طُلب مني، ذات يوم، أن أكتب مقالًا عن علاقة السرد بالرقابة. بحثت طويلًا عمَّا يُحتم الارتباط بينهما، لم أجد في خبرتي البسيطة ما يُبرر هذا الحتم. فكَّرت أن الرقابة هي حد اجتماعي لصيانة ثبات وسكون المجتمع، تحمي أضلاعه الثلاثة: السلطة الدينية والسياسية والأخلاق العامة، أمَّا السرد فهو نشاط إنساني يصب التجارب والأخيلة في قالب يُمكِّن الناس من إقامة معنًى لوجودهم. هل تحدث علاقة ضرورية بينهما إلا عندما تتجه القصص –بطريقة مباشرة وأحيانًا فجة- إلى هذه الأضلاع الثلاثة للمجتمع؟

استعرضت في البداية العلاقة بين الرقابة والإنتاج الفكري بشكل عام، وفكرت في أزمة كتاب «الشعر الجاهلي» و«الإسلام وأصول الحكم»، وهنا كان الأمر واضحًا ومُبررًا؛ فالإنتاج الفكري يضرب مباشرة في الأسس التي تقوم عليها أعمدة المجتمع ويطمح إلى خلق مناخ جديد وتفكير مغاير في ماضينا، لكن السرد أمر آخر؛ إنه قصص. لأية أسباب يُحرِّم المجتمع بعض القصص؟ ما الذي يدفع القائمين عليه لكي يقولوا إن هذه الرواية يجب عدم تداولها لأنها تهز أسس الاجتماع وتُخرِّب العقول؟

فكَّرت فيما حدث لرواية «أولاد حارتنا» ثم قضية «وليمة لأعشاب البحر» ثم «أزمة الروايات الثلاثة»، وفكرت في العامل المشترك بين تلك الحالات، لم أجد غير نوع من التوجس يواجه به المجتمع كل ما هو جديد، فالمجتمعات على ما يبدو تميل إلى الحفاظ على سكونها وثباتها ضد عوامل التغير التي تعمل سرًّا في أعماقها. هذا الحس المحافظ هو الذي يثير تلك الضجة الكبيرة، وفي العقود الأخيرة في بلادنا انتشر هذا الحس بسبب سطوة التيارات الدينية.

تذكرت نقاشاتي مع زملائي أيام «وليمة لأعشاب البحر» أو أيام محاولة اغتيال «نجيب محفوظ» أو «أزمة الروايات الثلاثة»، كنت أسأل هل هذه الروايات يمكن أن تهز أركان الدين؟ هل يمكن أن تهز أركان المجتمع؟ كيف؟ ألم يمر على الدين مئات السنين وتعرَّض لمثل تلك الأفكار، بل ربما أكثر منها جذرية، ولم يحدث أن تراجع؟ ألم تتعرض المسيحية لأقسى أنواع النقد ولا زالت أعلام البلاد ورايات فرق كرة القدم تحمل الصليب؟

لم تكن النقاشات تنتهي إلى شيء، تدور في حلقة حماية الدين والمجتمع والسلطة السياسية، حتى فكرت أن الأمر لا يخص الحماية بقدر ما يخص إظهار السطوة، وأن الرقيب الذي يقف في مجلس الشعب يتحدث بغضب عن الروايات الداعرة أو الملحدة وهو يمسك لحيته لا يعني أكثر من أن يُظهِر نفسه باعتباره رقيبًا، يمثل حارس النوم الطويل للأمة. إنه يقول للناس ناموا، أنا أحمي نومكم وثباتكم، لا تقلقوا. كأن الأمر يخص إزالة القلق أكثر منه اقتناعًا حقيقيًّا بأن تلك الروايات يمكن أن تؤثر في نشر الانحلال أو الإلحاد، أو تهز أركان السلطة السياسية، فلم يحدث لرواية أن جعلت الناس تنحل أو تلحد، وإنما تطورات المجتمع وعمل الناس على الأرض وسياق الحوادث هو ما يفعل ذلك، وليس الروايات.

الروايات لا تُغيِّر العالم، الروايات تساعد البشر على التبصر بحياتهم وتمنحهم زوايا أخرى للتفكير في خبرتهم؛ تساعدهم على فهم الطبيعة المراوغة للحياة. هنا سألت نفسي السؤال العكسي ماذا سيحدث للسرد إن اختفت الرقابة؟ بطبيعة الحال سوف تغتني حياتنا بإبداعات جديدة، لكن هناك رقابة أكثر قوة غائرة في اللحم والفكر، إنها التنشئة الاجتماعية والمناخ العام، لكن هل اختفاء الرقابة سوف يُعمِّق فهمنا لخبراتنا؟ سوف يساعد على تطوير أساليب السرد وتقنياته التي هي شبكة نستعملها لاصطياد الخبرة أو لاكتشاف معنًى ما يحدث لنا وحولنا؟ خُيَّل إليَّ أن انتفاء الرقابة لن يُساعد في دفع قوة التبصر لكشف المعنى الخبيء لحياتنا، أو القرب من جوهر الخبرة.

لم أجد أن للرقابة علاقة، وهو أمر في خبرتي لم يكن موجودًا فلم أعانِ من ذلك، إلا في عدد محدود من المرات، وما عانيته حقيقة في بداية مشواري، كان مع سطوة أخرى، سوف أسميها «سلطة التنميط والنسخ». الكتابة بطريقة مكررة أو متداولة أو تجري وراء الموضة الأدبية. عانيت من ذلك، وأدركت أنه يطمس الخبرة الفريدة للكاتب، ومنذ البداية فرَّقت بين أمرين: «النسخ» و«الكتابة».

«النسخ» باعتباره خضوعًا للنمط السائد من الكتابة الرائجة، و«الكتابة» باعتبارها نشاطًا فعَّالًا للفهم، أساسها صبرنا وإخلاصنا في تأمل الخبرات المباشرة التي نحاول تأويلها، خاصةً أنني عاصرت منذ الثمانينيات ظهور الموضات الأدبية وتواريها، حضرت الغرام بـ «ماركيز» واعتباره «كاتبنا»، ثم الهوس بـ «بورخيس»، ثم موضة «كونديرا» وحالة «ساراماجو». حضرت كل هذا وعرفت أنه لا يبقى غير التأمل في الخبرات، واستخدام كل ما تعلمته من تقنيات الأساتذة في تلمس وبناء أحد أطياف معاني الخبرة.

لم يكن في حالتي أي مجال لتدخل الرقابة، ولا التفكير فيها، فقد كنت أفكر أنني يجب ألَّا أُعبِّر عن مظاهر الفقر، لأثير المشاعر وأقول إن الدولة فاسدة، أو المجتمع، لم يكن ذلك هدفي، بل توجهت إلى أن أتحرى أثر الفقر على الروح؛ أثر الفقر أو الحب أو الانغمار في الشهوة.

كنت أفكر بشكل يجعلني أحاول أن أقترب من الظواهر الروحية والنفسية واصفًا إياها، لذا لم تكن فكرة الرقيب عقبة في أثناء عملي، بل كانت العقبة هي تسلل النسخ والموضة والرائج، وأدركت أن مجتمعنا بإهماله للناس وحرمانهم من تحقيق ذواتهم سوف يجعلهم صيدًا سهلًا للتقليد؛ لكي يحوزوا الإعجاب والإحساس بكيانهم وبأنفسهم كفاعلين، وبدا أن أنسب ما يمكن أن يُقدَّم لي من عون هو قراءة مقال «ما هو التنوير» للفيلسوف الألماني «كانط»، والذي يُعرِّف فيه التنوير بأنه تفكير المرء لنفسه، وفي أثناء ذلك المشوار أدركت كم هو صعب أن تفكِّر لنفسك وتكتب بطريقة مغايرة، لكن الأمر لا يخلو من فائدة، لأنك تُعاين خبرة حقيقية، لا تتركك فارغًا حتى لو لم يهتم أحد بعملك، لقد رأيت وبنيت -مُستخدمًا كل المواد التي تعلمتها- وأنشأت فهمك الخاص لخبرتك.

السرد مرن بدرجة لا يمكن أن ينالها الرقيب. القصص فن عصي على السيطرة، تنتشر أكثر مما تنتشر المعلومات الجامدة على الحجر في ساحات المعابد، لها قدرة مذهلة على التخفي والمراوغة. تذكرت كلمة نجيب محفوظ عن أن «الرواية فن ماكر»، وتذكرت أنه في ظل الرقابة القيصرية كتب «تشيكوف» أعظم القصص.

الفنان ماكر مثل فنه، يمكنه أن يبدع خبرة عظيمة ويترك حماة المجتمع الساهرين على أخلاقه وسطلته ودينه، يصرخون مثلما صرخ حماة المجتمع في نيويورك وهم يحرقون «يوليسيس» بأن الأخلاق العامة سوف تتعرض للانحلال. عاشت «يوليسيس» كفن أصيل والمجتمع أبدع شكلًا آخر من أشكال العلاقات التي خافوا منها، ولو استيقظ من أحرق الرواية في نيويورك سنة 1921 فسيظن أن هذا الشكل الجديد للعلاقات القائمة جاء بسب أنهم لم يحرقوا «يوليسيس» جيدًا. كان يجب أن يمحوا الفضاء الذي أنتجها.

في النهاية تتبقى كلمة «ستيفن ديدالوس» -في رواية «صورة الفنان في شبابه» لـ «جيمس جويس»- صالحة لتشير إلى الطريق:

أنا ابن هذا الجنس وهذه البلاد وهذه الحياة… ولسوف أُعبِّر عن نفسي كما أنا.

لكن مَنْ يقدر؟ ذلك هو التحدي.