تُعد رواية «ثورة الأرض» للروائي البرتغالي «جوزيه ساراماغو» واحدة من أهم روايات الأجيال، التي تتناول حيوات متعاقبة أو متباعدة عن قرب، في عمل أدبي بديع، وتقرير طويل جداً عن تاريخ الظلم والقهر في «الوسية» مسرح أحداث العمل.

تاريخ البشرية الأزلي

هذه حكاية فريدة عن الإنسان، قد تظنها في البدء حكاية عن الأرض، عن الطين، أو التراب. قد تظنها عن مواسم الزرع والحصد وأوقات البرد وأوقات قيظ أغسطس الخانق الذي لا يُحتمل؛ صحيح أن الرواية تتحدث عن كل هذا، ولكنها ليست عن هذه الأشياء فقط، ولكنها حكاية عن الإنسان المجاور لهذه الأرض والمُكلَف بحمايتها من الآفات والطيور الآكلة للمحصول ومن اللصوص وقُطّاع الطرق.

هذه هي الدنيا، لا يتقي البعض شر البعض حتى لو كانوا شديدي القرب كالأم والابن.

«جوزيه ساراماغو» الكاتب البرتغالي الذي تدخّل أكثر من مرة في سرد الحكاية مُقاطعًا الراوي العليم بكل شيء، قام «ساراماغو» بدوره على أكمل وجه، سارداً حكاية «ثورة الأرض» التي لا تحكي عن الأرض وحدها، بل عن الإنسان، مالكها والعامل فيها، منْ يأكل منها ومنْ يجوع ويموت فيها من الجوع والبرد دون أن يحصل على أي شيء من حقوقه.

والموت مثل مسطرة تُسوِّي الحبوب فوق مكيال الحياة، فيسقط ما علاها مما يفيض، رغم أننا لا نعرف معياراً لذلك.

في الوسية مسرح الأحداث، يُحدثنا «ساراماغو» عن الأرض والطين ومواسم الزرع والحصد، ثم يشرع في سرد حكاية آل «المنحوس» أبطال العمل الأساسيين، والمتأثرين بكل شيء يحدث في أرض الوسية، وبكل شيء يفعله أو يقرر فعله رب العمل أو رب الدنيا.

قد نظن أنها حكاية عن الفلاحين والعمال في الوسايا فقط، أو عن عمال البرتغال في القرن العشرين فقط، ولكن «ساراماغو» الصحفي والناقد وجلّاد السلطات قد أفرد في «ثورة الأرض» مساحات شاسعة لنقد الجميع، وإبراز عيوب هذا العالم المخروب، والذي يبدو لنا جميعاً أن محاولات إصلاحه لن تؤدي إلى شيء.

كم نحن شعب عاطفي… لم يستطيعوا حتى الآن أن يُجفِّفوا ينابيع دموعه.

بداية من «دومينجو المنحوس» الذي لم يفعل أي شيء جيد في حياته سوى أنه شنق نفسه، يبدأ «ساراماغو» بالتوغل في الحكاية والترحل فيها ذاكراً ما يود أو يجوز ذكره، ومشيراً للأمور التي لا يسعه سردها في هذه الحكاية لقصر الوقت أو لعدم الخروج عن الحيز المرجو اشغاله.

يستلم البطولة «جوان المنحوس»، الرجل الذي شاخ قبل أوانه بكثير، وعانى كما لم يعاني أي شخص، وتم تعذيبه بكل السبل الممكنة كي يعترف بانضمامه للجماعات الشيوعية، التي لا تهدف إلا إعطاء كل ذي حق حقه، وهذا ما لا يُرحِّب به أي شخص صاحب سلطة؛ بدايةً من مُلاك الوسايا ووصولاً إلى ضباط الحرس الجمهوري المرتشين ورؤساء العمال، وحتى القس «أجاميدس» الذي يأكل من عرق صياحه في المصلين عندما يحسهم علي ترك ملذّات الدنيا وإيجاد الحكمة في العذاب والجوع من أجل المسيح المخلص. كل هؤلاء يأكلون ما يجب أن يأكله العمال وأبنائهم وأبناء أبنائهم بدلاً من الموت جوعى ومرضى.

«ثورة الأرض» هي بطولة مشتركة بين الأرض التي هي مكان العمل ومسرح أحداثه، وبين آل «المنحوس» وأصحابهم الذين لا يكلّون من محاولات صنع الثورة، رغم أنهم لا يدركون معنى كلمة «ثورة» من الأساس. كل ما يعرفونه ويريدونه هو أن يعملوا بمقابل 33 «إسكودو» كي يسددوا ديونهم المتراكمة في سجلات محلات البقالة. هم يريدون أن يحصلوا على يوم إجازة ثابت وإجازة يوم عيد العمال كل عام، والعمل لثمان ساعات مثل الجميع. يريدون أن يموتوا مثلما يمكن أن يموت أي شخص طبيعي بعدما يتمتع بحقوقه الأساسية كالأكل والشرب والنوم بعمق وممارسة الجنس وإنجاب الأولاد. يريدون ألّا يشعروا بالعجز قبل الـ 30، وألّا يموت أولادهم من الجوع والمرض، وألّا تمرض نسائهم من كثرة العمل من أجل قوت اليوم.

هذه هي كل طلباتهم وكل أحلامهم التي تفشل بسبب القبضة الأمنية التي تحكمهم بالحديد والنار، وتقتص منهم من أجل إرضاء أصحاب الوسايا، الذين يُطعِمونهم ويُطمِعون رؤسائهم.

سنوات وراء سنوات يعيشونها، فترات طويلة وأحوال كثيرة لو كتب كل منهم حياته ستمتلك مكتبة هائلة الحجم.

«ساراماغو» حكى ما رآه بعين الحدأة، التي تُحلِّق بجناحين مفرودين فوق أرض الوسية، الشاهدة على تعاقب حكام الوسايا واستمرار الظلم، والشاهدة على فناء رجال ونساء وأطفال الوسايا قبل أوانهم، بسبب الجوع والمرض والظلم الذي يقتل كل فقراء العالم.

السرد والحوار على طريقة «ساراماغو»

بـ لغته ومفرداته الحادة، وجمله الطويلة المكونة من عدة مقاطع، وسرده العبقري الذي لا يخفي شيئًا، وأسلوبه الصحفي التقريري، وقدرته على النقد والتغلغل داخل نفوس أبطاله العاديين، في حكاية قديمة وعادية ومكررة عن الظلم والفساد، وعن لصوص اختصروا معنى الإله فيهم، مانحين أنفسهم فقط سلطة التحريم والثواب والعقاب، ومستغلين القداسة التي يمنحها لهم جهل الناس في السيطرة عليهم وكبح جماحهم حينما يثورون على الظلم ويُطالبون بأبسط حقوقهم.

عن الأبطال الرئيسيين

أنطونيو المنحوس ابن جوان المنحوس ابن دومينجو المنحوس… فاوستينا المنحوس زوجة جوان المنحوس… مانويل السيف… جرانثيدا المنحوس زوجة مانويل السيف، والمرأة الوحيدة التي شاهدت الموت بعينيها، حينما حضرت الاضطراب الذي تم إطلاق النار فيه على العمال وسقط حينها رجل ومات، ومن بعدها زاد يقين أولئك الرجال أن هذه الحرب يجب أن تنتهي بانتصارهم… حكاياتهم وحكايات الآخرين في دنيا لم تُخبرنا عن كل ما يدور فيها، ولم تبح لنا بكل أنواع الظلم الساكن في نفوس ساكنيها وحاكميها.

«ثورة الأرض» حكايتنا نحن… منْ يُولدون… يُعانون… يموتون… يعيشون جوعى ومرضى ومهمشين… حكاية كل الناس، والتي تصلح لكل زمان ومكان.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.