كانت إقامة إسرائيل -وفقًا لوجهة النظر اليهودية- غذاءً لفكرة روح البطولة وأن الجندي الإسرائيلي «لا يُهزم»، جانبًا سلبيًّا لم تنتبه إليه إسرائيل سوى حديثًا، وهو الضرر النفسي والعقلي نتيجة للحروب والصراعات، وهو ما تجاهلته طيلة حروبها الماضية.

ظهر رد الفعل بتأثير الحرب على الفرد ومعاناته النفسية بعد حرب أكتوبر في 1973 داخل إسرائيل، قبل فترة قليلة من اعتراف المجتمع النفسي الغربي بـ «اضطراب ما بعد الصدمة PTSD»، فأصبح المجتمع الإسرائيلي بمثابة مادة خصبة للأبحاث حيال الأمراض العقلية واضطرابات ما بعد الصدمة، للناجين من أحداث الهولوكوست، والحروب التي خاضتها منذ إقامتها في 1948 حتى 1973.

وصمة العار

كانت هناك «مؤامرة صمت» في إسرائيل حول الاستماع إلى قصص الناجين، حسبما تقول يائيل دانييلي، الأخصائية النفسية ومديرة المشروع الجماعي للناجين من الهولوكوست وأطفالهم، في كتابها «الكتُيِّب الدولي للاستجابات البشرية للصدمات»، حيث إن التركيز بعد أحداث الهولوكوست كان على تأمين الجماعة، وليس إعادة تأهيل الفرد، وهو ما جعل النظر إلى الصدمة بعد الحرب نوعًا من «وصمة العار» التي تلاحق من يجهر بها.

على الجانب الآخر في كتابها «ذكرى الهولوكوست وموقف إسرائيل من ذكرى الحرب 1948 لـ 1973: الجماعة مقابل الفرد» تشير عيريت قنين إلى أن الروايات الفردية لما يعانيه الجنود الذين شاركوا في الحرب لم تجد طريقها إلى الوعي العام من خلال الأدب والسينما ووسائل الإعلام إلا مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهو ما دفع إسرائيل لأن تتخذ نهجًا مغايرًا لما كانت تنكره من قبل بشأن رد فعل الإجهاد القتالي، واضطراب ما بعد الصدمة.

تضيف يائيل في كتابها الصادر 2018: حتى عام 1973، وإلى حد كبير حتى اليوم، كان موقف الإسرائيليين تجاه صدمة الحرب مليئًا بأساطير البطولة والمخاوف الوجودية، مع الإنكار المستمر لأي أعراض قد تشبه الضعف، خاصة مع إخفاء حالات «رد فعل الإجهاد الناجم عن القتال» في حرب 1948، التي كان لها دور اجتماعي في إلقاء اللوم على (الضعفاء) من الجنود الإسرائيليين.

ويدعم هذه النظرية الطبيب النفسي اليهودي فيشل شنورسون، الذي أرسلته الوكالة اليهودية أثناء حرب 1948 لإجراء دراسة نفسية للناجين، كانت نتائجه تشير إلى أن المعاناة «ترفع وتقوي الروح»، وأشار في مقالة كتبها في مجلة «نيف هاروفيه» إلى أنَّ «معدل الأمراض العقلية بين الناجين الذين هاجروا إلى إسرائيل أقل من أولئك الذين استقروا في مكان آخر، لذلك مال الأطباء النفسيون – في ذلك الوقت – إلى إرجاع جزء كبير من شكاوى الناجين من الهولوكوست إلى صعوبات الهجرة والقضايا بين العائلات بدلًا من تشخيصها بشكل سليم».

ويفسِّر ذلك أيضًا نهج التعتيم والإنكار الذي اتبعه الجنود الإسرائيليون خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) التي أدَّت إلى زيادة المعاناة والأضرار النفسية والعامة بين جنود جيش الاحتلال، زاد الأمر سوءًا بصمت مجموعة الأطباء النفسيين العسكريين الذين عُيِّنوا لمعالجة مثل تلك الأمور، لكن صمتهم أيضًا بحسب ورقة بحثية للدكتور نسيم أفيشر، الطبيب النفسي الإسرائيلي، «ترك مجموعة من الجنود الإسرائيليين الذين أصيبوا في الانتفاضة في حالة من الارتباك والعزلة، دون دعم الأطباء ودون اعتراف اجتماعي بإصابتهم».

ولم تكن وحدة المستعربين الإسرائيلية، التي تقوم بعمليات إعدام من خلال التخفي، بعيدة عن ذلك الضرر، بل هي في قلبه، ولا يمكن إنكار القول بأن وحدة المستعربة الإسرائيلية وعملياتها تؤدي إلى ضرر أكبر من تلك التي تعانيه وحدات جيش الاحتلال الأخرى التي تكون في المواجهة المباشرة على الخط الأول مع الفلسطينيين.

الطعن بالسكين من الخلف

لم تأتِ خطوة جيش الاحتلال الإسرائيلي بتأسيس وحدة للأمراض النفسية وتعيين طبيب نفسي للاستماع للجنود والعمل على حل مشاكلهم خلال النكسة 1967؛ إلا بعد أن بدأت الأصوات تعلو بشأن الآثار النفسية المدمرة للحروب الإسرائيلية على الفرد والمجتمع على حد سواء.

لكن إنشاء تلك الوحدة كان أيضًا له جانب سلبي على جيش الاحتلال، مع وجود قانون يشير إلى أنَّ من يعاني من أمراضٍ نفسية، أو عقلية، لن يكون عليه تأدية الخدمة العسكرية الإجبارية، فوفقًا لآخر إحصائية في 2020 لجيش الاحتلال فقد حصل 11.9٪ من الرجال في سن التجنيد الإجباري على إعفاء بسبب مشاكل في الصحة العقلية، وهو رقم قياسي بحسب ما وصفته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 50 بالمائة في عامين فقط.

هذا الارتفاع دفع جيش الاحتلال الإسرائيلي للتعامل مع مشاكل الصحة العقلية المتزايدة من خلال برنامج جديد سيمكن الأفراد المتقدمين للخدمة العسكرية الذين يعانون من القلق والاكتئاب واضطرابات الصحة النفسية من العمل في أماكن لا تتطلب حمل السلاح أو النوم في الوحدة العسكرية.

الجدل حول القانون والأمراض العقلية يبرزه ويشعله إنكار جيش الاحتلال لأولئك الذين عانوا من اضطرابات ما بعد الصدمة أثناء تأدية خدمتهم، وصل الأمر إلى إشعال أحد الجنود السابقين في 21 أبريل 2021 النيران بنفسه، أمام وحدة التأهيل التابعة لجيش الاحتلال.

الجندي الإسرائيلي أُصيب بالإحباط بسبب معاملته من قبل الجيش، حيث قال إن إعاقته بنسبة 50% كانت أثناء خدمته العسكرية خلال حرب غزة 2014، ولكن جيش الاحتلال يُصر على أنها 25% فقط، والباقي كان بسبب صدمة عانى منها في طفولته.

وحدة المستعربة أو المستعربين أو دوفديفان أو شمشون، لم تكن بمنأى عن تلك الدعاوى، خاصة أن أغلبهم بعد العمليات السرية واعتقال الفلسطينيين من منازلهم، وتعاملهم المباشر، يعانون من أزمات نفسية تصل إلى حد الهلاوس والكوابيس أثناء نومهم.

في 24 يناير 2021 نجح رقيب من قوة المستعربين في الحصول على حكم قضائي بالاعتراف بإعاقته بعد إصابته في عملية اعتقال لفلسطيني في رام الله، لكن جيش الاحتلال كان يجادل في أن إصابة الرقيب الإسرائيلي لم تكن أثناء العملية نفسها، ولكن كان أثناء التحضير للمهمة، في النهاية حكمت المحكمة الإسرائيلية بقبول استئناف الرقيب بالتعويض عن الضرر الذي لحق به أثناء العملية.

تعود إصابة الجندي شيرات، الذي خدم في الوحدة السرية لحرس الحدود الإسرائيلي، أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى أيضًا، يقول بحسب ما نقل عنه موقع «والا» الإسرائيلي: «نصمم على تنفيذ كل مهمة حتى لو كان ذلك على حساب راحتنا النفسية وبدون خوفٍ».

شيرات جندي في وحدة سرية في الضفة الغربية، وعانى من ضغوط ما بعد الصدمة بعد الخدمة، في صراع مع وزارة الدفاع والشرطة التابعة للاحتلال الإسرائيلي للاعتراف به على أنه معاق من قبل جيش الاحتلال، لكنه اكتشفت أن الطبيب الممثل للوزارة كتب في تقريره أن ما يعانيه الجندي لم يكن بسبب خدمته، وقال: «إن الدولة الإسرائيلية غدرت به».

في تقرير لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية كتب المحرر العسكري للصحيفة، يانيف كوفوفيتس، في 2018، إنه بعد 45 عامًا من حرب 1973، لا تزال آثار الحرب واضحة في المشاركين، فوفقًا لبيانات جمعية الولادة، التي تساعد ضحايا الصدمات، فإن عدد الأشخاص الذين يلتمسون المساعدة العقلية بعد حرب 1973 يأتي في المرتبة الثانية بعد أولئك الذين يطلبون المساعدة بعد عملية «الجرف الصامد».

يضيف: «يمكن أن ترى جنودًا في السبعينيات من العمر كل يوم يخوضون حربًا أخرى، وهي حربهم ضد قسم إعادة التأهيل في وزارة الدفاع الإسرائيلية، في محاولة للحصول على اعتراف بالضرر النفسي الذي عانوا منه قبل 45 عامًا ولم يكونوا على علم به».

الجهر بالصدمة

«يصوِّبون الأسلحة نحو زوجاتهم، أو يخنقون والدتهم، للمخاطرة اليومية ثمن غالٍ»، هكذا يروي الصحفي الاستقصائي الإسرائيلي، عومري أسنهايم، ما قد يؤدي إليه اضطراب ما بعد الصدمة لجنود المستعربين، يضيف: «ينفجرون من العدم، من اللاشيء، حتى لو ألقى طفلٌ صغيرٌ حجرًا وسط الزحام».

يحكي عومري أسنهايم في لقاء مع أحد هؤلاء الجنود أن أحدهم كان يعيش مع فتاة في منزلها، وكانا يعرفان بعضهما أثناء الخدمة في الوحدة السرية، وبعد الخدمة عملت نادلة بمطعم، وفي مرة أثناء عودتها بعد منتصف الليل، صوب السلاح نحوها.

في تعريف اضطراب ما بعد الصدمة يشخِّص الأطباء النفسيون الأعراض بأنها تذكر لموقف الصدمة ذاتها باستمرار مع معاناة في النوم، مُصاحبًا بالكوابيس، بالإضافة إلى التغيرات السلبية في التفكير والمزاج، كمشاكل الذاكرة، والصعوبة في الحفاظ على علاقاتك الشخصية أو الأسرية، مع عدم الاستمتاع بأي جانب من جوانب الحياة التي تعيشها، علاوة على ذلك المعاناة من الفزع أو الخوف بسهولة، الاحتراس الدائم من الخطر الوهمي، انتهاك سلوك مدمر للذات، العصبية ونوبات الغضب أو السلوك العدواني، والشعور بالذنب أو الخجل الشديد.

كتب أورن بيتون، كتابًا عنونه بـ «برميل متفجِّر»، والذي سرد فيه ذكرياته أثناء خدمته في وحدة المستعربين، وبعد 16 عامًا اعترف به جيش الاحتلال الإسرائيلي كشخص يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة بنسبة 50 بالمائة، للحصول على تعويض.

يحكي في حوارٍ له مع صحيفة «يسرائيل هايوم» أنه «كان يصرخ أثناء نومه، ويجري على النوافذ والأبواب، ويغلقها»، ويشير إلى الحدث الذي جعله يذهب لتلقي العلاج بالقول: «أثناء مشاهدتي للتلفاز في إحدى المرات غفوتُ، وانغمست في كابوسٍ كأن أحدًا يخنقني وأقاومه وأحاول خنقه، ثم فجأة استيقظتُ ووجدتُ نفسي أخنق ابنتي، التي كانت تبلغ من العمر 6 سنوات وقتها، حتى بدأ لعابها يسيل، ثم بدأت تسألني لماذا أردتَ قتلي؟».

يعبِّر «بيتون» عما كان يتعرَّض له نفسيًّا قائلًا: «في كل عملية خضتها شعرتُ وكأنني أتلقى قنبلة، أو طعنة في القلب، لكن ظاهريًّا لم أظهر أي شيء، وبعد أن قررت الخروج من الخدمة، عملت في شركة أمنية، وأردتُ أن أمتلك سلاحًا لأشعر بالأمان، لكنني كنتُ دائمًا مرتابًا من كل شخصٍ ينظر إليَّ أو يتبعني».

العلاج بالمشاركة

ارتفاع نسب الإصابات العقلية والنفسية، خاصة اضطراب ما بعد الصدمة الذي يعانيه من خدموا في وحدة المستعربين، دفع عدد من الذين أنهوا خدماتهم في جيش الاحتلال لتكوين روابط ومجموعات لتقديم الدعم النفسي لهم، بعيدًا عن سلطة جيش الاحتلال، التي تماطل في قبول الدعاوى أو الإعاقات، أو دفع التعويضات.

لكن اللافت في الأمر هو المجموعات النسائية التي ظهرت مؤخرًا، خاصة بعدما كان يقتصر الحديث فقط عن الرجال وما يعانونه أثناء وبعد الخدمة، فعلى سبيل المثال جمعية «ناتال» التي أسستها 15 امرأة إسرائيلية لدعم النساء فقط، وكان على رأسها أول امرأة مستعربة خدمت في جيش الاحتلال، وهي شير بيليد، التي أيضًا أسست صفحة على فيسبوك لدعم «الجنديات».

في أولى جلساتها اكتشفت المجموعة أن النساء اللائي تعرَّضن لاضطراب ما بعد الصدمة لم يجئن، وهو ما رسَّخ الاعتقاد بأنَّ النساء أقل طلبًا للمساعدة النفسية بعد الخدمة، خاصَّة أنَّ الوحدات المختلطة تكون أكثر تعقيدًا، حيث لا يمكن للنساء أنْ يُطلقن صرخاتهن.

تقول ميخال جيفن، الأخصائية الاجتماعية بـ «ناتال» في تقرير عن المجموعة رصدته «يديعوت أحرونوت»: «سبب آخر لعدم المشاركة هو الخوف من إيذاء الجنديات، ما زال العار موجودًا على النساء، ويرجع ذلك إلى حقيقة أنهن إذا تحدثن، فهن لا يضررن أنفسهن فقط، ولكن يعقن عملية دمج النساء في الوحدات العسكرية».

بينما تقول شلوميت بن سنادر، 29 عامًا، والتي خدمت في وحدة المستعربة أيضًا: «الوحدات المختلطة دائمًا ما تكون معقدة، وتخشى النساء الجهر بتجربتهن، حيث رُسِّخ في أذهاننا أن الجهر بتجربتك المؤلمة ضعف، ولم يكن أحد يريد أن يكون ضعيفًا، وعليكِ إثبات قوَّتك مثل الرجال تمامًا».

أورن بيتون هو الآخر أسس جمعية بعنوان «Trauma4Good» في عام 2018، والتي تعنى بتقديم المساعدة لمن خدموا في وحدة المستعربين، بالإضافة لتغيير الوعي العام عن اضطراب ما بعد الصدمة، وأنها ليست «وصمة عار» كما كان يُنظر إليها سابقًا.

فوضى: تجميل الوجه القبيح

مسلسل فوضى الذي بدأ بثه على منصة نتفليكس في 2016 أظهر الوجه القبيح لوحدة المستعربين الإسرائيلية، والذي يسير على طول الخط تابعًا لوجهة النظر الإسرائيلية، دون النظر إلى وجهة النظر الفلسطينية، بالإضافة إلى تصويره الوحدة بقتل وتعذيب واعتداء وتهديد الفلسطينيين بشكل يتعارض مع أي مزاعم تفوق أخلاقي.

يقول الكاتب الفلسطيني، سيد قاشوع، في مقاله في 2018 بصحيفة «هآرتس» تحت عنوان «على الأقل امنحوهم كراهية (فوضى)»: «بشكل عام، لطالما خدم الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في إسرائيل الخطاب الإسرائيلي السائد، ففي المسلسل لا يوجد شيء يتعامل مع الواقع، في فوضى لا حُكَّام ولا محكومون ولا احتلال ولا خلفية تاريخية ولا حواجز، ولا فقر، ولا هدم منازل، ولا ترحيل».

بينما تصف شيرين فلاح صعب، محررة الثقافة والفن في صحيفة «هآرتس»، نفسها بـ «السذاجة» عندما ظنَّت أنَّ كاتبي المسلسل الإسرائيلي سيرون العرب والفلسطينيين على قدم المساواة، ولكنَّها تقول: «يثبت الموسم الرابع أن الفلسطينيين سيكونون دائمًا الشيء الذي يخدم الرواية الإسرائيلية».

في ورقة بحثية للباحث في السينما والتلفزيون، ورئيس قسم دراسات الأفلام في الجامعة المفتوحة بإسرائيل، ناهول ريبكيه، بعنوان: «فوضى وتحويل الصراع غير المتكافئ إلى ترفيه»، يشير إلى أنَّ «المسلسل واجه انتقادات كثيرة للتقليل من شأن وقائع الاحتلال الإسرائيلي والتعتيم عليها، بالتركيز على فيلم قط وفأر بدلًا من المصاعب التي يتعرض لها السكان المدنيون الخاضعون لسيطرة الاحتلال العسكرية».