الحريات السياسية وحقوق الإنسان في هونج كونج.. ألقى بوعود «دولة واحدة ونظامان» في سلة المهملات، في التبت، قاد الحزب الشيوعي الصيني منذ فترة طويلة حملة لمحو لغة أهل التبت وثقافتهم ودينهم وهويتهم، في شينجيانغ، ترتكب بكين إبادة جماعية ضد مسلمي الإيجور (Uyghurs) والأقليات الأخرى، وفي جميع أنحاء البر الرئيسي، يواصل الحزب الشيوعي الصيني (الحاكم) استهداف واعتقال النشطاء وقادة الحريات الدينية وغيرهم ممن يجرؤون على تحدي النظام.

وفي نهاية المقال أكدت بيلوسي التزامها بمبدأ «صين واحدة».

ويعد مبدأ «صين واحدة» الذي أعلنته واشنطن منذ إقامة علاقات دبلوماسية مع بكين لأول مرة عام 1979، من أهم المبادئ التي تسعى الصين لترسيخها، لأنه يعني- وفقًا لها- أن تايوان جزء منها، بينما كانت تايوان (التي تُعرف رسميًا باسم جمهورية الصين) ترى نفسها الممثل الشرعي للصين، وظلت حتى عام 1971 تحتفظ بالمقعد الصيني في مجلس الأمن، وتعترف واشنطن لفظيًا بهذا المبدأ من دون تحديد معنى واضح لهذه الكلمة، وبينما تجتهد في حماية تايوان وتتعهد بالدفاع عنها في وجه أي محاولة من بكين لاحتلالها، فإنها تردد كلمة «صين واحدة» لاسترضاء بكين، ورغم أن الولايات المتحدة قطعت علاقاتها مع تايوان رسميًا كثمن لإقامة علاقات دبلوماسية مع بكين، فإنها أبقت علاقات غير رسمية مع الجزيرة.

وكانت تايوان جزءًا من الصين حتى عام 1949 حينما استولى الشيوعيون على السلطة ففر قادة حزب الكومينتانج بعد هزيمتهم في الحرب الأهلية، إلى الجزيرة، ومنذ ذلك الوقت تتلقى تايوان دعمًا من الغرب، رغم أنها لم تكن ديمقراطية في البداية لكنها مرت بتقلبات سياسية أفضت إلى اعتمادها للنظام الديمقراطي لاحقًا.

واستمرت العلاقات التايوانية «غير الرسمية» مع واشنطن، التي حاولت الموازنة بين الطرفين بحيث لا تصطدم مع بكين ولا تسمح بسقوط تايبيه، فمثلًا لم يتم تضمين تايوان في خط سير الرحلة الرسمي للجولة الآسيوية لوفد مجلس النواب الأمريكي، التي شملت سنغافورة واليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية، رغم أن زيارة تايوان تحديدًا أهم من هذه المحطات لكن رسميًا لا توجد علاقات بين الدولتين، وهكذا تتعامل الولايات المتحدة مع الحساسيات الصينية بهذا القدر من التلاعب والمناورة.

وترى الصين أن زيارة الوفد الأمريكي رفيع المستوى، بمثابة اعتراف ضمني من واشنطن باستقلال الجزيرة التي تعتبرها جزءًا لا يتجزأ من أرضها، وتجاهر بأنها سوف تضمها ولو بالقوة ولن تتنازل عن ذلك أبدًا.

وبالنسبة لواشنطن فإن قضية تايوان لا تعد إلا جزءًا من استراتيجية كبرى لاحتواء صعود الصين، فالهدف الرئيسي من التحالفات الأمريكية في شرق وجنوب آسيا هو ردع الصين ومنعها من الهيمنة على المنطقة كتمهيد لمنازعة الولايات المتحدة على قيادة العالم، ولذلك تحاول حصر بكين في إقليمها وعدم السماح لها بالتوسع جغرافيًا، بخاصة وأن الأخيرة تحمل نوايا استعمارية معلنة خصوصًا في بحر الصين الجنوبي أحد أهم الممرات البحرية العالمية.

الصين بين نارين

ترى بكين نفسها بين خيارين أحلاهما مر؛ فإما أن تسمح بالزيارة ولا تتخذ رد فعل تجاهها، مما يضعف هيبتها في المنطقة ويعزز من مصداقية الولايات المتحدة أمام حلفائها في شرق آسيا بخاصة بعد أن تضررت هذه المصداقية عالميًا جراء تركها حليفتها أوكرانيا تنزف أمام الغزو الروسي بعد أن شجعتها كلاميًا، وفي النهاية لم تستطع إنقاذها واكتفت بإرسال المعونات وفرض العقوبات من دون تدخل فعلي، وإما أن تتخذ بكين رد فعلٍ حاسم يعطي للولايات المتحدة الذريعة المطلوبة للتخويف من التمدد الصيني وتستغله في جهود حشد ما يُطلق إعلاميًا «الناتو الآسيوي» أي تدشين تحالف عسكري بين دول جنوب وشرق آسيا للتصدي للخطر الصيني على غرار تأسيس حلف الناتو في نهاية أربعينيات القرن الماضي لمنع تمدد السوفيت في أوروبا.

ولا تريد الصين إشعال حرب من أجل استعادة تايوان رغم أهميتها القصوى لديها، لأنها ترى أن استعادة الجزيرة مسألة وقت لا أكثر، وما لم يتحقق اليوم سوف يتحقق غدًا بكلفة أقل أو حتى من دون أي كلفة مع تغير الظروف الدولية، وبالقطع لا تريد الولايات المتحدة اشتعال أي مواجهة عسكرية، خصوصًا وأنها منشغلة بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا ولا تريد الانشغال بجبهتين في نفس الوقت، وحتى من دون هذا الاعتبار فإنها لا ترى مصلحتها في الدخول في حرب من أجل تايوان وتريد الإبقاء على الوضع الراهن قدر الإمكان.

ولم يكن أمام الولايات المتحدة رفاهية إلغاء الزيارة بسبب تهديدات الصين، لأن ذلك كان سيُعتبر انهزامًا أمام بكين ويأتي بنتائج عكسية، فالتراجع كان سيرسل رسائل إلى حلفاء واشنطن في آسيا أنها حليف غير موثوق يتراجع أمام التهديدات، مما يدفع هذه الدول للتقارب مع الصين، باعتبارها القوة الأهم في المنطقة.

وعلى الصعيد الداخلي تأتي الزيارة في اليوم التالي لإعلان واشنطن عن مقتل الظواهري زعيم القاعدة في عملية أمريكية دقيقة، مما رفع من رصيد إدارة الرئيس جو بايدن، كما قادت بيلوسي في أبريل/ نيسان الماضي، وفدًا من الكونجرس إلى العاصمة الأوكرانية كييف وهي أرفع مسئول أمريكي زار إلى الدولة المحاصرة، وتقدم هذه الخطوات كلها دعماً للحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه بايدن وبيلوسي وتسهم كذلك في توحيد الصفوف خلفه في وقت أحوج ما يكون إليه قبل انتخابات التجديد النصفي لمجلس النواب في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، فقد أعلن العديد من النواب البرلمانيين من الحزب الجمهوري دعم بيلوسي بقوة في خطوتها الجريئة للتضامن مع تايوان.