بيوت من صفيح، علب مكدسة من البشر، مبان يطفح عليها آثار مياه الصرف، أزقة ضيقة ومقاهٍ معبأة بالمشروبات الرخيصة، هذه ليست مناطق عشوائية في بلاد عربية وإنما ضواحٍ فرنسية وبلجيكية مليئة بالمسلمين المهمشين، صارت مفرخًا لتصدير العنف الديني لبلدان أوروبا بل والشرق الأوسط نفسه، كما هو الحال في سورية التي تقاطر إليها المقاتلون من مختلف أنحاء أوروبا خلال السنوات الأخيرة الماضية.

العنف القادم من الضواحي المهمشة للمدن الأوروبية في السنوات الأخيرة الماضية علي يد بعض أبناء الأقليات العربية والمسلمة المهاجرة، ليست مسألة جديرة بالاهتمام فقط من زاوية العنف الديني وحسب، بل من مختلف أبعادها ووجوهها الاجتماعية، فهو عنف لا يتفرغ في المقابل بالضرورة في ذلك الشكل الديني الذي تم تنميطه، ولكنه قد يأخذ أشكالاً متعددة بحسب السياق الاجتماعي والثقافي، ففي مقابل المشهد الأول في المدن الأوربية نجد أن قرينتها الأمريكية تزدهر فيها الجريمة والعنف الجنائي وأنشطة العصابات كمثال واضح.


ظاهرة «إنسان الحشد المعزول»، والعلاقة الوثيقة بين الازدحام والعنف

يعتبر إريك فروم، الفيلسوف وعالم النفس الألماني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في ثلاثينات القرن الماضي,، أن الازدحام والتهميش الذي تعانى منه تلك الضواحي عادة، يعد أول الأسباب تقريبًا لكونها المصدر التقليدي للعنف في المجتمعات الحديثة، حيث يختل هناك بشكل واضح التناسب بين حجم السكان والأساس الاقتصادي في المجتمع.[1]وفضلاً عن ذلك، يظل الإنسان أيضًا كما يذهب الأخير بحاجة دائمًا إلى نظام له مكانة فيه ويتمتع فيه بعلاقات مستقرة نسبيًا بالآخرين تدعمها القيم والأفكار المقبول، وهو ما تفتقر إليه الحياة في تلك الضواحي الفقيرة المزدحمة التي يتذرر خلالها السكان كالغبار المختلط.[2]

اعتبر إميل دوركهايم أن ظاهرة انعدام النظام هي أهم سبب في الرغبة في الانتحار الذي يزداد مع زيادة معدلات التحديث، والذي يعتبره جان بودريار سيرورة عدمية.

و قد أنتج ذلك بالنهاية اختفاء الكثير من التقاليد والقيم المشتركة والروابط الشخصية والاجتماعية مع الآخرين، إذ أن إنسان الحشد الذي يعيش في تلك الضواحي، كما يقول فروم، هو إنسان منعزل ووحيد، ولو أنه جزء من الحشد، فهو ليست لديه قناعات يشترك بها مع الآخرين إلا الشعارات والأيديولوجيات التي يحصل عليها من البيئة الخارجية ووسائل الإعلام.[3]

و لذلك فإن إنسان الحشد أصبح بالنهاية كذرة غير متماسكة إلا بإطار من المصالح المشتركة، إلا أنه حتى تلك المصالح تبقى متعارضة في معظم الأحيان؛ وبذلك تفقد هذه الذرة إطار تماسكها الأخير.[4]

و قد اعتبر إميل دوركهايم أن ذلك جزء من ظاهرة (انعدام النظام) التي أشرنا إليها في مطلع هذه الدراسة، وهي الظاهرة التي عدّها دوركهايم كأهم سبب في الرغبة في الانتحار الذي يزداد مع زيادة معدلات التحديث كما تطرقنا سابقًا، وهو ما يقترب من تعاطي جان بودريار مع التحديث، الذي يعتبره بدوره هذا الأخير سيرورة عدمية.

و قد تأخذ تلك الرغبة العدمية في الانتحار كما نلاحظ في بعض الحالات طابعًا عدوانيًا من خلال قتل المنتحر لأشخاص آخرين قبل أن يقتل نفسه، وهذا يحدث خاصةً في الولايات المتحدة أكثر من غيرها، حيث تنتشر الأسلحة النارية بسبب كثرة انتشار حمل السلاح الشخصي الذي يُعد حمله حقًا قانونيًا يحميه الدستور.

و ربما لا تعاني الولايات المتحدة بشكل عام من الازدحام الذي تعانى منه مجتمعات حديثة أخرى في هذا الإطار، ولكن تعاني أمريكا من جهة أخرى بالتأكيد ككل المجتمعات الغربية الحديثة من ظاهرة إنسان الحشد المعزول.

و عمليًا فإنه مع توافر ظروف معينة في سياقات اجتماعية أخرى كالاحتقان الطائفي أو انتشار فكر أيديولوجي معين أو تدين مفاجئ بأنماط تدين طارئة لظروف اقتصادية واجتماعية خاصة، يمكن أن تأخذ تلك الرغبة في التدمير أو الانتحار منحى أيديولوجيًا يختلف عن السلوك الجنائي المعتاد.


ما لن يخبروك به عن الجريمة في المجتمعات الغربية

و قد أخذ العنف الاجتماعي بالفعل أشكالاً عديدة في هذا الإطار، كما حدث تاريخيًا في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية أثناء الكساد العالمي العظيم، عندما اتجه العديد من المسجلين الجنائيين والعناصر الإجرامية إلى الانضمام إلى الحركات الفاشية في أوروبا، في سياق مختلف ولكن لا يبتعد كثيرًا عما يجري حاليًا في الضواحي الأوروبية، التي تصدر فائض العنف لديها من جهة أخرى عبر تقاطر المتطوعين منها بأعداد كبيرة للقتال مع تنظيم داعش في معاركه الراهنة في سوريا والعراق.

و قد قدمت لنا أوروبا القروسطية أيضًا في ظروف تاريخية تم استحضار تأويلات قيامية فيها شبيهة بتلك السائدة اليوم في العالم الإسلامي، العديد من المجموعات الدينية القديمة المتطرفة كفرسان المعبد وفرسان القديس يوحنا الذين شاركوا في الحملات الصليبية التاريخية المعروفة على المشرق الإسلامي، حين دفع شح الموارد وتفاقم الأوضاع المتردية السائد في أوروبا آنذاك إلى تصدير العنف خارجها عبر هذه الحملات التي ترافقت معها موجة واسعة من النزوح السكاني للاستيطان في المشرق.

و لعلها مفارقات القدر و التاريخ أن يعيد العالم الإسلامي الكرة في هذه الآونة إلى أوروبا، عبر العنف الموجه من بعض أبنائها الجانحين إلى قلب عواصمها اليوم، والمترافق مع أكبر موجة تاريخية من النزوح السكاني والهجرة الجماعية لنفس بلدان تلك العواصم.

و يبدو على مستوى آخر، أعم و أكثر شمولاً، أن كل المجتمعات الحديثة تمتلك ثقافة القتل الخاصة بها، وهي ثقافة تتغذى بدورها على تفاقم ظواهر نفسية موجودة في كل المجتمعات بلا استثناء، ولكن بشكل بشكل متفاوت، كالاكتئاب أو الإحباط وربما عبر أسباب اجتماعية أحيانًا كالتهميش والبطالة على سبيل المثال، وإذا كان الغرب المعاصر قد قدم لنا في هذا الإطار ظواهر كالقتلة المتسلسلين، وجرائم القتل العنصري التي تقوم بها جماعات كالكو كلوكس كلان والنازية الجديدة، وظاهرة الانتحار العدواني الذي تصاحبه عمليات قتل جماعي كحوادث إطلاق النار الشهيرة في المدارس والجامعات والأماكن العامة هناك، فقد قدم العالم العالم الإسلامي المعاصر إسهامه في هذا الصدد بالشكل الذي يعرفه الجميع والذى لا يختلف كثيرًا في ممارساته عن ثقافات القتل الأخرى، إلا في بروز الدافع الديني الناتج عن قوة التأثير الاجتماعي للدين، التي ما زالت قائمة في ذلك الجزء من العالم، وفي اتساع الحجم النسبي للظاهرة، الناجم عن اتساع مماثل في حجم الإحباط الذي يفوق على الأرجح نظائره لدى المجتمعات الثقافية الراهنة الأخرى في العالم للعديد من الأسباب الواضحة التي نحن في غنى ذكرها.

و لذلك من الصعب عمليًا اختزال قضية العنف كما يفعل كثيرون اليوم، وربطها بثقافة أو دين أو أمة معينة بحد ذاتها في الأخير، مع التجاهل في الوقت ذاته للطابع التكويني لهذه الظاهرة، وتجلياتها المختلفة من مجتمع إلى مجتمع.

فعلى سبيل المثال، لا يكاد يشكل أعداد أفراد الجماعات الدينية المسلحة برمتهم في العالم الإسلامي، الذي يُتهم بتأصل العنف بين جنباته، شيئًا يذكر بالمقارنة بأعداد منتسبي جماعات المافيا والجريمة المنظمة في مناطق أخرى من العالم كبلدان أمريكا اللاتينية أو اليابان التي يُقدر عدد أعضاء المافيا اليابانية فيها ،المعروفة بالياكوزا، بحوالي 150 ألف عضو على سبيل المثال.

و رغم أن تلك العصابات الإجرامية تمارس مختلف أشكال العنف والقتل والابتزاز في الشوارع الخلفية للعواصم والمدن الكبرى في تلك البلاد، إلا أن تلك الظواهر التي تؤثر بدورها على السياسة، وترتبط بشكل وثيق بقضية شبكات الفساد المنظم في بعض الدوائر الأمنية والرسمية، لا يغطيها الإعلام بذات الحجم الذي يولي به ظاهرة العنف الديني في العالم الإسلامي، الذي يتم تسليط الضوء عليه طوال الوقت، بل ربما تغطي أفلام السينما وأغاني الـ Gangster rap في هذا الإطار. وللمفارقة، حياة العصابات وعنفها الصاخب والدموي في زماننا الراهن أكثر من أي وسيلة إعلامية أخرى.


هل يمكن اعتبار إرهاب داعش مجرد «عنف اجتماعي» يتدثر برداء الدين؟

كل المجتمعات الحديثة تمتلك ثقافة القتل الخاصة بها، وهي ثقافة تتغذى بدورها على تفاقم ظواهر نفسية موجودة في كل المجتمعات بلا استثناء

يُلاحظ بوجه خاص في هذا الإطار أنه ومنذ بزوغ نجم ظاهرة داعش في سماء العمل الجهادي المسلح، باتت العديد من أعمال العنف تأخذ طابعًا يقترب من الطابع الجنائي؛ كالطعن المباشر باستخدام السكاكين مستهدفة أشخاص عاديين من آحاد الناس، إذ كانت أعمال العنف الجهادي قبل ذلك تتخذ في السابق طابعًا سياسيًا ورمزيًا عمومًا، وتخلو من الاستهداف الشخصي المباشر لآحاد للناس مباشرة.

تحول العنف الديني والسياسي منذ ظهور داعش وللمرة الأولى تقريبًا في هذا السياق، إلى جرائم قتل عائلية

و قد يختلط الجانب السياسي بالجنائي عمليًا في بعض تلك القضايا بسبب العلاقة الشخصية التي تجمع الجناة والضحايا بعضهم البعض بشكل مسبق، بصورة يُحتمل أن يختلط فيها الدافع الأيديولوجي مع الدافع الشخصي للقتل، وهذا يختلف عمومًا عن أعمال سلفه تنظيم القاعدة، التي تظل بشكل عام شكلًا من أشكال العنف السياسي الواضح، وهناك حوادث جلية في هذا الإطار كالحادثة التي جرت في مقاطعة سان برناندينو في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة حينما قام سيد فاروق هو وزوجته تاشفين مالك بقتل 14 من زملائه في العمل بعد احتدام مشادة بينهم أثناء حفل اجتماعي تركه غاضبًا ليعود بعد ذلك هو وزوجته يحملان الرشاشات الآلية ليطلقا النار على الحضور،[5] أو كما جرى في هجوم جامعة أوهايو الإثنين الماضي، حيث كان الشاب ذو الأصول الصومالية عبد الرزاق علي أرتان منفذ الهجوم طالبًا في الجامعة ذاتها.

و قد تحول العنف الديني والسياسي منذ ظهور داعش أيضًا وللمرة الأولى تقريبًا في هذا السياق، إلى أن تحول إلى جرائم قتل عائلية، إذ قام شاب يدعى (محمد الغامدي) يناصر التنظيم بقتل والده بسلاح آلي وهو يكبر في مدينة خميس مشيط جنوب المملكة العربية السعودية[6]، وفي الإطار نفسه قام شابان متأثران بفكر تنظيم الدولة، في محافظة الشملي التابعة لمنطقة حائل في شمال غرب السعودية، بذبح ابن عمهما الذي تربى معهما في نفس المنزل، بعد أن تم تسجيله كعسكري مستجد قبل شهر من تلك الحادثة[[7] وفي الإطار ذاته قتلت فتاةٌ دانماركية مراهقة تدعى ليزا بورش تعيش في قرية ريفية صغيرة بأقصى الشمال الدانماركي، والدتها بطعنها بسكين المطبخ أكثر من 20 طعنة في صدها، بتأثير من صديقها عراقي الجنسية، الذي كان هو والفتاة من المعجبين بتنظيم داعش ومن هواة مشاهدة فيديوهات الذبح التي يصدرها التنظيم كما تبين لاحقًا من تحقيقات الشرطة التي فتشت في الحاسب المحمول الخاص بتلك الفتاة.[8]

المراجع
  1. إريك فروم، تشريح التدميرية البشرية، الجزء الأول، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، منشورات وزارة الثقافة بالجمهورية العربية السورية، 2006، ص180.
  2. المرجع نفسه ص 181.
  3. م، ن، ف، ص.
  4. م، ن، ف، ص.
  5. تعرف على الباكستاني سيد فاروق وتشفين مالك المشتبه بهما في هجوم كاليفورنيا، تقرير منشور على موع هافينغتون بوست بتاريخ 03/12/2015 على الرابط أدناه.
  6. مقتل مطلوب بالسعودية بعد قتل والده وإصابة رجلي أمن، تقرير منشور على موقع جريدة العربي الجديد الصادرة من لندن بتاريخ 14 يوليو 2015.
  7. مقتل داعشي والقبض على شقيقه بمحافظة الشملي، تقرير منشور على موقع جريدة عكاظ السعودية بتاريخ 26/09/2015 على الرابط أدناه.
  8. شبح "داعش" يقتل دانماركية بسكين ابنتها وصديقها العراقي، تقرير منشور على موقع العربية نت بتاريخ الأربعاء 3 ذو الحجة 1436هـ – 16 سبتمبر 2015م على الرابط أدناه.