اتخذ البنك المركزي المصري اليوم، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، قرارًا يقضي بتخفيض قيمة الجنيه بنسبة 48% ليسجل الدولار 13 جنيهًا في السوق الرسمية بالبنوك مع السماح للبنوك العاملة في مصر بتسعير النقد الأجنبي بهامش بنسبة 10% ارتفاعًا وانخفاضًا وفقًا لحركة العرض والطلب؛ وذلك من خلال آلية الإنتربنك.

ويأتي ذلك في خطوة من الحكومة لإحداث توازن فى سوق الصرف وإنهاء أزمة شح الدولار في البنوك، ما أدى لتضخم سعره في السوق الموازية.

وخلال دقائق من اتخاذ القرار، بدأ التعامل مع الدولار بمستويات مختلفة داخل البنوك المصرية، حيث أعلن البنك التجاري المصري (CIB) عن بيع الدولار بـ 12.95 جنيهًا مقابل 13.5 جنيهًا للشراء، أما بنك مصر فتتم تعاملاته على 13.1 جنيه للبيع و 13.5 جنيه للشراء، وجاءت التداولات داخل بنك الاتش اس بي سي «HSBC» عند 13 جنيه للبيع و14.3 جنيه للشراء، وهو الحد الأقصى المسموح به وفقًا لقرار التعويم.

أزمة الدولار في مصر هي مشكلة هيكلية منذ سنوات مضت وخاصةً بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني التي تبعها هروب مليارات الدولارات من مصر، وضعف قدرة المصادر الأخرى في توفير مزيد من الدولارات في ظل ضعف الصادرات، حيث تواجه معظم دول العالم تباطؤًا في معدلات النمو الاقتصادي فضلًا عن المشاكل في الإنتاج التي تسببها أزمة الدولار، وكذلك يتراجع الدخل من قناة السويس بسبب تباطؤ حركة التجارة العالمية، فضلًا عن تراجع عائدات السياحة وتقلص تحويلات العاملين من الخارج.


ماذا يعني تعويم الجنيه المصري؟

منذ الإعلان عن اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بمبلغ 12 مليار دولار، على مدار ثلاثة أعوام، بواقع 4 مليارات دولار في العام، بفائدة لا تتجاوز 1.5%، والمتعاملون مع مصر سواء على الصعيد المحلي أو الأجنبي ينتظرون تنفيذ شروط هذا الاتفاق، والتي يأتي من ضمنها تعويم الجنيه المصري.

يعتبر التعويم أداة من أدوات السياسة النقدية للحكومات، تستخدم فقط مع العملات التي تحدد الحكومات قيمتها، ولا تكون متروكة لعوامل أخرى. ويختلف التعويم عن تخفيض قيمة العملة، الذي تحدده السوق المفتوحة على أساس العرض والطلب.

والتعويم أيضًا عكس الربط، الذي تتبعه دول الخليج فيما عدا الكويت، فالعملات المربوطة مقابل عملة رئيسية يتم تعويمها من خلال فك الارتباط سواء جزئيًا أو كليًا. ولمواجهة زيادة تجارة الدولار في السوق السوداء قرر البنك المركزي المصري تفعيل أداة التعويم وفك ربط الجنيه المصري بالدولار جزئيًا، تمهيدًا لتعويمه، بنسبة 14% في مارس/آذار 2016.

وتعويم العملة في العموم هو السماح لسعر صرف العملة بأن يتحرك بحرية بشكل كامل، بحيث لا تتدخل الحكومة أو البنك المركزي في تحديده بشكل مباشر سواء من خلال عمليات السوق المفتوح أو من خلال طرح عطاءات دولارية كما شاهدنا الفترة الماضي. وإنما يتم تحركه تلقائيا في سوق العملات من خلال آلية العرض والطلب التي تسمح بتحديد سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية. وسعر صرف الدولار يتم التعامل معه مثل التعامل مع أي سلعة تباع وتشترى في الأسواق المحلية بفئة معينة من الجنيهات. وكلما توافرت تلك العملة كلما كان سعرها أقل والعكس حينما تقل تلك العملة في الأسواق تتضخم قيمتها بالجنيه المصري.

ويرتبط نظام التعويم بصورة مباشرة بالوضع الاقتصادي للدولة وقوة اقتصادها وبالتالي يمكن للعملة أن ترتفع قيمتها مع الوقت مع قيام الدولة بعمليات التحسين والإصلاح في النظام الاقتصادي الخاص بها، كما يمكن أن يتأثر سعر العملة سلبًا بأي أزمات اقتصادية تمر بها الدولة صاحبة العملة وتنخفض قيمتها، وهو الأمر المرجح في الحالة المصرية في ظل معاناة الدولة من مشاكل اقتصادية متعلقة بتدني معدلات النشاط الصناعي والسياحي وتدني معدل النمو الاقتصادي.


أنواع «التعويم»

هناك نوعان من التعويم،أولهما؛ التعويم الحر ويعني ترك سعر صرف العملة يتغير ويتحرك بحرية وفقًا لقوى السوق من عرض وطلب، ويقتصر تدخل البنوك المركزية في تلك الحالة على التأثير فى سرعة تغير سعر الصرف، وليس الحد من ذلك التغير.

وعادةً ما يتم تطبيق ذلك النوع في الدول الرأسمالية الصناعية، مثل الدولار الأمريكى والجنيه الاسترليني والفرنك السويسري، لكن من المستبعد الاعتماد عليه في مصر في ظل معاناة الاقتصاد من خلال العديد من الأزمات، كذلك مازالت مصر دولة نامية تستورد أكثر من نصف حاجاتها المحلية ولم يصل مستوى صادراتها إلى المستوى الذي يسمح بالاستفادة القصوى منه

والنوع الثاني من التعويم هو التعويم المدار، والمقصود به أن يتحرك سعر الصرف بناء على قوى العرض والطلب لكن مع تدخل البنك المركزي كلما دعت الحاجة إلى تعديل سعر العملة من خلال عمليات السوق المفتوح، كأن يقوم البنك المركزي بضخ مزيد من الدولارات في السوق لشراء الجنيه وتعزيز قيمته، او أن يقوم بضخ مزيد من الجنيهات لشراء الدولار لتخفيض قيمة الجنيه.

وذلك استجابة لمجموعة من المؤشرات مثل مقدار الفجوة بين العرض والطلب فى سوق الصرف، ومستويات أسعار الصرف الفورية والآجلة، والتطورات فى أسواق سعر الصرف الموازية.


هل تم تعويم الجنيه في وقت سابق؟

في عام 2003 قررت الحكومة تعويم الجنيه وتركت تحديد قيمته لقوى العرض والطلب في السوق، الأمر الذي تسبب في ارتفاع سعر الدولار بنسبة اقتربت من 50%.

وكان سعر الدولار قبل قرار التعويم فى الأسواق 3.40 جنيها للدولار، وبعد قرار التعويم ارتفع ليصل إلى 5.5 جنيها، ثم ارتفع مرة أخرى، ولامس سقف 7 جنيهات، لكي يستقر عند 6.20 جنيه في ذلك الوقت.

والغريب في الأمر، أنه حينما تم التعويم في عام 2003 لم يكن هناك ضرورة لذلك ولم يكن هناك شروطًا مفروضة على الحكومة من قبل جهات دولية مثل صندوق النقد الدولي.

بل تم التعويم من أجل مصلحة بعض رجال الأعمال، أما معظم الشعب فقد عانى بسبب ارتفاع الدولار جراء التعويم، مما يعني أنها كانت خطوة فاشلة وجاءت فقط لمصلحة فئة التجار ورجال الأعمال.


أثر التعويم على الاقتصاد المصري

باتجاه الحكومة فعليًا إلى تنفيذ قرار تعويم الجنيه ليصل إلى مستوى 13 جنيهًا للدولار، من المتوقع أن يشهد سعر الجنيه انخفاضًا أكبر في السوق السوداء بسبب استمرار الأوضاع الاقتصادية المتدنية وبالتالي سيكون هناك ارتفاع كبير في الأسعار على المستوى الداخلي خاصة مع اعتماد مصر على الاستيراد بنسبة كبيرة في السلع الغذائية الأساسية وهو ما قد يؤثر على الأوضاع المعيشية للمواطنين خاصة في الفترة الأولى لتنفيذ القرار.

1. التضخم

حيث أن النتيجة الأولية لتعويم الجنيه هو انخفاض قيمته بصورة كبيرة وسريعة، فمن المتوقع أن يظهر التأثير بشكل سريع على التضخم- وهو الارتفاع في المستوى العام للأسعار- الذي سجل أعلى مستوياته في أغسطس/آب 2016 عند معدل سنوي بلغ 16.4% مقابل 7.9% فى أغسطس/آب 2015، وهو ما يعني تضاعف الأسعار خلال عام واحد بسبب أزمة الدولار.

ومن أشد المتضررين من ارتفاع نسب التضخم فى الاقتصاد هم محدودي ومتوسطي الدخل: الذين يتحولون إلى طبقات فقيرة جراء عدم قدرتهم على توفير احتياجاتهم الأساسية نتيجة تراجع القيمة الشرائية للعملة المحلية، مما يؤدى لزيادة معدلات الفقر، أما الأغنياء فهم الأقدر على الاستفادة من الوضع الراهن بالتوجه إلى تحويل ما تقتنيه من عملة محلية إلى عملات أخرى كالدولار نتيجة استمرار انخفاض قيمة الجنيه بصورة مستمرة، أو فى أصول عقارية أو ذهب وهي عادة أصول يصعب انخفاض قيمتها فى ظل تراجع قيمة الجنيه.

2. الصادرات

إن كان من شأن تعويم الجنيه المصري أن يقلل الضغط على البنك المركزي فيما يتعلق بحجم احتياطيات العملة الأجنبية فيه، لكن تلك الميزة في الاقتصاد الكلي ليست مهمة كثيرًا، وإنما الأهم أن انخفاض قيمة العملة الوطنية نتيجة التعويم سيؤدي إلى زيادة الصادرات.

فالمنتجات المصرية ستصبح أرخص كثيرًا في الأسواق الخارجية، لأن الجنيه المصري انخفضت قيمته كثيرا مقابل الدولار واليورو وغيرهما من العملات الأجنبية؛ ومن ثم تصبح الصادرات المصرية أكثر تنافسية في الأسواق العالمية.

3. الواردات

في مقابل أثر الصادرات سيكون لتعويم الجنيه تداعيات سلبية كبيرة على الأسعار التي سترتفع أكثر مما يحدث في الوقت الحالي. كذلك في حالة مصر التي تعاني اقتصادًا متباطيء فإن التعويم سيتبعه انخفاض كبير في قيمة الجنيه المصري بما يُعني زيادة تكلفة الواردات- علمًا بأن مصر تستورد نحو 70% من السلع الغذائية اللازمة لسد الاحتياجات المحلية، إلى جانب زيادة تكلفة المواد الخام اللازمة للصناعة، والمواد الوسيطة والسلع الاستثمارية.

مع الأخذ في الاعتبار زيادة أسعار عددا من السلع عالميًا خلال الفترة الأخيرة، مثل السكر واللحوم ومنتجات الألبان. كذلك تتقلب أسعار صرف العملة العائمة باستمرار مع كل تغير يشهده العرض والطلب على العملات الأجنبية، حتى إنها يمكن أن تتغير عدة مرات في اليوم الواحد.


يمكننا القول بأن قرار تعويم الجنيه المصري أبدًا لن يكون في صالح المواطن في ظل ضعف الهياكل الاقتصادية والتشريعات المحلية في الوقت الراهن، فالقرار لن يحل أزمة العملة ولن يستطع القضاء على السوق السوداء، ذلك لأن التخلص من السوق السوداء مرهون بقدرة القطاع المصرفي الرسمي على تلبية كامل احتياجات المستوردين من العملات الأجنبية، وذلك أمر في غاية الصعوبة بالنسبة للبنوك التي تعاني من عجز في توفير العملات الأجنبية.

والمحتمل أن يزيد التعويم الأوضاع سوءً، في ظل التوقعات بارتفاع جنوني للأسعار وزيادة كبيرة في الدين الخارجي.

وكل ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تدهور الوضع الاجتماعي للمواطن الذي يعاني بالفعل من آثار الكثير من القرارات الحكومية التي تزيد على كاهله المزيد من الضغوط، كإقرار ضريبة القيمة المضافة الذي ترتب عليه ارتفاع أسعار بعض السلع بنسب تتراوح بين 20-30%.