يطرح الناقد «سامي سويدان» رؤية نفسية لرواية «القاهرة الجديدة» لنجيب محفوظ، يعتمد فيها منهجية التحليل النفسي لسيجموند فرويد للكشف عن اللا وعي الكامن في البنية الدلالية للنص الروائي. يبدأ تحليل النص من خلال إدراك التيارات النفسية المتعددة التي تؤلف وحدته الداخلية، ويحتفظ ضمن هذه البداية بموقع خاص للرفاق الثلاثة (مأمون، علي، محجوب)، فهو يعد تلك الشخصيات «تسميات روائية للبنية النفسية بمستوياتها الثلاثة المعروفة».

يُكرِّس الوصف الذي ذكره محجوب لنفسه أولًا ولرفاقه المواقع المختلفة لكل منهم: «أنا رأسي هواء، والأستاذ مأمون قمقم مغلق على أساطير قديمة، وعلي طه معرض أساطير حديثة». فيُشبِّه الموقع الذي تحتله الأنا [علي] بين خواء اللا وعي من المعنى والمثل، وتشدد القمع والكبت الذي يمارسه «الأنا-الأعلى».

الله في السماء، والإسلام على الأرض، هاكم مبادئي.

يتخذ مأمون من موقع «الأنا-الأعلى» دوره في ممارسة الرقابة والقمع، وينتسب إلى الصورة المثالية للقيم العليا والأخلاق، كـ «أب» بدائي تُصاغ عبره قوانين الكبت والحرمان.

هاكم بطاقتي الشخصية وهي تغني عن كل تعريف: فقير واشتراكي، ملحد وشريف، عاشق عذري.

يمثل علي «الأنا» ذات الوعي الاجتماعي السياسي، التوازن بين الليبيدو (الدافع الجنسي) القائم في اللا وعي، والقمع الأخلاقي القائم في الأنا-الأعلى.

ليكن لي أسوة حسنة في إبليس… الرمز الكامل للكمال المطلق، والثورة على جميع المبادئ.

يُجسِّد محجوب بنية «اللا وعي» التي تُشكلها الرغبات المكبوتة [الجنسية / العدوانية] والرغبة الطفولية الأولى. الليبيدو الذين يعلن نفسه ندًا للأنا-الأعلى في تمثله الواقعي (الأب) والمثالي (الرب).

يشير الناقد إلى ذلك النموذج الأوّلي للصراع قائلًا:

إذا كان الأنا-الأعلى يجد مثاله المطلق في الرب، فإن مثال الليبيدو المطلق قائم في الشيطان، هذا الخارج المطلق على القانون الإلهي.

البنية النفسية للنص

إن ميدان العمل الخاص بالروائي هو تمثيل الحياة النفسية الشاملة للإنسانية.

يبدأ النص بتناول محجوب وهو ينتظر ساعة لقائه بامرأة ليقيم معها علاقة جنسية. ولكنه بدل أن يمضي مع حلول الظلام إلى موعده، يسلك وجهة معاكسة. ذلك أن خطابًا يأتيه من بلدته يُنبِّئه بمرض خطير ألمّ بأبيه. منذ البداية إذن يُواجه محجوب بالكبت، بالقمع الذي يحول دونه ودون تلبية لذته الجنسية، ويرتبط ذلك الحرمان بحضور أبوي يحول دون محجوب والمرأة.

إن الأب يسترجع محله ويتخذ موقعه «الأنا-الأعلى» الذي شغله مأمون في البداية. كما يشير حضور الأب بعد حالة الغياب إلى نوع من العقاب [الخصاء]، يتحدد في الحرمان من المال الذي يتيح للابن ممارسة الجنس.

تتجدد عناصر البنية النفسية للنص بعد التخرج والانفكاك عن دار الطلبة، بظهور سالم الإخشيدي [الشيطان – اللا وعي المطلق] الذي يتيح للليبيدو أن يتجاوز مرحلة الخصاء ويدفع الرغبات المكبوتة إلى التحقق. يتحفّز الليبيدو لتحقيق شهواته، وينتقل من مرحلة العقاب [الخصاء] إلى مرحلة الاستمتاع باللذة المُحرمة، حين يعقد محجوب اتفاقًا مع «الشيطان».

صفقة مع الشيطان

نعلم أن الشيطان يُنظر إليه على أنه عدو الله وقريب الصلة للغاية بالطبيعة الإلهية في آن واحد، لكن تاريخه ليس معروفًا بمثل العمق الذي يُعرف به تاريخ الله.

في عام 1923م نُشر بمجلة «إيماغو» مقال «عصاب شيطاني من القرن السابع عشر»، الذي يُحلل فيه فرويد مخطوطة تسرد قصة الرسّام «كريستوف هايزمان» وخلاصه الإعجازي بنعمة القديسة مريم العذراء من حلف معقود مع الشيطان.

كان سيغموند فرويد قد طرح من قبل فرضيته التي تقول بأن «الإله بديل الأب». الله هو امتداد لصورة الأب التي كان يراها الإنسان في طفولته، أو -على المستوى الأنثروبولوجي– الإله هو انعكاس لصورة أب العشيرة البدائية على النوع البشري في الأزمنة السالفة. لكنه يتقدم في تحليله إلى نتيجة أكثر ثورية، يصل فرويد في نهاية بحثه إلى استنتاج أن الأب هو النموذج البدائي والفردي لله وللشيطان معًا. حيث يقول:

الإله والشيطان كانا متماثلين في الهوية منذ البداية، شخصية واحدة انشطرت في زمن لاحق إلى وجهين لكل منهما صفات متعارضة.

في الأزمنة البدائية للدين كان يتسم الله بجميع القسمات المخيفة التي عُزيت في زمن لاحق إلى نقيضه. فالعلاقة مع الأب تشتمل على تيارين انفعاليين متناقضين، عاطفة الخضوع والحب وعاطفة العداء والتحدي. وهو ما يسميه فرويد «عقدة الأب» حيث يمتلئ الابن بدوافع الحب نحو الأب، وهو في نفس الوقت يبغضه لأنه كان يقف عقبة في سبيل إشباع رغباته. ذلك التناقض الوجداني يُعد ركيزة في البناء الفرويدي، فقد بيّنت له الملاحظة الإكلينيكية وجود عمليات فسيولوجية متعارضة، كمصاحبة الحب للكراهية في العلاقات الإنسانية.

إذن فهذه التناقضات في طبيعة الله البدائية هي انعكاس للازدواجية التي تُهيمن على علاقة الفرد بأبيه، فإن يكن الله الرحيم والعادل بديلًا للأب، فلِمَ يأخذنا العجب إذا ما تجسّد الموقف النقيض -الحقد والكره والتمرد- في اختلاق الشيطان. بذلك يتحلل تمثل الأب المُنطوي على تناقض وتنازع إلى ضدين صارخي التباين، هما الله والشيطان.

مغامرة ليبيديـة

السخط شعور مقدس، أما اليأس فمرض.

يعرض الإخشيدي على محجوب الزواج من عشيقة قاسم بك، إحسان شحاتة، الفتاة التي أحبها قديمًا كما أحبها علي طه (الأنا)، والتي كانت تثير في نفسه شهوة ظل يقمعها طويلًا. يطلب منه الإخشيدي أن يتحلى بقرنين في الرأس، من أجل وظيفة سكرتير بالدرجة السادسة.

يؤكد محجوب صحة المماثلة بين الشيطان والإخشيدي في المونولجات الداخلية التي تُعد مضمونًا لبنية اللا وعي، ماذا يريد الشيطان؟

ويتشارك الإخشيدي مسار إبليس الذي كان يعده محجوب بطلًا ورمزًا للكمال المطلق، وليتحفز محجوب للزواج من امرأة البك، يردد: «ليكن لي أسوة حسنة في الإخشيدي».

عندئذ ظهر له الشيطان مُمثلًا في هيئة بورجوازي محترم، وسأله عن سر اضطرابه وحزنه الشديدين، ووعده بأن يساعده بكل الوسائل ويسعفه.

يلاحظ محجوب في أول لقاء به أن الإخشيدي يتنازل مرة واحدة عن جلاله، وينحني على يد البك في خشوع. «فإذا كان الإخشيدي شيطانًا فقاسم بك هنا إبليسه الذي يحل محل الرب لدى محجوب»، وقاسم بك أيضًا هو رب العمل بالنسبة لمحجوب، يتضمن ذلك إيحاء بسطوة أبوية عليه.

كما تتمتع إحسان كذلك بدور أمومي فهي «ربة البيت العجيب الذي يتنازعه صاحبان». لذا يكون زواج محجوب من إحسان تماثلًا شيطانيًا بالأب [إبليس]، بالحلول محله لدى الأم، وتحقيق أعمق شهوة مُحرّمة قائمة في اللا وعي. تُحقَّق هذه الرغبة في هذا القسم من الرواية، مما يجعل الليبيدو على أحسن ما يكون تألقًا وحيويةً بعد فترة النضب والضعف والذبول التي عرفها في مرحلة الخصاء، ويُشكِّل الانتصار الأكبر للمروق الليبيدي الجامح.

العـقاب/ الموت

ما عسى أن يصنع أناني مثله، لا يهمه في الدنيا شيء إلا نفسه، إذا تألب الشقاء على سعادته؟ أمامه سبيل واحد هو الموت!

تتشكّل عناصر العقاب بدايةً بظهور مأمون (الأنا-الأعلى)، ثم القطيعة بين محجوب وبين الشيطان (الإخشيدي). وتأتي رحلة القناطر لتوحي بنهاية الصراع. حيث يصبح حضور الأب هاجسًا مُقلقًا يتحول مع تأثير الخمر إلى رؤية مرضية.

ها هو ذا والده يملأ الشقة بالفزع.

تأتي زيارة الأب في ختام الرواية لتضع نهاية التفوق الليبيدي على المُثل والمبادئ، وتفرض العقاب على اللا وعي الذي تجاسر لتحقيق رغبة محرمة وممنوعة بالحلول محل الأب القرين (قاسم بك) لدى الأم «إحسان». لذا تأتي فكرة الموت كصيغة من صيغ الخصاء، عقابًا على الجريمة الأوديبية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.