بعد الحرب العالمية الثانية ظهر في إيطاليا تيار «الواقعية السينمائية الجديدة» والذي اهتم بتوثيق الواقع كما هو من دون أي صيغة تجميلية مثل آثار ما بعد الحرب والبطالة والفقر على المجتمع الإيطالي، لذا كان أبطال هذا التيار هم الفقراء والطبقة العاملة وكادرات الأفلام هي الشوارع الحقيقية من دون تجميل أو رتوش.

تأثرت السينما في العالم أجمع بهذا التيار الواعد الذي ولد نتيجة حرب وهزيمة ورغبة فنية صادقة في مُصارحة الذات والهبوط من فردوس الأحلام لواقع المدينة مهما كان الهبوط تراجيديًا وكاشفًا.

عرفت مصر السينما الواقعية منذ الخمسينيات على يد مخرجين مثل «صلاح أبو سيف» و«توفيق صالح»، لكن نكسة 1967 وارتهان جيل جديد للزي العسكري أكثر من ست سنوات حتى نصر أكتوبر 1973 ثم مفاوضات كامب ديفيد وصولًا للسلام، احتاج هذا السياق التاريخي لواقعية جديدة، يبدأها جيل تفتح وعيه على جرح الهزيمة وعلى انتصار منقوص وانفتاح اقتصادي سحق الطبقات الفقيرة، من هنا ولد جيل أطلق عليه الناقد «سمير فريد» لقب الواقعية المصرية الجديدة، أبرز رواده داود عبد السيد ومحمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب.

جيل يهبط من فردوس الكوميديا والرومانسية وقصص الحب لأبطال طبقة متوسطة تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام الانفتاح، من العاشق الوسيم لسواق الأتوبيس ولاعبي الكرة الشراب وسكان حواري الكيت كات.

منح هذا التيار البطولة للمُهمشين والموظفين، لمن عبروا ومحوا عار النكسة لكنهم عادوا لوطن لا يعرفوه، أشباحه أكثر مراوغة وقسوة من عدو يرتدي زي محتل على ضفة القناة، لكن أبرز سمة لهذا التيار أنه بروز هذا الاغتراب بالأخص في علاقة المواطن المُهمش بالمدينة التي باتت معالمها تتغير بزحف الزحام والانفجار السكاني وظهور العشوائيات وعمارات الانفتاح القبيحة كرد فعل منطقي على انسحاب الدولة من كل المرافق، وثقت أفلام الواقعية الجديدة علاقة المواطن المُرتبكة بمكان كان وطنًا آمنًا له لكنه بات يخيفه ويفغر فاه الآن لابتلاعه، تحولت المدينة من كادر خلفية لدراما تحدث لكادر أمامي، لبطل للسرد أهم من الحبكة، لم يعد الشرير السينمائي مجرم قبيح الخلقة بل مدينة واسعة حد ابتلاع سكانها المهمشين أو ضيقة حد خنق المحتمين بها وتكسير عظامهم، فيما يلي بعض تجارب تيار الواقعية الجديدة والتي كان بطلها الأساسي المكان.

الكيت كات: قصر مرايا كابوسي

الفكرة الفلسفية أننا لو أصبحنا جميعًا عرايا في زحام، فلن ينتقد أحد الآخر أو يلومه لأننا جميعًا نشبه بعضنا، وفي موقف واحد، وهذا عري شديد البراءة
داود عبد السيد

في بداية «الكيت كات» يُهدي داود عبد السيد الفيلم بأكمله لمُهندس الديكور«أنسي أبو سيف» في إشارة واضحة لأهم عُنصر في تلك التُحفة السينمائية، المكان.

أراد المخرج تسمية فيلمه «عرايا في الزحام» وهو ما رفضته الرقابة بشدة، ورغم تغيير اسم الفيلم فإن جوهره كان حاضرًا في كل كادرات المكان، تتميز العشوائيات بأنها نمو سرطاني على هامش العُمران، لا يهدف أصحابه لخلق قيمة جمالية أو جعل مساحة العيش مروضة لصالح إنسانيتهم إنما هم مساكين مهمتهم البحث عن جُحر يجعلهم مُنتمين للمدينة ولو قسرًا، تلك الرغبة الحيوانية الصرف في الالتجاء والبيات من دون أي حس جمالي خلقت حواري ضيقة كل شباك فيها يُطل على منزل مُجاور لا براح الشارع، صنع «أنسي أبو سيف» ديكور فيه كل العيون مُتلصصة رغم أنفها على بعضها البعض، يُصيبك الجنون وبارانويا الحصار من المكوث قليلًا في قصر من مرايا حيث انعكاسك في كل شيء، صنع داود عبد السيد هذا التأثير النفسي بأقصى درجاته سُخرية في حارة شعبية.

اسكتش لديكورات الكيت كات
اسكتش لديكورات الكيت كات من معرض أنسي أبو سيف لاسكتشات أفلامه – تم نشره في مهرجان الجونة 2020

يبدأ داود فيلمه برجال يتعاطون الحشيش في دكان نصف مُغلق بينما عساكر السُلطة يسيرون جواره يدخنون لفافات التبغ بلا اكتراث، يؤسس من البداية لمكان متروك لتحلله، مثل جيفة على طريق، لا تعبأ بها السلطة، جولة ليلية لرجل كفيف في الكيت كات يُمكن أن تُسقط في جعبته كل أسرار المكان، همس زوجة تخون زوجها وتُحضر عشيقها لمنزلها، همس ابنه وهو يشكو العنة لعشيقته في بدروم أرضي، تاجر مُخدرات يختبيء في شقة صديقه ليخونه مع زوجته، الجميع عرايا في زحام مكاني يفضح أضعاف ما يستُر، حتى الأعمى الذي يتحسس سيره ستقطع عليه القصص رحلته كقُطاع الطريق.

يهمس الشيخ حسني لصديقه أن جده أسس الكيت كات، في البداية كان براحًا وشجرة كافور ضخمة لا أكثر، بقدر الهزل في العبارة إلا أن الشيخ حسني يُمثل ذاكرة مكان يُشبه الوطن، كان في زمن قديم جنة والآن صار مُستعمرة غير آدمية حلم الجيل الأصغر هو الإفلات منها بالسفر لأي مكان، يمنحنا داود عبد السيد الراحة البصرية من آن لآخر من الكيت الكات الخانق بمشاهد للأبطال في مراكب نيلية، براح يبقى على الشاشة لدقائق معدودة حين تُعاود منه تجد الكيت كات صار أكثر ضيقًا وقُبحًا.

بهذا التأسيس المكاني الكابوسي والخلاب في آن واحد يصير مشهد انطلاق رجل كفيف على دراجة بُخارية مُسرعة، خارج هزليته، هو مشهد انعتاق ولو لحظي، يهمس الشيخ حسني لابنه أنه كثيرًا ما يستيقظ باختناق كأن المكان بأكمله يجثم على صدره ولا يشتهي إلا الطيران بدراجة بخارية، ندرك من ذلك أهمية الحشيش في حياة الشيخ حسني الذي قايض به منزله، فالحشيش هو أجنحة الخيال التي يمكن أن يمتطيها وجدان رجل أعمى للإفلات من سجن المكان ولو للحظات.

بقدر ما يدور صراع الحبكة الظاهري حول نزاع مكاني على منزل يتم بيعه ويود صاحبه إخلاء سكانه، إلا أن المخرج يؤسس للمكان ككابوس هش، سكانه عرايا مهما احتموا بالجدران، كابوس هشاشته لا تنتظر سوى دفعة صغيرة ليصير رمادًا، خطأ عامل نائم جوار ميكروفون عزاء سيفضح الكيت كات بأكمله، يصير العُري المُعاش في العشوائيات والذي صنع في أصحابه عجزهم المقيم وهم يرتدون أقنعة الستر بينما يعرف كل منهم دواخل الآخر، يصير هذا العري حاضرًا باللفظ والصوت.

ينتهي الشيخ حسني وابنه على دراجة بخارية، يقود الجيل الأقدم المُثقل بنكسته الجيل الأحدث لذات الهوة حتى يسقطوا في النيل، لم يصنع المخرج شخصية بطل مُتحدية أو فاعلة أو حاكمة أخلاقيًا على واقعها، إنما شخص عاجز بعاهة حقيقية وعاجزين بعاهات نفسية يتشاركون قصر مرايا عُريهم وهشاشتهم فيه أقرب للبراءة.

فارس خياله وفريسة المدينة

وفي الشارع ..أخطاء كتير صبحت صحيحة
لكن صحيح حتكون فضيحة
لو يوم نسينا وبوسنا بعض في الشارع
صلاح جاهين

يبدأ محمد خان تُحفة «الحريف» بتلك الأبيات لصلاح جاهين، مع مشهد للبطل يجري في الشوارع على وقع أنفاسه اللاهثة، يؤسس خان من البداية للشارع كبطل رئيسي للحكاية، نحن أمام شوارع مدينة قاسية تتسامح مع كل أشكال العدوان، لكنها لا تتسامح مع الحُب والضعف الإنساني، قبلة واحدة أو تمظهر للعاطفة سيجعل تلك المدينة تفترسك.

«فارس» عامل مٌهمش يحيا في غرفة قذرة على سطح بناية أنيقة، يحيا كبثرة قبيحة مُهملة على بشرة نظيفة، لكنه يملك مع المدينة وشوارعها حكايتان، حكاية الصباح وحكاية المساء.

في الصباح هو عامل بسيط يتلقى توبيخ مديره وزوجته، في سيره بالشوارع، في تناوله الإفطار على عربة فول، في جلوسه على القهوة، هو صعلوك صغير في كادر كبير.

أما في المساء حين تغفو المدينة ويستيقظ الصعاليك، تُعلق الأنوار ويحضر الجمهور ويُقام مهرجان للبسطاء، يصير فارس البطل والحريف الذي يُراهن عليه الجميع، في كادرات اللعب تنظر الكاميرا لأعلى نحو فارس فيكاد يبدو عملاقًا، أكبر من قدره ومن مدينته، إله صغير ولو كان قيوم فقط على مساحة ملعب حدوده الطباشير الأبيض ومركزه كرة شراب ممزقة.

تلك المفارقة بين حكاية الصباح والمساء هي جوهر قصة خان، رجل يركض في شوارع المدينة، لهاثه أنفاس متسارعة، لا تدري من يُطارده؟ لا أعداء له ولا أصدقاء كذلك، تُدرك في النهاية أن المدينة هي التي تحتويه وتطارده، يبدو مثل فريسة تركض في بطن الوحش، لحظات البطولة الصغيرة في الساحات الشعبية وهتافات الحريف هي ما يحفظ جذوة التمرد والتوازن بداخله، وتُطمئنه أن معدة الوحش لم تهضمه بعد.

أحد أعظم كادرات خان يأتي عندما يعرف فارس بشكل عرضي موت أمه، يقف كنقطة صغيرة وخلفه لوحة إعلانية عملاقة، تبدو كما لو كان يحملها فوق كتفيه، كأن المدينة تسخر من همومه، طفل ماتت أمه ولا يجد مواساة من أحد، لا يحق للفريسة الحداد، يصير فارس بتناقض اسمه مع دوره، فريسة حقيقية عندما تموت امرأة في البناية الأنيقة ويصير هو وجاره الفقير المشتبه بهم المثاليين.

عادل إمام من فيلم الحريف
عادل إمام من فيلم الحريف

في النهاية نعلم أن جاره الفقير قتل الضحية لسرقتها، ورغم وحشية الجريمة وأخذ الجار لأسرته كرهينة لكيلا يسلم نفسه، حتى ينتحر في النهاية، يصعب أن تتوحد مع المجرم الفقير باعتباره مُجرمًا، هو فريسة فيما فعل وفريسة في هروبه وفريسة في موته للفقر.

يقرر فارس في النهاية لعب مُباراة ختامية، يشعر بفروسيته لمرة أخيرة، قبل أن يُقر أنه في معدة الوحش، أن المدينة انتصرت على ركضه، وأن كل كادرات التمرد الصغيرة لا تُفلح أمام سطوة الفقر، الفقير غريب ومُدان ودخيل على القاهرة الحالية، ومُشتبه به أساسي، بينما لو سار بجنون بسيارة مسرعة مُهربة في شوارع المدينة سينال الإحترام والتقدير من الجميع، يكف فارس عن مٌحاربة طواحين الهواء ويستسلم لعصر الانفتاح والتهريب، ينسل من طبقته المستهدفة من المدينة ويحاول اللحاق بطبقة أعلى بمجتمع جعل ثغرات الترقي مرحبة بالآفاقين.

يمكن لفارس أن يسرق وينصب ويحتال في المدينة، لكن لو استشعرت المدينة ضعفه ستبتلعه، هذا قانون الشعر والشارع.

خرج ولم يعد، السقوط في فردوس أبيقور

ربما كانت الشخصيات من الخيال ولكن ثق أن الأماكن من الواقع
محمد خان

في عام 306 ق.م أسس الفيلسوف اليوناني «أبيقور» مدرسة «الحديقة» في أثينا وهي جنة ريفية صغيرة عاش فيها مع أصدقاؤه، تجمع حياتي أخوي فيه الجميع يحيون بشكل أكثر بساطة، ينهلون من اللذات المادية الحاضرة أمامهم مثل الصداقة والمأكل والجنس، بقدر ما طالت تلك المدرسة شبهات الانحلال والفجور إلا إنها تدور ببساطة حول إنسان يتأرجح بين بندول السعادة و الألم، عليه تحصيل السعادة في بيئة تشجع على ذلك وتجنب الألم قدر المُستطاع وإذا جاء الموت على الأرجح لن نكون هنا فلا داعي للذعر.

في «خرج ولم يعد» يحيا الموظف «عطية» في زحام القاهرة، في حياة محددة سلفًا بشكل يشبه عبثية «سيزيف» الذي يدحرج الصخرة لقمة الجبل فتسقط وهكذا، عليه أن يستيقظ كل يوم ولمدة عشرين عامًا يصارع زحام المدينة وغبار الأوراق في المصلحة الحكومية ليصل لمنصب مدير عام وينال السكينة في سن الستين. بقدر رعب الحتمية الكئيبة التي لا فكاك منها في تلك القصة يحيا عطية تلك الحتمية بقبول كئيب، لأنها سيناريو يعرفه كل عاملي القطاع العام في مصر.

جمالية محمد خان هي تحويل السياق لا لنختنق في ساقية المدينة التي تحطم الأحلام على أنغام عدوية وهو يصيح (زحمة يا دنيا زحمة) بل لنسقط مع بطلنا عطية بتغيير بسيط في الحبكة في جنة أبيقورية خارج العاصمة، يذهب عطية لبيع فدادينه الثلاثة ليجد المال الكافي للزواج فيتورط في عالم أبيقوري سعيد البطل فيه هو المكان.

يُصالحنا محمد خان بالكاميرا بعد بداية مزعجة يستيقظ فيها الموظف على صوت رافعة معدنية مفزعة ثم يخرج من جحر الفئران الذي يسكنه في بيت آيل للسقوط ليصل لعمله، نخرج من ضيق العيش لفسحة الأمل في الريف، يتحول شخص بدين تجسد المساحات الضيقة كابوسًا له مثل عطية لنقطة صغيرة في كادرات ريفية ضخمة، لا يشعر سكانها بالزمن ولا بوضعية اللهاث التي تفرضها قوانين المكان على سكان العاصمة، فلو لم تسرع بالسير سيدهسك من خلفك، في الريف يمكنك السير كيلومترات شاسعة من دون استعجال أو ملل.

في كنف الريف يحيا عطية مع أسرة «كمال بك» الذي سيشتري منه الفدادين، تبدو الأسرة أبيقورية بامتياز، تنتقل بتقدير مُمتن من لذة وجبة لأخرى، تستبدل أنغام الراديو بصوت الكروان الصباحي، وتُخفض صوت التلفاز مُتلقية حكاية صامتة لتمنحها من تأملاتها حياة وسيناريو خاص بها.

يُسيء عطية فهم الأسرة ويصفهم بحيوانات غارقة في لذتها وهو سوء الفهم الأثير مع الأبيقورية، ثم يدرك فيما بعد أن جوهر تلك الأسرة ليس اللامبالاة الحيوانية بل العيش في بيئة تُبطيء إيقاع الزمن، بيئة لا تُشجع على اللهاث، بيئة تسمح للمرء بالتوقف وتأمل اللذات الحاضرة، وهذا ما أراده أبيقور من اختراع الحديقة.

يدور الفيلم حول أثر المكان على المرء، وكيف يمكن للهندسة المكانية أن تطبع النفسية البشرية للعالقين في ذلك العُمران؟ يستسلم عطية المتعجل دومًا لإيقاع الريف ولذاته، يصير لأول مرة على وصال مع إنسانيته، لا يتعجل شيء.

يُجسد الفيلم قصة الفردوس لكن بشكل معكوس، آدم سقط من الجنة للأرض عندما استسلم لبشريته وخطيئته فكان لا بد أن تحيا تلك النفس في مكان مُعادل لها، بينما عطية سقط من جحيم العاصمة لجنة الريف، وهناك المكان طبع نفسيته بطابع الفردوس.

الواقعية الجديدة: البطل في وجه اغترابه

حتى لو سقطت المدينة ونجوت أنت، فستظل تحملها بداخلك على طُرقات المنفى، ستصير أنت المدينة
زبيغنيو هربرت

لم تدور الواقعية الجديدة حول الصراع بين الخير والشر إنما حول الاغتراب بعد نكسة الحلم والانفتاح الاقتصادي الذي جعل المصري غريب في واقع أكبر من قدرته على استيعابه ومواكبته، جوهر الاغتراب هو شخص عالق في كادر أكبر منه، لذا كانت المدينة هي المتاهة الكابوسية مثل الكيت كات وهي العمران المتوحش الشره مثل الحريف، وهي الجحيم الذي نفر منه لفردوس الخلاص مثل ريف خان، جدلية الواقعية الجديدة هي جدل المرء مع مكانه الطبقي والوجودي والمادي لذا كان المكان هو بطل تلك الموجة السينمائية، وسؤالها هو كيف تصيغ التحولات الاقتصادية والاجتماعية العمران الذي يصنع المدينة ثم كيف تصيغ تلك المدينة نفسية ساكنيها بشكل ينقذهم أو يحطمهم؟