جاء قرار وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، الأربعاء، بالانسحاب من مدينة خيرسون جنوب أوكرانيا، ليمثل دليلًا واضحًا على ضعف الموقف الروسي في الحرب التي بدأتها موسكو في فبراير/ شباط الماضي.

وأثارت أنباء الانسحاب ردود أفعال حزينة وغاضبة من بعض الصقور الروس البارزين، فقد وصف المحلل العسكري بوريس روزين الانسحاب بأنه «أخطر هزيمة عسكرية للاتحاد الروسي منذ عام 1991»، أي عند سقوط الاتحاد السوفيتي، وكتب المدون العسكري المؤثر، يوري كوتيونوك، قائلًا: «القرار صادم لآلاف وملايين الأشخاص الذين يقاتلون من أجل روسيا، ويموتون من أجل روسيا، ويؤمنون بروسيا ويشاركون العالم الروسي في معتقداته».

وزاد من وقع الصدمة أن خيرسون كانت واحدة من أربع مناطق أوكرانية أعلنت موسكو ضمها في سبتمبر/ أيلول، وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن الأوكرانيين الذين يعيشون في تلك المناطق أصبحو مواطنين روسًا إلى الأبد، وأن تلك الأراضي صارت جزءًا لا يتجزأ من دولته، لن يتم التنازل عنها أبدًا، لكنه لم يستطع أن يحافظ عليها لشهرين فقط.

خيرسون: مفتاح القِرم

 يمثل قرار الانسحاب الروسي لحظة فاصلة في حملة أوكرانيا لاستعادة الأراضي التي استولت عليها موسكو بالقرب من بداية الغزو؛ وذلك لأهمية خيرسون من الناحية الاستراتيجية، فهي بوابة شبه جزيرة القرم التي تضم مقر أسطول البحر الأسود الروسي.

وأتي القرار في الوقت الذي تتقدم فيه القوات الأوكرانية نحو مدينة خيرسون من اتجاهين، وتقترب من ضواحيها، وبحلول نهاية يوم الأربعاء، ظهرت مؤشرات على بدء انسحاب الروس من الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها غرب نهر دنيبرو في خيرسون، حيث دخل الجنود الأوكرانيون بعض قرى المواجهة التي كانت تحت السيطرة الروسية في الصباح.

ويُعد الانسحاب الروسي أهم تطور عسكري منذ اجتاحت القوات الأوكرانية منطقة خاركيف الشمالية في سبتمبر/ أيلول؛ فخيرسون هي أول مدينة أوكرانية كبرى تحتلها روسيا منذ بدء الغزو في فبراير/ شباط، كما أنها العاصمة الإقليمية الوحيدة التي استولت عليها روسيا خلال الحرب الحالية.

مأزق الشتاء

وبانسحاب الروس في التوقيت الحالي فإنهم يستبقون دخول برد الشتاء القارس حين تزداد الأمور سوءًا، وتتزايد الحاجة إلى إيصال الإمدادات إلى تلك القوات كالملابس الشتوية والوقود والطعام، بينما تزداد صعوبة وصول الإمدادات.

وأصبح الدفاع عن الضفة الغربية لخيرسون صعبًا بشكل متزايد على الروس، بسبب هجمات القوات الأوكرانية – المجهزة بصواريخ ومدفعية غربية – على الجسور الواصلة إليها عبر نهر دنيبرو، مما أضر بشدة بخطوط الإمداد الروسية.

وتعرضت القوات الروسية على الضفة الغربية لنهر دنيبرو لضغوط متزايدة بعد أن قطع الجيش الأوكراني معظم الجسور، مما أجبر الروس على إمداد قواتهم بالقوارب، ولجئوا إلى مد جسور عائمة عن طريق غمر عربات السكك الحديدية في الماء، لكن ذلك أيضًا لم يحل مشكلة تأمين خطوط الإمداد.

ويجهز الروس منذ مدة لإخلاء المنطقة؛ إذ نقلوا بالفعل أولًا معداتهم الثقيلة، ثم دمَّروا تدريجيًّا كل ما لم يتمكنوا من حمله من جسور وقوارب وغيرها، قبل أن يجلوا سكان المنطقة ويفجروا الجسور لمنع الأوكرانيين من التقدم خلفهم إلى الضفة الأخرى.

وقال قائد العمليات الروسية في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي اقترح هذا التكتيك كضرورة لتعزيز خطوط الدفاع، وقال في كلمة عبر التلفزيون، إنه لم يعد من الممكن توصيل الإمدادات إلى مدينة خيرسون.

وقال مسئولون استخباراتيون غربيون إن بوتين رفض طلبات سابقة لجيشه للتخلي عن المدينة.

وقد أثنى رمضان قديروف، الزعيم الشيشاني الموالي لروسيا، على قرار الانسحاب الذي «أنقذ ألف جندي كانوا محاصرين» على حد قوله، مبينًا أن الجنرال سوروفيكين، قائد القوات الروسية في أوكرانيا، اتخذ خيارًا صعبًا، ولكنه صحيح لإنقاذ حياة الجنود واتخاذ موقع استراتيجي أكثر فائدة وأمنًا، معتبرًا أن الكل كان يعلم منذ الأيام الأولى للحرب أن خيرسون منطقة قتالية صعبة.

هل الانسحاب فشل أم مناورة؟

في حين أن إعلان موسكو عن تخليها عن خيرسون قوبل بالبهجة بين السكان في أوكرانيا، فإن جيشهم والمسئولين الكبار بدوا أكثر حذرًا بكثير، محذرين من أن موقف القوات الروسية لا يزال غير واضح، وقال الجيش إنه لا يمكنه بعد تأكيد انسحاب القوات الروسية من خيرسون، فقد يكون فخًّا لاستدراجهم.

وقال الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرج، الخميس، إنه يراقب كيفية انسحاب الروس من المنطقة، وإذا تأكَّد الأمر فسيشكَّل نصرًا جديدًا لأوكرانيا، كما قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في وقت متأخر من يوم الأربعاء في رسالته اليومية بالفيديو إن قواته سوف تتحرك بحذر شديد خطوة بخطوة.

وعزز من مبررات هذا الحذر ما أفاد به سكان ومسئولون أوكرانيون من أن جنودًا روسًا ارتدوا ملابس مدنية، واستولوا على منازل في مدينة خيرسون والبلدات والقرى المحيطة، وهي علامات محتملة على كمائن مخطط لها.

كما أن المنطقة مليئة بالألغام التي خلفها الروس وراءهم بكثافة، ومن المحتمل أن يريق التقدم الأوكراني المزيد من الدماء، فقد اتهمت أوكرانيا روسيا، الخميس، بأنها تريد تحويل خيرسون إلى «مدينة موت».

وقال ميخائيلو بودولياك، المستشار السياسي للرئيس فولوديمير زيلينسكي، إن روسيا تقوم بزرع الألغام في كل مكان، بدءًا من الشقق السكنية وحتى الصرف الصحي، وتخطط لقصف خيرسون من الضفة الأخرى لنهر دينبرو، قائلًا إنها نهبت وقتلت وخلفت الدمار ثم رحلت.

وكشف فاديم سكيبيتسكي، نائب رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية، عن استمرار وجود قوات روسية بعد إعلان بدء الانسحاب، تقوم بأنشطة عسكرية بهدف توفير غطاء للمقاتلين الآخرين للمغادرة.

وأضحى من الواضح أنه قد ثبت لدى موسكو عدم جدوى بقائها في خيرسون، فالتكلفة الباهظة من الرجال والعتاد وانهيار المعنويات لا يقابلها مكاسب مع عجز الروس عن تطوير الهجوم وعدم وجود خطة أصلًا لديهم للتقدم أكثر من ذلك، ففضلوا الانسحاب إلى مناطق يمكن الدفاع عنها، خاصة أنهم لم يتخلوا عن منطقة خيرسون الاستراتيجية كلها، بل عن مدينة خيرسون وما جاورها من المناطق غرب نهر دنيبرو، واحتفظوا بباقي المنطقة شرق النهر.

وتجدر الإشارة إلى أن اللفتنانت جنرال، ميخايلو زابرودسكي، أخبر البرلمان الأوكراني، الأسبوع الماضي، أن أي انسحاب روسي بالقرب من مدينة خيرسون سيكون «منطقيًّا من حيث المبدأ»، كما أكد أوليكسي أريستوفيتش، مستشار الرئيس الأوكراني، أن قرار الانسحاب لم يكن اختيارًا للروس بقدر ما كان حتميًّا، لأن القوات الأوكرانية «قضمت بشكل منهجي دفاعات العدو».

وبالتوازي مع الانسحاب تركز روسيا على بناء التحصينات على الجانب الشرقي من نهر دنيبرو، بهدف وقف المرحلة التالية من الهجوم المضاد الأوكراني الذي يبدو صعب النجاح بعد أن عزز الروس قواتهم شرق النهر بالأعداد المنسحبة من خيرسون، كما أن سوروفكين أشار يوم الأربعاء إلى أن القوات المنسحبة قد تشارك في عمليات هجومية.

وخلال الأسبوعين الماضيين اجتهد الروس في تثبيت الخطوط الدفاعية شرق النهر، وأصبحت الحصون الخرسانية مشهدًا مألوفًا وظهرت أماكن الخنادق على صور الأقمار الصناعية وهُجِّر المدنيون من المنازل القريبة من النهر.

ويسهِّل هذا الانسحاب من مهمة وصول الإمداد إلى القوات الروسية التي أصبحت في وضع دفاعي أقوى، بينما صارت أي محاولة أوكرانية لعبور نهر دنيبرو مكلفة إلى درجة باهظة، لكنها قد تلجأ إلى إتلاف القناة التي تنقل المياه العذبة إلى شبه جزيرة القرم.

وتحتفظ روسيا بالسيطرة على 60 في المائة من منطقة خيرسون، بما في ذلك الساحل على طول بحر آزوف، ويسمح قرار ترك منطقة غرب النهر بانسحاب منظم بدلًا من تكرار مشهد الانهيار المفاجئ والتراجع المذعور للروس لدى فرارهم من منطقة خاركيف الشمالية الشرقية في سبتمبر/ أيلول الماضي، تاركين وراءهم أسلحة ثقيلة بكميات كبيرة.

ورغم حديث الإعلام الروسي عن تراجعات تكتيكية، فإنه لا يمكن بأي حال إنكار الفشل الواضح في مدينة خيرسون التي ظل مسئولون أوكرانيون مُعينون من قبل روسيا يديرونها منذ مارس/آذار الماضي، وتم توزيع جوازات سفر روسية على السكان، وزارهم مسئولون كبار من موسكو لمناقشة اندماج مدينتهم في “العالم الروسي”، كما أن تخلى موسكو طواعية عن موطئ قدم مهم غرب دنيبرو يقضي على آمال التوسع في أوكرانيا، خاصة باتجاه مدينة أوديسا الساحلية المهمة.

وبُرِّر قرار الانسحاب الروسي من جانب وزير الدفاع، سيرجي شويغو، والجنرال سوروفيكين، بأن الدافع وراءه هو القلق على أرواح القوات، مما يعكس رغبة في تهدئة غضب الشعب الروسي بعد انتشار تقارير متزايدة عن سوء إدارة الحرب، والتجنيد الفوضوي الذي أثار احتجاجات واسعة النطاق، وخسائر فادحة في الأرواح بسبب افتقار القوات إلى التدريب.

وبالطبع لم يكن الرئيس بوتين حاضرًا في هذا الاجتماع، لينأى بنفسه عن التحدث عن الهزيمة المحرجة بعد أسابيع من الاحتفال بضم المنطقة إلى بلاده.