430 مليار دولار من السعودية، و23 مليار دولار -على الورق- من الإمارات، أعلن بها النفط الحرب على 10 مليارات من رومان أبراموفيتش في تشيلسي، وزهاءها من عائلة كرونكي في آرسنال، وعائلة جليزر في مانشستر يونايتد وكل إمبراطوريات المال في البريميرليج.

إذا كنت تعتقد أن استثمار المؤسسات الكبرى ذات الملاءات المالية العالية في كرة القدم هدفه الربح فقط، فربما تحتاج مزيدًا من التكبير تحت العدسة لعمليات الاستحواذ على الأندية في الدوريات الكبرى من قبل مؤسسات متباينة الأغراض والمشارب، الأمر أعمق كثيرًا من الربح المحض.

كرة القدم إلى جانب أنها وسيلة لتنويع مصادر الاقتصاد، باتت أيضًا وسيلة مثالية لتجميل شكل أي كيان/مؤسسة يبدأ من قائده وينتهي بالدول الراعية له، تحت هذا المجهر تستطيع أن تفهم كثيرًا مما يلف صفقة الاستحواذ السعودي على نادي نيوكاسل يونايتد، حديث الصباح والمساء في إنجلترا.

لماذا بُعثت الصفقة؟

دعنا ننطلق من الإجابة على سؤال هام: لماذا انصاعت رابطة الدوري الإنجليزي وتشريعاتها لصفقة استحواذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي بعد فشل مخطط الصفقة العام الماضي؟

هل تتذكر حرب 1973؟ تمامًا، كان النفط مربط الفرس حين قالت السعودية كلمتها وأمسكت كل مساندي إسرائيل في الحرب من اليد التي توجعهم، النفط الذي تمتلكه السعودية إلى الآن ولا يمتلكه العالم تسعى المملكة إلى السير في دروب أخرى لاستبداله، فهو لا محالة منتهٍ، السعودية تملك خيارات كثيرة سياسية واجتماعية ومادية في منطقة الشرق الأوسط، لذا كان لابد من تهدئة يدرك الجانب البريطاني كنهها جيدًا.

تهدئة أوعز إليها العالم أجمع حين كان يستقبل الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، وانتهت باتفاق العلا في المملكة العربية السعودية الذي أعاد العلاقات الدبلوماسية بين ما أطلق عليه «دول الحصار» وقطر، وبالتالي حدثت حلحلة لملفات رياضية كانت عالقة في خضم هذا الخصام، من أبرزها صفقة الاستحواذ السعودي المرغوبة على نادي نيوكاسل.

أنهت السعودية «التي أنكرت ضمنيًا ضلوعها في قرصنة بث قنوات بي إن سبورت» عبر قنوات «بي آوت كيو» والتي كان من ضمن ما قرصنته مباريات البريميرليج، عملية قرصنة ضغطت قطر كثيرًا كي لا تتم صفقة الاستحواذ السعودي على نيوكاسل بسببها، وكان السبب وجيهًا لدى عوالم تخطت مسألة القرصنة منذ زمن بعيد.

لم تكن القرصنة وحدها هي العائق، الدوري الإنجليزي الذي يكرس افتتاحيات عدة وشارات قيادة وغيرها وعلامات مختلفة ولافتات ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل دعم حقوق المثليين، كان مستهجنًا أن يسمح باستحواذ منتمٍ لدولة لا تقف على نفس المسافة إطلاقًا فيما يتعلق بحقوق المثليين والمتحولين جنسيًا.

وفي عالم بات يرى أن المال هو مرادف تمرير الأفكار أو تثبيت دعائمها، لم يكن أحد مستعدًا لطرح يفرض ارتداء لاعبي نيوكاسل على سبيل المثال شارات لدعم المثليين بألوان قوس قزح، بينما يستحوذ على نادٍ إنجليزي صندوق به 6 وزراء سعوديين إلى جانب ولي العهد محمد بن سلمان ومالك حالي -ياسر الرميان- هو نفسه رئيس مجلس إدارة شركة أرامكو عملاق النفط السعودي، وذلك بعد 5 أعوام فقط من إدانة الأمم المتحدة للحكومة السعودية حول ملف حقوق المثليين.

أضف إلى هذا كل ما استهجنه العالم خلال السنوات الأخيرة من السعودية حول سياستها الداخلية والخارجية بشكل عام، بدءًا من مقتل الصحفي جمال خاشقجي تقطيعًا، مرورًا بحرب اليمن وإشكاليات عقوبة الإعدام وكل ما لم يكن العالم مستعدًا لتمريره في نادي كرة قدم في دوري بحجم البريميرليج.

نصف تريليون دولار تفعل كل شيء!

لكن استثمارًا بملاءة مالية تقترب من 430 مليار دولار له ما يبرر وجوده تحت أي ظرف، خصوصًا إن اقترن بإنقاذ اسم تاريخي مثل نيوكاسل من الإفلاس بعد سنوات عجاف سيتحول بعدها بكل تأكيد إلى نموذج أكثر بذخًا وأشد غنى من نادي مانشستر سيتي، رافعًا القيمة الفنية والتسويقية للبريميرليج دون أدنى شك.

لذلك، مع إعطاء الحكومة البريطانية الضوء الأخضر لرابطة الدوري الإنجليزي بتمرير الصفقة، بعد استيفاء المتطلبات السياسية المختلفة، لم يستغرق الأمر إلا بعض الردود النمطية على الانتقادات المنهالة من كل حدب وصوب، حتى صارت أمرًا واقعًا، وتركت الجميع رد فعل داخل إنجلترا.

أندية الدوري الإنجليزي تدرك جيدًا كم من الخطر دخول استثمار بهذه الضخامة على مستوى التنافسية، وعلى موازين إبرام الصفقات، خصوصًا بعد فترة من عدم إنفاق المالك السابق مايك أشلي في الميركاتو، واكتفائه ببيع لاعبيه، مما سيتيح فسحة مادية إلى جانب البذخ المفروض بداهة كي يقوم نيوكاسل بعقد ميركاتو صيفي غير مسبوق، قد تبدأ بعض محطاته من الشتاء.

لم تقف الأندية مكتوفة الأيدي، فبعد عام كامل من التراشق أيقنوا أن «الفأس وقعت في الرأس» وأنه لابد من وقفة رسمية، لكن هل تملك تلك الأندية الكثير لتفعله حقًا؟

لم يكن هناك منفذ سوى الضغط لتغيير بعض القرارات المتعلقة بعقود الرعاية والتي تدرك تلك الأندية جيدًا أن نيوكاسل سيمارس بها ما مارسه قبله مانشستر سيتي من «غسيل أموال ضمني» حين سيطرت شركات كبرى تحت النفوذ الإماراتي على رأس مال النادي -من تحت المنضدة- وضاعفت الملاءة المالية للفريق السماوي دون أي إخلال قانوني -على الورق إلى الآن- يوقع مانشستر سيتي تحت طائلة العقوبة.

المنفذ الثاني يتمثل في فرض قيود جماعية على التعامل مع نيوكاسل في عمليات بيع وشراء اللاعبين، ولكن هذه الورقة لن تكون بذات القوة ببساطة لأن نيوكاسل يستطيع شراء أفضل اللاعبين الذين يريدهم من خارج البريميرليج، وهو النادي الذي يستهدف على المدى القصير ضم لاعبين بحجم كيليان مبابي وإيرلينج هالاند وغيرهما.

حتى لا نجد مانشستر سيتي آخر

الخطوة الأولى تمثلت في اجتماع طارئ لأندية البريميرليج تحت مظلة الرابطة الأسبوع الماضي (تلا اجتماعًا آخر للأندية الـ19 في غياب ممثلي نيوكاسل)، ناقشت فيه الآثار المالية المفترضة للاستحواذ السعودي على نيوكاسل، اجتماع وضحت فيه الصورة تمامًا، هناك جبهتان في الدوري الإنجليزي، الأولى بها 18 ناديًا، والثانية بها ناديان وقرابة النصف تريليون دولار!

عرفت النادي الثاني مع نيوكاسل بالتأكيد، إنه مانشستر سيتي، الذي يعرف تمامًا أن كل عيار يطلق على نيوكاسل حاليًا «يدوش» حتى لو لم يصب، وهو الذي تعرض لذات السهام مرارًا من قبل.

انتهى الاجتماع بتصويت الأندية الـ 18 جميعًا على مشروع قانون يحجّم علاقة الأندية الإنجليزية بما تسمى «الأطراف ذات الصلة» وضمنيًا تعني المؤسسات التابعة لملاك الأندية -من الباطن- أو التي يمكن تسييرها وفق القواعد السياسية، كعقد الرعاية المثير للجدل لشركة الاتحاد للطيران ومانشستر سيتي على سبيل المثال.

رفض نيوكاسل هذا القرار بداهة ودعا إلى مهلة لبدء إقراره -يفترض أن يكون ساري المفعول الشهر المقبل- وفقًا لصحيفة الجارديان، وكذلك انضم إليه مانشستر سيتي، في أول تحرك رسمي مشترك بين أندية البريميرليج لعدم تمرير ما يرونه مسحًا لليد السعودية من آثام عديدة ارتكبت في السنوات الأخيرة وقد يطمس آثارَها تمامًا مجرد فريق كرة قدم.

التأثير الجماهيري أيضًا أمر لابد من وضعه في الاعتبار، صور مشجعي نيوكاسل مرتدين الغترة والشماغ السعوديين ومتوشحين بوجه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، دقت ناقوس الخطر لدى الأندية الإنجليزية حول حدود سيطرة المال على كرة القدم، وكيف يمكن أن يغير ذلك حتى عواطف جماهير نادٍ يمتد تاريخه لنحو 130 عامًا بشكل كلي، وفي غضون أيام.

أبرز من يهددهم نيوكاسل

الأندية الإنجليزية التي عبرت عن عنف أكثر تجاه الصفقة، كانت مانشستر يونايتد وإيفرتون وتوتنهام، من المفهوم جيدًا كيف سيؤثر دخول نيوكاسل بقوة لقائمة المربع الذهبي المحتملة على حظوظ تلك الأسماء الثلاثة بالذات في المشاركة بدوري أبطال أوروبا كل عام.

بشكل أقل حدة -ولو نسبيًا- يمكننا أن نرى ما يمكن تسميته بـ «البيج سيكس» والذين قال تقرير لصحيفة «دايلي مايل» في 12 أكتوبر الماضي، إن عدم اكتراث رابطة البريميرليج لمطالباتهم بشأن تحجيم صفقة الاستحواذ، ستجعلهم يعيدون النظر جديًا في المشاركة بمشروع دوري السوبر الأوروبي الذي ينتظر كلاً من ريال مدريد وبرشلونة ويوفنتوس أي بارقة أمل لإحيائه، و6 أندية من إنجلترا كان انسحابها الفأس الذي استأصل عنق المشروع، ستكون مفاجأة كبيرة بكل تأكيد.

لا يبدو الاعتراض شديدًا خارج حدود تلك الأندية بشكل عام، وإن كانت قد اتخذت كلها قرارًا بعض أسبابه قيَمي لا علاقة له بالتنافسية ولا يفكر إلا من المنظور البريطاني الكلاسيكي حول «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» والتي يرفض كل مواطنيها أي مظهر من مظاهر الاستحواذ والتبعية، والبعض الآخر لا يريد تبني موقف دون الإيمان به لا أكثر، ويرى أن الإنجليز أقرب إليه من العرب فقط لا غير.. وأن فرض أي قيود على الاستثمار وفوارق رأس المال قد يجعلها تجد مكانًا للمنافسة بشكل أكبر، دون اكتراث لهوية المنتصر بين نيوكاسل وقوى البريميرليج التقليدية.