عصر النهضة العربية.. هكذا وصف التاريخ العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما حدث اللقاء المباشر للعرب المعاصرين بالغرب في أوج حضارته، حيث شعر العرب بأزمتهم وانطلقت جهودهم في شتى الاتجاهات في محاولة الخروج منها. كان واحدا من بين تلك الاتجاهات، الاتجاه القومي العروبي، الذي كان له حضوره الواسع إلى حد أن وصف العصر كله ونهضته الفكرية بأنه «عربي».

وقد شكلت القومية العربية حركة سياسية واسعة تأسست عليها دول وأحزاب كبرى في العالم العربي. وعلى الرغم من أن تلك الحقبة القومية في النظام السياسي العربي انتهت بإخفاقات تبعها خفوت كبير للتيار القومي؛ إلا أن ماضيها يبرر الاهتمام بحاضرها ومستقبلها.


تكوين نزعة العروبة

يمكن تحديد رافدين تاريخيين للقومية العربية:

الأول: نزوع نصارى الشام إلى تجاوز النزاعات الطائفية مع المسلمين وغيرهم، والاندماج بمجتمعاتهم التاريخية على قدم المساواة. وهو ما فسره نقاد القومية خاصة من الإسلاميين باعتباره مؤامرة نصرانية ضد الأمة الإسلامية (الشيخ عبد الله عزام في «القومية العربية»). بينما يمكن في المقابل تفسير تلك النزعة القومية عند نصارى الشام بالحرص على تأكيد انتمائهم إلى الأمة العربية وإخلاصهم لها.

الثاني: تحول القومية العربية إلى أداة سياسية للتخلص من الاستبداد العثماني؛ الأمر الذي يفسر انضواء عدد من الرموز الدينية في الحركة القومية الأولى كـ الكواكبي وشكيب أرسلان ومحمد كرد علي ومحب الدين الخطيب. فالقومية في تكوينها الأول لم تطرح كمقابل للجامعة الإسلامية وإنما كأداة لها باعتبار العرب هم من بين الشعوب المسلمة قلب الأمة ومركزها.

(1) نصارى الشام وميلاد العروبية

نبتت البذور الأولى للقومية العربية في تربة النهضة التعليمية التي أحدثتها البعثات التبشيرية الفرنسية والأمريكية في سوريا ولبنان منذ أتاح فتح إبراهيم باشا لبلاد الشام (1832) لها حرية لم تحصل عليها إبان الحكم العثماني. وقد تلك المدارس التبشيرية إلى نصارى الشام لغتهم العربية التي كانت قد ضعفت فيهم. برز في تلك الأثناء الأبوان المؤسسان للنهضة الأدبية النصرانية في الشام، وهما: ناصيف اليازجي (1800-1871) وبطرس البستاني (1819-1883).

أطلق اليازجي والبستاني الدعوات لعرب الشام للاتحاد في خدمة لغتهم بعيدا عن الاختلاف العقائدي، وقد أثمرت تلك الدعوات تأسيس عدد من الجمعيات، كان أهمها الجمعية العلمية السورية (1857). وقد ظهرت النزعة القومية بقوة في تلك الجمعية، تجلت في إحدى قصائد إبراهيم اليازجي (1847-1906) التي ألقاها في إحدى الاجتماعات السرية بالجمعية والتي مطلعها:

تنبهوا واستفيقوا أيها العرب … فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب

لكن نضج تلك النزعة القومية وتحولها إلى حركة سياسية واضحة المعالم كان بتأسيس جمعية بيروت السرية (1875) التي دعت بوضوح إلى ثورة شامية على طغيان الأتراك (العثمانيين) مما أدى إلى دخولها في مواجهة قوية مع السلطان عبد الحميد الثاني وسياساته الإسلامية منذ اعتلائه العرش (1876). وقد دعت تلك الجمعية في برنامجها (1880) إلى إقامة دولة مستقلة موحدة في سوريا ولبنان على أسس قومية.

ويمكن النظر إلى جمعية «عصبة الوطن العربي» التي أسسها نجيب عزوري في باريس (1904) باعتبارها امتدادا لتلك الحركة القومية الكبرى في الشام. كما يمكن اعتبار كتابه «يقظة الأمة العربية» (1905) بمثابة العمل الأول بين أدبيات القومية العربية.

(2) العروبة كحل للاستبداد العثماني

أدى انتشار المدارس الأجنبية واتجاه المسيحيين إليها، بل واتجاه البعثات التبشيرية التي تولت الاهتمام أولا بالعربية إلى اعتماد اللغات الأجنبية في مدارسها، إلى انتقال الاهتمام بالعربية والأدب إلى المسلمين الذين فضلوا المدارس الرسمية أو الإسلامية. ويعتبر الكواكبي (1855-1902) هو أبرز من حمل الدعوة القومية من بين المسلمين في الشام. ففي ثورته ضد الاستبداد والفساد العثماني، رأى الكواكبي أن الخلافة ينبغي أن تكون في يد العرب، الذين هم في قلب الإسلام من بين شعوبه العديدة.

ازدهرت الحركة القومية بعد انقلاب تركيا الفتاة على السلطنة العثمانية (1908)، فنشأ العديد من الجمعيات العربية منها: المنتدى الأدبي في القسطنطينية (1909)، حزب اللامركزية في القاهرة (1913). لكن الحركة الأهم تمثلت في «الجمعية القحطانية» (1909) في القسطنطينية وهي جمعية سرية كان على رأسها الضابط عزيز المصري (وقد تولى رئاسة أركان الجيش المصري لاحقا، كما كان أحد ملهمي تنظيم الضباط الأحرار)، والتي طرحت تحول الإمبراطورية العثمانية إلى مملكة ذات تاجين، عربي وتركي، على غرار إمبراطورية آل هابسبورغ في النمسا والمجر. لكن هذه الجمعية سرعان ما حلت نفسها خوفا من الخيانة. لكن عزيز المصري أسس محلها «جمعية العهد» التي جعلها مقصورة على العسكريين.

الجمعية الأهم كانت جمعية «العربية الفتاة» التي تأسست في باريس (1911)، وتكللت جهودها بعقد المؤتمر العربي الأول التي شارك فيها كذلك «حزب اللامركزية» و «لجنة الإصلاح» من بيروت. طرح المؤتمر العديد من المطالب العربية في الإمبراطورية العثمانية، لكن من المهم التأكيد على أنه أبدى حذره من المطامع الأوروبية مما يجعل اتهامه بالتآمر أو الرعونة اتهاما ظالما. وقد اضطر الاتحاديون في تركيا إلى التفاوض مع المؤتمر إلا أن استجابتهم شابها الكثير من التحايل والتباطؤ في تنفيذ المطالب؛ مما أدى إلى تأجج جذوة الحركة العربية. وقد عادت الجمعية مع عودة أعضائها من الطلاب إلى الشام وتحديدا إلى دمشق حيث تعرضوا لقمع وأحكام بالإعدام من قبل جمال باشا والي الشام.


القومية العربية في قلب الحدث.. الثورة العربية الكبرى

كان لجمعيتي «العربية الفتاة» و «العهد» دور كبير في وضع البرنامج السياسي للاستقلال العربي الذي تمثل في ميثاق دمشق (1914) حيث التقوا بـ فيصل بن الشريف الحسين واتفقوا على إقامة دولة عربية مستقلة في العراق والشام والحجاز بدعم بريطاني. وطرحوا علما عربيا كان قد صممه طلاب من أعضاء «المنتدى الأدبي» في القسطنطينية يتكون من ألوان أربعة اقتباسا من بيت شعر للحلي:

بيض صنائعنا، سود وقائعنا … خضر مرابعنا، حمر مواضينا

اتصل الشريف الحسين وأولاده عبد الله وفيصل باللورد كيتشنر في مصر طلبا لدعم بريطانيا إلا أن الأخير لم يبد تحمسا لذلك. إلا أن قيام الحرب العالمية الأولى دفع كيتشنر الذي تقلد منصب وزير الحربية في بريطانيا إلى إعادة التفكير في الأمر، فأوعز بذلك إلى خليفته في مصر السير هنري مكماهون الذي جرت مراسلات بينه وبين الشريف الحسين عرفت بـ «مراسلات الحسين-مكماهون». وبالفعل انطلقت الثورة العربية ضد الأتراك في 1916 وسرعان ما نجح فيصل بن الحسين في اجتياح شمال الجزيرة ثم سوريا وصولا إلى دمشق 1918، بينما احتل الجيش البريطاني بغداد.

لاحقا أعلن المؤتمر السوري العام، أول برلمان سوري، المملكة السورية العربية في 1920؛ إلا أنها لم تدم طويلا إذ سرعان ما نجح الجيش الفرنسي في احتلال دمشق بعد معركة ميسلون مع جيش المتطوعين بقيادة وزير الحربية يوسف العظمة، وفقا لاتفاقية سايكس بيكو بين إنجلترا وفرنسا، والتي أطاحت بوعود بريطانيا للعرب.

وفي مؤتمر القاهرة (1920) الذي عقده وزير المستعمرات الجديد وينستون تشرشل، تقرر تنصيب عبد الله بن الحسين أميرا على الأردن، بينما نصب فيصل ملكا على العراق في (1921) بعد أن فشل الإنجليز في إدارة العراق خاصة بعد ثورة العشرين ضد الإنجليز. بينما خضعت الحجاز في الأخير إلى آل سعود بعد تخلي الإنجليز عن الشريف الحسين.

هكذا كانت عاقبة القومية العربية في مرحلتها الأولى.. أن تلاعبت بها القوى الكبرى، وامتطتها مطامع بعض زعمائها الذين سلموا تعهدوا بتسليم فلسطين للمنظمات الصهيونية كما يظهر في «اتفاقية فيصل-وايزمان» في لندن 1919.

فيصل بن الحسين و حاييم وايزمان أول رئيس لإسرائيل
فيصل بن الحسين و حاييم وايزمان أول رئيس لإسرائيل

الأيديولوجية القومية في السلطة

ساطع الحصري وتأسيس الأيديولوجية القومية

لم تكن القومية العربية على مدى ذلك التاريخ قد بنت أيديولوجيا متماسكة، ولم يكن مصطلح القومية رائجا. ومنذ عام 1920، نجحت النزعة الوطنية المصرية في إحكام سيطرتهم على الحياة السياسية والثقافية في مصر في مقابل غياب النزعة القومية العروبية.

يمكن النظر إلى ساطع الحصري (1879-1968) في ذلك الوقت باعتباره المنظر الأول والأهم للقومية العربية، والتي انتقلت معه من نزعة سياسية إلى أيديولوجيا حداثية علمانية تقوم على رابطة اللغة والتاريخ مع نفي أية أبعاد دينية، متأثرا في ذلك بالقوميين الرومانسيين الألمان كالشاعر هيردر والفيلسوف فيتشه. وقد تصدى الحصري كذلك إلى دعاة الهويات الوطنية كمحاولات إحياء الفرعونية في مصر، وكتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر»، وكذلك أنطون سعادة مؤسس «الحزب السوري القومي الاجتماعي» في سوريا. كما كان للحصري دوره في إضفاء طابع مجابهة الإمبريالية على القومية التي كانت في بداياتها ترى في تركيا وحدها خصمها اللدود كما يظهر في كتاب جورج أنطونيس «يقظة العرب».

كما أن دوره لم يقتصر على دراسة القومية أو إثراء فكرها، بل امتد إلى نشرها عبر مواقعه في السلطة. فقد عمل وزيرا للتعليم في المملكة السورية قصيرة العمر ثم وزيرا للمعارف في المملكة العراقية قبل أن يعود إلى سوريا 1941 ليكون مسئولا عن النظام التربوي والتعليمي فيها. عبر تلك المناصب، عمل الحصري على إلغاء التعليم الديني لصالح التنشئة القومية الخالصة من أية أبعاد دينية. من أهم أعماله: دراسات في مقدمة ابن خلدون، آراء وأحاديث في القومية العربية.

البعث وهواية الانقلابات العسكرية

زكي الأرسوزي (1899-1968) أستاذ فلسفة سوري، أخلص جزءا من حياته لمقاومة الاحتلال الفرنسي والتتريك في لواء إسكندرون إلى أن ضمته تركيا رسميا 1939. استفاد الأرسوزي من أفكار اليسار الفرنسي التي التقى بها عن قرب أثناء دراسته الفلسفة بفرنسا، مما أدى إلى التصاق القومية لديه بالاشتراكية وتحقيق العدالة الاجتماعية والديموقراطية. وقد دعا الأرسوزي إلى تأسيس حزب يبعث الأمة العربية لتؤدي رسالتها إلى العالم. لكن تنفيذ تلك المهمة كان من نصيب ميشيل عفلق (1910-1989) و صلاح البيطار (1912-1980) حيث أسسا حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947 في سوريا، وتأسس التنظيم القطري في العراق 1953.

دعي الأرسوزي إلى المؤتمر التأسيسي للحزب لكنه اعتذر عن الانضمام إليه بحجة أنه يرى التركيز على العمل الاجتماعي؛ إلا أن خلافات شخصية بين الأرسوزي وبين عفلق والبيطار ربما كانت بين تعطيل انضمام الأب الروحي للحزب. وقد امتاز عفلق بتأكيده على علاقة طيبة بالإسلام، ربما نبع ذلك في البداية من طبيعته المراوغة كسياسي، إلا أن بيان نعيه قد أعلن أنه كان قد اعتنق الإسلام قبل وفاته.

وصل الحزب إلى السلطة في سوريا بانقلاب عسكري عرف بـ ثورة الثامن من آذار 1963. وفي 23 فبراير/شباط عام 1966 قامت اللجنة السرية للحزب والتي تكونت من مجموعة من الضباط من الأقليات بقيادة صلاح جديد، وبالتحالف مع القيادة السنية المدنية متمثلة في نور الدين الأتاسي الذي تقلد رئاسة الجمهورية، بالإطاحة بالقيادة التاريخية للحزب؛ قبل أن ينتهي الأمر لصالح حافظ الأسد بعد «الحركة التصحيحية» 1970.

احتوى التنظيم القطري للبعث بالعراق القيادة التاريخية للحزب، خاصة مع سابق الصلة بين عفلق وصدام حسين، خاصة بعد وصول الحزب إلى السلطة عبر انقلاب أحمد حسن البكر وصدام حسين في 17 يوليو/تموز 1968 على عبد الرحمن عارف.

«ميشيل عفلق» مؤسس حزب البعث، والرئيس العراقي «صدام حسين» عام 1979م


هل الانقلابات أداة القومية أم القومية أداة الانقلابات؟

سجل البعثيون رقما قياسيا في عدد الانقلابات العسكرية التي نفذوها ليس فقط ضد خصومهم، بل انقلابات أجنحتهم على بعضها. للنمط الانقلابي أصوله في الفكر القومي، والبعثي منه خاصة، نظرا لأبعاده الرومانسية التي تقدس البطولة والعسكرية (تأثر الحصري بالرومانسية الألمانية)، والتي بلغت ذروتها في فكر الأرسوزي الذي تأثر كثيرا كذلك بالرومانسية النازية. إلا أن ثمة وجه آخر للعلاقة بين القومية من جهة وبين الانقلابيين والمستبدين الذين كانت القومية ورومانسيتها أداة ومبررا مناسبا لسطوتهم الشمولية على الدولة والمجتمع.

أعاقت كذلك النزعة القومية المتطرفة لدى البعث، وافتقاده لكاريزماتية زعامية بحجم عبد الناصر، مشروعه عن التمدد في العالم العربي، فضلا عن عنف أنظمته، مما جعل البعث رمزا لأزمة القومية.


الناصرية.. المشروع القومي الأكثر واقعية

استلهمت أغلب التنظيمات السياسية المصرية (مصر الفتاة، التنظيم الخاص للإخوان، الحزب الوطني جناح فتحي رضوان) في الأربعينات، وفي خضم صراعها مع إنجلترا وفشل الليبرالية المصرية في مواجهتها، نموذج التنظيمات السلطوية الفاشية والنازية. وفي ذلك الإطار ولد تنظيم الضباط الأحرار فكان من الطبيعي أن يستلهم أيضا القومية المتطرفة لذلك النموذج. وبعد عام واحد من الثورة، انطلقت إذاعة صوت العرب ليغزو بها عبد الناصر العالم العربي. وبعد دعاية كبير صاحبت عودة عبد الناصر من مؤتمر باندونج ونجاحه في تجاوز أزمة السويس، تحول عبد الناصر إلى زعيم ملهم بالنسبة لكل الشعوب العربية.

تمثل الناصرية المشروع القومي الأكثر واقعية في نظر الكثيرين؛ حيث نجحت في بناء دولة قوية، وإطلاق مشروع تحديث واسع، وبناء هوية قومية صلبة، وفي طرح موقف صلب من القضية الفلسطينية. فوفقا لنديم البيطار، تحققت الشروط التاريخية الثلاثة للوحدة (تأتي لاحقا) في مصر الناصرية. وحتى المفكر الإسلامي العروبي منير شفيق الذي رأى في الوحدة بين مصر وسوريا 1958 المثل الأعلى لتحقيق الوحدة العربية.

وعلى الرغم من أن عبد الناصر قد أعطى الكثير للقومية العربية، إلا أنها تحملت كذلك خطاياه. يرى بعض القوميين المعتدلين أن عبد الناصر كان ابن عصره، مما يجعله من الظلم أن نحاسبه وفق وعينا المتطور اليوم (عزمي بشارة: تموز يوليو ومهام المرحلة المقبلة، افتتاحية المستقبل العربي، يوليو 2008). وكما أن الناصرية خلفت وراءها تركة من الأخطاء أو الخطايا الثقيلة، إلا أنها تركت أيضا مواقف نبيلة كرفض التطبيع، وحلم الوحدة، وثورة التحديث؛ كل ذلك جعل من عبد الناصر واحدة من الشخصيات الأكثر إثارة للجدل في تاريخنا العربي المعاصر، فهو من نعته نزار قباني بـ «آخر الأنبياء»؛ وهو كذلك من غنى له فؤاد نجم والشيخ إمام: وانشالله يخربها مداين.. عبد الجبار!!


تجديد القومية العربية

(1) الحوار القومي الإسلامي

بعد اتجاه الأنظمة العربية إلى التطبيع مع إسرائيل، وشعور القوميين بضرورة مراجعة نزوعهم الشمولي، كان من الطبيعي أن يتجه بعضهم إلى الحوار مع الإسلاميين. تمثلت المحاولة الأولى لتحقيق الصلح بين القومية والإسلام في كتاب «بين العروبة والإسلام» (1986) للمفكر القومي المصري عصمت سيف الدولة والذي طرح فيه كون الدولة القومية هي نتاج الحضارة الإسلامية بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.

وفي عام 1989 انعقد المؤتمر الأول للحوار القومي الإسلامي بدعوة من مركز الوحدة العربية. وتأسس المؤتمر القومي الإسلامي الذي انتخب المفكر الفلسطيني منير شفيق منسقا عاما له.

(2) نديم البيطار: القومية العلموية

على الرغم من أن المفكر اللبناني نديم البيطار (1924-2014) يحسب من بين أعضاء الجيل الثاني للقومية العربية، إلا أنه يعد كما يصفه عزمي بشارة: «أنضجهم». فقد تركزت جهود البيطار على الانتقال بالقومية العربية من أيديولوجية رومانسية تلتمس شرعيتها في أمة يجمعها التاريخ أو اللغة أو العرق أو الدين، إلى منهجية تسعى إلى تأسيس دولة الوحدة، وتلتمس شروط تحققها في قوانين الوحدة الثلاثة التي حددها عبر دراسته العلمية لتجارب الوحدة في التاريخ في كتابه «من التجزئة إلى الوحدة» (1986) وهي: وجود الإقليم القاعدة، والسلطة المشخصنة، والتحدي الخارجي الضاغط؛ وهو ما يفسر إعجاب البيطار الشديد بالناصرية في مصر كونها تحقق شروط تجربة الوحدة.

من أهم أعمال البيطار كذلك كتابه «الأيديولوجيا الانقلابية» (1982) الذي طرح فيه أن أي تحول تاريخي يحتاج إلى أيديولوجية ثورية، ومن ثم فإن العالم العربي اليوم في حاجة إلى أيديولوجية ثورية تنسف الماضي وتطرح أفكارا وأخلاقا جديدة للعالم العربي.

(3) عزمي بشارة: القومية الديمقراطية

حزب البعث، ميشيل عفلق، صدام حسين
http://gty.im/74015330

يرى المفكر والمناضل الفلسطيني عزمي بشارة (1956-…)، والذي يمكن اعتباره آخر المفكرين القوميين البارزين، أن القومية ليست أيديولوجية وإنما هي تسييس انتماء إلى هوية ثقافية جامعة تقيم جماعة متخيلة، فالقومية عند بشارة ليست عرقا أو جماعة محددة بقدر ما هي هوية ينتمي إليها الفرد انتماء حرا، ومن ثم فهي فكرة حداثية في صلبها.

يرى بشارة ضرورة تجديد الفكر القومي ليتعاطى مع واقع الدولة القطرية، ويقترح لذلك «فصل القومية عن الدولة»، بحيث تنجح الدولة في تحقيق سيادة الأمة عبر المواطنة والديموقراطية، بينما يحتفظ المواطن بحق الانتماء إلى القومية الجامعة كقومية ثقافية متخيّلة (بتعبير المفكر البريطاني بندكت أندرسون)؛ وهذا وحده هو الكفيل بالقضاء على التمزق الطائفي الذي تسبب فيه فشل الدولة الوطنية في بناء الأمة وحالة الحداثة المشوهة التي رسختها النخب الأنانية.

طرح بشارة أفكاره عن تجديد الفكر القومي ودوره في النهوض بالحالة العربية المتردية في العديد من أعماله وعلى رأسها كتابه: في المسألة العربية.. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي (2007). كذلك كتابه «أن تكون عربيا في أيامنا» (2009) الذي ضمنه عددا من أوراقه المتناثرة وعلى رأسها ورقته «تجديد الفكر القومي» التي قدمها في مؤتمر الفكر القومي المعقود بدمشق 2008.


أخيرا؛ تبقى إجابة أسئلة من نوع: ماذا بقي من القومية العربية؟ وأي مستقبل ممكن لها؟ معلقة بعد أن اختفت قواعد التيار القومي، وتحولت القومية العربية إلى خطاب تبرر به الأنظمة العربية المتهالكة تحالفها في مواجهة التغيير. وتبقى القومية مع ذلك إحدى الحلول المطروحة على كل حال، وعلى المستوى الأكاديمي والفكري، أو مستوى النخب السياسية، لمشكلات الواقع العربي الراهن وما يمزقه من طائفية وصراع بين مختلف القوى.