قبل عام 2017 لم يعرف اسم جوردان بيل كمخرج واعد يغير وجه السينما الأمريكية، بل كان ممثلًا وكاتبًا كوميديًا ربما تتعرف على وجهه من ميمز مواقع التواصل الاجتماعي، في 2017 أخرج بيل فيلمه الأول «اهرب Get Out» وهو قصة محددة للغاية عن حياة لن يعرفها من لم يعشها، لم يكن الفيلم كوميديًا بل رعب بمسحة من السخرية والكوميديا، فاز الفيلم بجائزة الأوسكار للسيناريو وأصبح أحد أنجح أفلام الرعب المعاصرة، ما يميز بيل وفيلمه الأول هو حس سخرية عال يتعلق بلحظة محددة في المكان والزمان، فالمكان دائمًا ما يكون أمريكًا، أما الزمان فمرن ومتغير، تنظر أفلامه إلى الحاضر والماضي بخاصة حاضر وماضي الأفريقي الأمريكي بشكل مرن، تستكشف تاريخًا ثريًا وتراجيديًا دائمًا ما تتردد أصداؤه في الحاضر حتى مع كل ادعاءات تغير أمريكا للأفضل نحو التقبل التام للجميع.

أتبع بيل نجاح فيلمه الأول بفيلم ثان أكثر عمومية وأقل تخصصًا للتجربة السمراء وهو «نحن US»، تمحور الفيلم حول أسرة سمراء أمريكية لكنه توسع في تيماته ليشمل الحال الأمريكي بشكل عام، وطبيعة غياب العدالة الاجتماعية المتأصل في التاريخ والحاضر الأمريكي، لم يحصد الفيلم نفس النجاح الذي حصده فيلم الأول، ولكن تكونت له قاعدة جماهيرية على مدار عدة سنوات بسبب صوره المرعبة الخاصة والمميزة وأداءات ممثليه، في 2022 يعود بيل بفيلم جديد: «لا Nope»، يملك ضخامة أفلام الكوارث الطبيعية وخصوصية فيلمه الأول فيما يخص التجربة السمراء الأمريكية، فيلم يتلافى عيوب فيلم «نحن» من حيث تشابك التيمات والمجازات ويتوسع في فكرة استكشاف التاريخ والأجيال المتعددة، وإضافة لذلك يتأمل فكرة الصورة والتمثيل السينمائي وما يعنيه أن ترغب في اللقطة المثالية.

التاريخ البديل

أظن أنه من المستحيل صناعة أي فيلم دون أن يكون عن العرق، لأن العرق حولنا في كل مكان
جوردان بيل

يمكن وصف جوردان بيل بأنه مخرج مهووس بالرموز والمجازات، وكثيرًا ما يثقل ذلك أفلامه، فهو يزرع بدقة في كل مشهد رمز ما، مجاز ما، وإذا وجده عصيًا على الفهم يجعل الشخصيات تشرحه بالكلمات، ما جعل «اهرب» فيلمًا مميزًا هو وضوح المجاز دون مواراة، فكل لفتة وكلمة يتلقاها بطله متأصلة تمامًا في تجربة أي شخص أفريقي أمريكي آخر لا يصعب فهمها أو يستدعي الأمر تحليلات موسعة لتلقي المقصد، في فيلمه الثاني طغت الرموز على القصة حتى أغرقتها فأصبح من الصعب الاستمتاع به على مستويين: مستوى القصة الواضحة ومستوى تحليل الرموز، طيلة الأحداث تضغط كثرة الرموز والعناصر على المشاهد لتفسيرها أو لإيجاد معنى أعمق لفيلم رعب يملك إمكانية أن يكون أيقونيًا، في «لا» يدمج بيل كل ما يحبه فيتوازن الفيلم في طبقتين تلقيه، يمكن بسهولة مشاهدة «لا» كفيلم صيفي ضخم عن هجوم كائن فضائي ووقوع كارثة على الأرض، وعلى الرغم من امتلائه بالرموز فإنها ليست مدرسية مثل سابقه، بل تدع المساحة للاستمتاع بالفيلم من دون تذاك أو إثقال للقصة والشخصيات الرئيسية.

يبدأ الفيلم بتعريفنا بأبطاله وطبيعة عملهم وهو عمل محدد وخاص جدًا، مدربا أحصنة يستخدمان في الأفلام الهوليوودية، توارث كل من أو جي (دانييل كالويا) واميرالد (كيكي بالمر) تلك الوظيفة من أبيهما وورثها أبوهما عن أبيه وهكذا، يلمح الفيلم مرارًا وبوضوح لبداية الصورة المتحركة، للتسجيل الأول، لأول محاولة لتحريك تتابع من الصور التي تنسب لإدوارد مايبريدج، قبل اختراع كاميرات السينما التقط مايبريدج عدة صور متتابعة بشكل دقيق لفارس يمتطي حصانًا، ومثل تقنية الرسوم المتحركة عرضها واحدة تلو أخرى فصنع ذلك وهم الحركة، ما يقدمه الفيلم جديدًا في تلك السردية التاريخية هو ملحوظة أن ذلك الفارس كان أسود البشرة، وأن ذلك دليل قاطع على اختراط الأفارقة الأمريكيين أو سود البشرة عمومًا في صناعة السينما منذ أيامها الأولى، قبل حتى اختراع السينما نفسها.

تتابع إدوارد مايبريدج الذي يؤرخ لبداية الصورة المتحركة 1878

يصعب إيجاد أي قاعدة بيانات عن ذلك الرجل الذي يعتلي الحصان في صور مايبريدج، يربط الفيلم بداية الصورة المتحركة بأبطاله في الحاضر وبفكرة اندثار سردية راعي البقر الأسود الأمريكي والتعتيم على ذلك الجزء من التاريخ، فأفلام رعاة البقر وتاريخهم بيضاء بشكل أساسي، يركز «لا» على ذلك التاريخ البديل المنسي، ويزرع ماضيه في حاضر شخصياته فيصبح فيلم رعاة بقر معاصر أبطاله من السود بجانب كونه فيلم رعب معاصر أبطاله من السود كذلك، لأن تاريخ الرعب الأمريكي يسيطر عليه البيض بشكل أو بآخر، لا يواري بيل أجنداته الخاصة أو يخفيها، هو يصنع بوضوح تاريخ رعب أسود جديد يتضافر بسلاسة مع سياسات العرق والتمثيل البصري والسينمائي.

راعي البقر والجماليات الأمريكية

سرعان ما يتحول الفيلم إلى فيلم هجوم فضائي، لكن بيل لا يترك رموزه ومجازاته حتى وسط ذلك الاحتلال الوشيك، تصبح القصة عن محاولة التقاط الصورة المثالية لحدث جلل، عن الهوس الجماعي بالتوثيق، وعن طبيعة الصورة المعاصرة ومدى هشاشتها، لا يصنع بيل فيلمًا عن الإنترنت والتوثيق اللحظي فقط لأنها تيمات أغرقت بها الأفلام المعاصرة بل عن الصورة السينمائية بشكل خاص، عن الصورة الأنالوج (التقليدية) والديجيتال (الرقمية)، عن بقاء الصورة وعن طبيعة الصورة نفسها، ماذا تلتقط وما تمثله بالضبط، يحدث ذلك كله خلال مغامرة حابسة للأنفاس يمكن أثناءها تجاهل هوس بيل بدقة زرع الرموز والتوقف عند عناصر مجردة مثل تصميم الصوت والصورة.

مشهد من Nope 2022

Christina’s World, Andrew Wyeth 1948

يعطينا «لا» الفرصة لتأمل كيف يصور بيل أبطاله كيف يبرز درجة لون بشرتهم في الظلام مثلًا، لأن تصوير البشرة غير البيضاء لطالما كان موضع جدل في الأفلام الهوليودية، يختار بيل صور أمريكية خالصة لكن يجعل أبطالها أمريكيين ضد الشكل المهيمن، يمتطي أو جي حصانه كراعي بقر حقيقي، لا يملك شاربًا أشقر أو بشرة بيضاء تحرقها الشمس بل يرتدي لونًا برتقاليًا فاقعًا يلائم لون بشرته ويصوره بيل ومدير تصويره هويت فان هويتما في الليل والنهار باختيارات أسلوبية وبصرية محددة ومميزة تجعل الفكرة الرئيسية لتاريخ الأفارقة الأمريكيين في بداية السينما واضحة دون الحاجة لإثقالها بالمجازات.

House by the Railroad, Edward Hopper 1925

مشهد من Nope 2022

ما يميز فيلم «لا» عن أفلام الكوارث الطبيعية التي تتخذ من أمريكا مركزًا لها هو أن أمريكا هنا هي المركز فعلًا، ذلك الهجوم الفضائي ليس عالميًا، لا يصيب جميع الدول لكن الفيلم يرينا ردود الفعل الامريكية عنه، بل يخص تلك المزرعة وتلك المنطقة تحديدًا، ما يعزز مركزية الجماليات الأمريكية هو تصميم المنزل الذي تقع به الأحداث، منزل كبير ذو شرفة أمامية مفتوحة يرتبط بشكل بصري بسكان بيض ربما حتى امتلكو عبيدا في يوم من الأيام، لكن هنا يخص المنزل أسرة سمراء، بجانب المنزل مساحات شاسعة من الأراضي والخضرة يتم تصويرها في لقطات واسعة مثل التقليد المتبع في أفلام الغرب (الويسترن) الأمريكي، تشبه الصور لوحات إدوارد هوبر وأندرو وايث الذي اشتهر كلاهما بتصوير الجماليات الأمريكية الغربية، المزارع والمنازل العالية وحقول القمح الذهبية.

نهاية العالم والسينما

المشهدية هي ليست مجموعة من الصور، لكنها العلاقات الاجتماعية بين البشر عندما تتخللها الصور
جاي ديبور

بدأ استخدام مصطلح Spectacle مشهدية /فرجة بشكل مكثف في تحليل الفنون المرئية وعلاقة الفرد بالصورة بشكل مجتمعي بعد إطلاق جاي ديبور مجموعة مقالات بعنوان مجتمع الفرجة/المشهدية The Society of the Spectacle، في دراسته المطولة يستكشف ديبور علاقة المجتمع بالصورة وطبيعة الاستهلاك البصري، لكن الأهم هو كيف نستعيض عن الحياة الحقيقية بنسخة بصرية معاد تمثيلها، يحذر فيلم «لا» في بدايته من فكرة الفرجة، وكيف يمكن أن يغطي مفهوم التوثيق على كل شيء آخر، بل وتصبح محاولة التقاط شيء ما و صناعة صورة منه مسألة حياة أو موت، لكنه في الوقت ذاته فيلم فرجة، ضخم في حجمه على الرغم من حميمية صراعه الرئيسي.

فيلم «لا» في النهاية هو فيلم عن علاقة أخ وأخت، عن طبيعة الترويض وعلاقة الإنسان والحيوان، وعلاقة ذلك الإنسان كمتفرج بالكائنات الأخرى التي تمثل أشياء يمكن استغلالها ومشاهدتها، لكن كونه فيلم كارثة فإن كل شيء يقع في إطار أكبر، فتصبح بطولة راعي البقر الشجاع ذات تأثير وحجم أكبر حتى وإن لم يرها العالم أجمع، فإنه صارع حيوان فضائي بحجم مركبة أسطورية وهزمه وحده، يرى بيل المشهدية كعقاب وغاية، فالرغبة نفسها في صناعة المشاهد الضخمة تؤدي إلى الموت لكن على الرغم من ذلك يصعب تجاوزها خصوصاً عندما تكون رغبة فنية في جوهرها، يمكن بشكل ما تفسير ذلك كرؤية متشائمة ترى في سردية هجوم يشبه نهاية العالم مجاز لنهاية السينما كما نعرفها أو تحذير في ما يخص صدق الصورة السينمائية، لكن تظل تلك قضية ملتبسة، إذا كان فيلم «لا» هو خطاب حب للصورة السينمائية القديمة، لخام الفيلم نفسه فإنه يدمج ما هو جديد مع ما هو تقليدي، صور الكثير منه بخام كوداك 65 مللي لكن المؤثرات البصرية حديثة ورقمية، حقيقية ودقيقة في صناعتها، لذلك وعلى عكس أفلامه السابقة يصعب تفكيك أيديولوجية بيل أو نواياه الصريحة.

(لا) Nope فيلم صيفي ممتع، فيلم كارثة طبيعية مثير وضخم، محمل بالأفكار والأيديولوجيا لكنه لا يغرق فيهما، يظل سطحه بسيطًا وممتعًا غير ملغم بالرموز والمجازات، لكنه فيلم خاص وشخصي، حميمي وعالمي، ومثل أفضل الأفلام يفضل مشاهدته على الشاشة الكبيرة، فإذا كان يمثل جدالًا عن موت السينما الوشيك فإنه يستحق اقتطاع الوقت لاختباره في المكان المخصص له.