أود أن أكون مطمئنًا أنّ القمر لا يزالُ هناك، حتى حينما لا أنظر إليه.
«أينشتاين» معترضًا على التشابك الكمّي.

هل جرّبت من قبل أن تكون في حضرة رضيع وتغطي وجهك ممازحًا الطفل ثم تُظهر وجهك فجأة فيضحك الطفل لذلك؟ ربما ستندهش قليلًا لو علمت السبب. لا يتمكن عقل الطفل من إدراك مبدأ «ديمومة الأشياء»، بمعنى أن الطفل لا يعترف بوجود شيء طالما خرج عن نطاق رؤيته، وعليه فحينما تغطي وجهك فإنك في عينيّ الطفل قد اختفيت من العالم، ثمّ يقوم اندفاعك إلى الوجود مجددًا بدفع الطفل إلى الضحك. سيكبر هذا الطفل ويبدأ في اكتساب مبدأ ديمومة الأشياء شيئًا فشيء، إلا إذا التحق بالجامعة ليدرس ميكانيكا الكمّ، وقتها سيضطر للتخلي عنه مجددًا.

آلييه آسبييه، جون إف. كلاوسر، وأنطون سايلينجر الحاصدين لجائزة نوبل في الفيزياء عن تجاربهم في التشابك الكمّي وريادتهم لعلوم المعلومات الكمّية

ما الذي يجعلك متأكدًا أن هاتفك الذي تركته في الغرفة للتوّ لا يزال موجودًا؟ لماذا لم يختف أو على الأقل تدخل الغرفة لتجده قد غيّر مكانه؟

حسنًا إن الواقعية المحلية هي منْ حافظت على هاتفك. تشمل الواقعية المحلية مبدأين، الأول -مبدأ المحلية- هو أن الأشياء تظلّ في أماكنها طالما لم تتأثر بجسم أو طاقة ما، وثانيهما -مبدأ الواقعية- الذي يذكر أن العالم موجود وقائم من حولك بمنأى عن إدراكك، فالعالم له وجود مادي ملموس وليس من صنع عقلك أو وعيك أنت. ربما ستبدأ الآن في التساؤل عن مستوى ذكاء العلماء الذين اخترعوا هذا المبدأ لأنّه بديهي جدًّا ويطبّق على كل شيء فأقول لك لا هو ليس كذلك، فميكانيكا الكمّ لا ينطبق عليها الأمر.

صورة تخيلية للتشابك الكمي بين جزيئين

الجدال اللا منتهي

مُنح «آلييه آسبييه» و«جون إف. كلاوسر» و«أنطون سايلينجر» جائزة نوبل عن تجاربهم على «التشابك الكمّي»، وحين نذكر التشابك الكمي يتبادر إلى ذهننا الجدال الذي دوّى صداه بين أينشتاين وبور.

حين يوجد جزيئان في حالة من التشابك الكمّي، فإن قياس أي خاصية للجزيء الأول يحدّد ما سيكونه الجزيء الآخر، وإنه حتى لحظة القياس لا يكون أي منهما مُحدَّد الخصائص.

إحدى أهم الخصائص المُقاسة هي اتجاه دوران الجزيء، فلو امتلكنا جزيئان فإنه حتى لحظة القياس لا يمتلك أي منهم أي خاصية مميزة، لكن لحظة قياس إحدى الخصائص، اتجاه الدوران على سبيل المثال، فلو وجدنا أحد الجزيئات يدور للأعلى فسيكون الآخر المتشابك معه يدور للأسفل وهكذا دواليّك. ومهما بَعُدت المسافة بينهما يظلان على اتصال وكأنهما يتحادثان معًا.

لمزيد من التبسيط، إذا مثّلنا الجزيئات تلك بكراتٍ ملونة، فإنه قبل الكشف عنها ستكون الكرتان ملونتين بالرمادي، بينما لو نظرت إلى إحداها واتضح أنّها باللون الأبيض فعلى الفور ستكون الأخرى سوداء.

مثالٌ آخر، إذا امتلكنا زوجين من القفازات كل منهما في صندوق، وكانا في حالة من التشابك الكمّي، ووضعنا أحدهما على قمة إيفرست والآخر فوق سطح القمر، حين نفتح أي صندوق منهما لو كان لقفازٍ يخص اليد اليمنى فعلى الفور الآخر يخص اليسرى، وقبل أن نفتح الصندوق كان كلاهما يمين ويسار في نفس الوقت.

صورة توضح الفرق بينما إذا ما كانت الكرات قد اتخذت لونًا معينا منذ تواجدها (بالأعلى) أو ما إذا كانت عديمة الخصائص حتى لحظة المراقبة كما تذكر ميكانيكا الكمّ (بالأسفل)

أطلق أينشتاين لفظ «التأثير الشبحي عن بُعد» على ظاهرة التشابك الكمّي، فقد رأى أن ميكانيكا الكوانتم بأكملها ضرب من العشوائية، وأن تأثير ظواهرها لا يعدو عن كونه تأثيرًا شبحيًا، وهنا قال لنيلز بور مقولته المُخلّدة «الله لا يلعب النرد»، قبل أن يرد بور قائلًا: «توقف عن إخبار الله ماذا عليه أن يفعل».

جاء اعتراض أينشتاين على ميكانيكا الكمّ من إيمانه الشديد بالسببية، ما من شيء يحدث اعتباطيًا، من المؤكد أن هنالك طريقة للتنبؤ بأي الجزيئين سيدور في أي اتجاه من بداية وجودهما، وليس للأمر صلة بعملية القياس، ومن هنا جاء تساؤله: ماذا لو كانت الجزيئات المتشابكة متفقة مسبقًا مع بعضها عن كيف ستظهر لحظة المراقبة؟ ماذا لو أن كلا الجزيئين منذ خلقهما كان متفق كل منهما عن كيف سيسلك عند قياسه؟

كان له الحق في تساؤله هذا، قبل أن يجيء عالم آخر هو «جون ستيوارت بيل»، ويضع مبرهنة تثبت أن الجزيئات لا تعرف مسبقًا على أي حالة ستكون في لحظة الرصد، لكن قبل الانتقال لمبرهنة بيل لعلّك تساءلت عن كيفية إنشاء جسيمات متشابكة سويًّا.

كيف نصنع التشابك الكمّي؟

إنّ الأغلبية الساحقة من الجسيمات المتشابكة تكون كذلك منذُ ميلادها، تستخدم أغلب تجارب التشابك فوتونات متشابكة منذ البداية، يُصنع هذا عن طريق توجيه حزمة من ذرات الكالسيوم على مستوى عالٍ من الطاقة نحو إلكترون، في الطبيعي سيحاول الإلكترون التخلّص من الطاقة الزائدة عبر إطلاق فوتون ليصل للحالة الأرضية -الأقل طاقة والأكثر استقرارًا- لكن بطريقة ما يُمنع الإلكترون من ذلك، وبدلًا من ذلك يتحلل الإلكترون المكتسب للطاقة إلى فوتونين متشابكين كميًّا.

طريقة أخرى هي التشابك عن طريق الصدفة كما في تجارب كريس مونرو، ويتضمن ذلك إحضار الفوتونات المنبثقة من ذرات مختلفة على مسافاتٍ شاسعة سويًا، وبطريقة ما يجري تشابك للفوتونين سويًّا مؤديًّا إلى تشابك بين الذرات كذلك. ومن ألطف الطرق للتشابك هو التفاعل عبر إحضار جزيئين معًا وتركهما بطريقة ما ليتفاعلا، وفي النهاية سيعتمد كلاهما على الآخر ما يجعلهما في حالة من التشابك الكمّي.

لابد أن أحدنا قد تساءل ماذا لو أن الجسيمين ليسا متشابكين؟ ماذا لو أن التجربة التي نعتقد أنها كانت السبب في خلق التشابك إنما فقط كانت سبب في أن يقرر كل من الجسيمين اتجاهًا يدور فيه بحيث يكون أحدهما عكس الآخر ونتوهم نحن أنهما متشابكان؟

حسنًا لسنا الوحيدين الذين فكرنا في هذا فأينشتاين فعلها أولًا.

مبرهنة بيل

لدينا فصل به 30 طالبًا و30 طالبة، عدد الطلاب طوال القامة -أكثر من 170سم- هو 20، بينما عدد الطالبات الطويلات هو 15، وجميع منْ في الفصل ذوو عيون بنية أو سوداء وليست ملونة.

  • الرمز (أ) يشير إلى الذكور فقط (30).
  • الرمز (ب) يشير الطلاب طويلو القامة ذكورًا وإناثًا (35).
  • الرمز (ج) الطلاب والطالبات ذوو العيون الملونة (0).

هناك استنتاج رياضي منطقي يقول إنّ (أ – ب) + (ب – ج) أكبر من أو يساوي (أ – ج).

وعلامة (-) هنا تعني «فرق» في قوانين الاحتمالات.

لا داعي بتاتًا لسرد كيفية استنتاج هذه المعادلة، ولا داعي أيضًا أن نعصر أدمغتنا من أجل فهمها، سنضرب فقط مثالًا عليها من باب التجريب.

لنبسط المعادلة دعنا نقول إنّ عدد طلاب الفصل الذكور طوال القامة + عدد الطلاب طوال القامة لكن ليسوا ذوي عيون ملونة (أكبر من أو يساوي) عدد الطلاب الذكور بأي طول لكنهم ليسوا ملوني العيون.

بالتعويض المباشر في المعادلة نجد أن:

عدد طلاب الفصل الذكور طوال القامة (20) + عدد الطلاب طوال القامة لكن ليسوا ذوي عيون ملونة (35) (أكبر من أو يساوي) عدد الطلاب الذكور بأي طول لكنهم ليسوا ملوني العيون (30).

سنجد أنّ 20 + 35 هو أكبر من 30 بالفعل.

إن تلك المعادلة مثبتة منطقيًّا، ومهما غيّرت في قيم المعطيات المدخلة ستجد دائمًا أن المعادلة صحيحة، جرّب الأمر إنّه ممتع!

أتعلم؟ الجميل في أمر المعادلة أنّها صحيحة سواء قمت بالقياس أو لا، فهي صحيحة دائمًا. وبالتالي فإن أي قياس خاضع للمنطق إذا عوّضنا عنه في تلك المعادلة فستظل صحيحة كذلك ولا سبيل لخرق المعادلة إلا بخرق المنطق نفسه.

لنعد الآن إلى أينشتاين، الذي عارض فكرة التشابك الكمي قائلًا:

ماذا لو كان كل جزيء من الجزيئات المتشابكة يعلم من البداية كيف سيكون، ولا علاقة للأمر بالتشابك؟ ماذا لو كانت ميكانيكا الكم ليست عشوائية وإنما خاضعة لنظام منطقي أكبر منها، علم منطقي لم نكتشفه بعد؟

إذا أردنا أن نختبر صحة كلام أينشتاين، فعلينا أن نستخدم معادلة لا تتأثر بالقيم المُدخلة فيها تمامًا كالمعادلة التي شرحناها، وهو ما قام به جون ستيوارت بيل.

قام بيل بالتعويض في المعادلة باستخدام قياسات لإلكترونات متشابكة بزوايا قياسات مختلفة، ولدى التعويض في المعادلة خرقت ميكانيكا الكمّ المعادلة. بمعنى آخر أثبت بيل أنّ القياسات الكمّية لا تخضع للمنطق، وأنّه ما من طريقة نهائيًا لتوقع أي جسيم سيدور في أي اتجاه وإنما حتى لحظة القياس تكون الجسيمات غير محددة الخصائص، وعليه ففكرة أنّ الجسيمات المتشابكة جزء من منطق لا نفهمه أصبحت الآن خارج التصديق.

مساهمات علماؤنا

استخدم «جون كلاوسر» ذرات كالسيوم تبثّ فوتونات متشابكة مضاءة بلون معين، واختبر قطبيتها، وبعد سلسلة من الحسابات كان قادرًا على إثبات أنّها تخترق مبرهنة بيل.

أجرى «أنطون سايلينجر» المزيد من الاختبارات التي أكّدت الأمر ذاته، وفي إحدى تجاربه استخدم الإشارات القادمة من مجرّات بعيدة، وطوّع اكتشافاته تلك في تحقيق إنجازات في مجالات الحوسبة الكمّية وتكنولوجيا الاستشعار عن بعد.

أمّا «آلييه آسبييه» فقد كان قادرًا على تطوير الجهاز المستخدم لرصد الفوتونات الأمر الذي زاد من دقة القياس.

وأسهمت جهود العلماء الثلاث مجتمعة في إثباتهم لخروقات ميكانيكا الكمّ لمتباينة بيل، ما أثبت مبرهنة بيل، وفتح الطريق أمامنا للاستفادة من العلوم الكمّية وتطبيقها في حياتنا.

تطبيقات التشابك الكمي في حياتنا

يُمكّننا التشابك الكمي من نقل المعلومات بسرعة أكبر من سرعة الضوء، إذا تلاقى جزيء أول متشابك مع جزيء آخر بجزيء ثالث في طريقه وتفاعل معه بحيث أصبح متشابكًا معه هو الآخر، فإنه يصبح حلقة وصل بين الجزيئين الثاني والثالث، ويمكن نقل المعلومات من الجزيء الثاني إلى الجزيء الثالث بسبب ذلك، لكن تلك المعلومات ستختفي من الجزيء الثاني وقتها.

يُعرف هذا الأمر بالنقل الكمّي، ويعلّق بعض العلماء عليه أفكارًا مستقبلية عن انتقال الإنسان من بلدة إلى أخرى في لمح البصر، إذا دخل مثلًا إلى غرفة في نيويورك مكّونة من جزيئات متشابكة كميًّا مع جزيئات موجودة بغرفة أخرى في باريس، لكن الفكرة لا تزال بعيدة جدًّا عن التطبيق.

أسهم التشابك الكمّي في مجالات لا تحصى، أهمها الحوسبة الكمّية التي تعتمد على الجزيئات دون الذرية التي توجد في أكثر من حالة في نفس الوقت، ويمكنها أن تحلّ المعادلات التي تستغرق بالطرق التقليدية ملايين السنين. وكذلك التشفير الكمّي، ففي العادة تنقل المعلومات الحساسة على صورة وحدات بِت (إما 0 أو 1) ولكننا استفدنا من الكوانتوم وتمكننا من نقل المعلومات دون أن تكون محددة الخصائص بمعنى أنّها 0 و1 في الوقت ذاته حتى تصل إلى المصدر المستقبِل، وأي محاولة لمحاولة سرقتها في الطريق لهذا المصدر ستبوء بالفشل وتعتبر تلك أعلى درجة من التشفير وصلت لها آلاتنا اليوم.

في الواقع، رغم فهمنا الضئيل لميكانيكا الكمّ إلا أنّ تطبيقاتها دخلت في معظم وأهم أمور حياتنا، أتعرف جهاز الرنين المغناطيسي الذي يستخدمه الأطباء في الفحوصات؟ إنه هو الآخر أحد تطبيقاتها.

كانت ميكانيكا الكوانتم كريمةً معنا للغاية وجادت التطبيقات القائمة على مبادئها علينا بكثير، وسهّلت حياتنا، جدًا لكنها رغم ذلك ترفض أن تُفصح عن سرها، وتأبى الجزيئات أن تخبرنا كيف تتفاعل وتتشابك سويًا، كيف يشعر جزيء ما بصديقه المتشابك معه حتى لو بّعدت بينهما مجرات؟ ما هو الرابط بينهما؟ وكيف يعرف أحدهما ما يحدث للآخر بسرعة تفوق سرعة الضوء؟ يا تُرى ما نوع تلك الرابطة التي لا نعرف كنهها.

لقد ذهب وصف بعض العلماء الأمر بـ«الحب على المستوى دون الذري»، وليس الأمر بأقل غرابة من ظواهر الكوانتم، فقد تكون فعلًا تلك هي طريقة الجزيئات المُحبة في التواصل.