على مدار أكثر من 13 قرنًا، حظي- ولا يزال- الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز بتقديرٍ واحترامٍ بارزيْن، فأطلقَ عليه كثيرون لقبَ خامس الخلفاء الراشدين، مُلحقينَ فترة خلافته القصيرة (99هـ – 101هـ) التي جاوزت العاميْن بقليل، بما اصطُلِحَ على اعتبارها الخلافة الراشدة التي انتهت قبلَه بما يقارب الستين عامًا.

لم تأتِ تلك السمعة التاريخية الباهرة من فراغ، فخلالَ مدةِ حُكمه الخاطفة، نجح عمر في أن يعيد إلى ذاكرة الأمة الإسلامية ذكريات عدل الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وبدأ بخطواتٍ إصلاحية سياسية عاجلة، فخطب أولًا في الناس في جامع العاصمة دمشق معلنًا أنه يعيد إليهم شرعية اختيار من يحكمون، فأقرَّه الحاضرون خليفةً بالإجماع. ثم عزل من كان يراهم ولاةً مستبدين مثل والي البصرة يزيد بن المهلب، وأصلح القضاء، وأقام العدل، فلم يفرِّق في فرض القانون بين أفراد أسرته الأموية، وسواهم من عامة الناس، وعمل بشجاعةٍ بارزة على مراجعة أملاك وأموال الأمويين، وذلك لينتزع منها ما جُمِع بغير وجهِ حقٍّ بسطوة السلطان في عصور الخلفاء الأمويين السابقين، وفي ذلك السياق ينقل المفكر الإسلامي الراحل دكتور محمد عمارة في كتابه «مسلمون ثوار» مشهدًا دلاليًا مؤثرًا، أخذ فيه أحد رجال الخليفة عمر، وهو غيلان الدمشقي، ينادي في المزاد على ما صُودِرَ من الأموال والممتلكات غير الشرعية للأمويين صائحًا:

هلُمَّ إلى متاع الخونة! تعالوْا إلى متاع الظلمة.. تعالوْا إلى متاع من خلفَ رسولَ الله في أمتِهُ بغيرِ سُنّتِه

مما جرَّ عليه وعلى الخليفة عمر نقمة الأمراء الأمويين وحلفائهم، ودفع كلاهما حياته لاحقًا ثمنًا لهذه الحملة الصادقة لإعادة الحقوق، التي دفعت كثيرًا من الخوارج المتمردين بالسلاح على الدولة الأموية إلى إعلان الهدنة تقديرًا للعدل الذي بسطهُ عمر، فعصموا دماءهم ودماء خصومهم إلى حين.

اقرأ: قصة المعارض السياسي الذي قضى تحت سياط الخليفة العادل

كذلك راجَع عُمر بن عبد العزيز الفتوحات العسكرية التوسعية للتأكد من شرعيتها، وسلامة خططها، فأمر بانسحاب الجيش الإسلامي الذي كان يحاصر القسطنطينية عاصمة البيزنطيين آنذاك، بعد أن فشل الحصار الطويل لأشهرٍ عديدة في تحقيق النتيجة المرجوة، وتعرض الجيش لاستنزافٍ كبير نتيجة طول خطوط الإمداد، وهجمات البيزنطيين. وينقل البلاذري في «فتوح البلدان» ما فعله عمر عندما شكا إليه وفدٌ من أهل مدينة سمرقند أن الفاتح قتيبة بن مسلم أخذ مدينتهم غرة دون أن يدعوهم أولًا، فأمر عمر أحد القضاة أن يفصل في الأمر، فلمَّا أكد ما قاله الوفد، أمر بإلغاء الفتح.

اقرأ: في عاميْن .. كيف حوَّل خامس الخلفاء الراشدين (شبه دولة) إلى معجزة؟

الثورة الأموية المضادة: السم يغير التاريخ

.. إني والله لأعلم أنها تكون فتنة، ولا يتركونه أبدًا يلي عليهم إلا أن أجعلَ أحدَهم بعدَه ..
الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك متحدثًا إلى كاتبه رجاء بن حيوه، عن تخوفَّاته من رد فعل إخوته أبناء عبد الملك بن مروان على توصيته بالخلافة إلى ابن عمهم عمر بن عبد العزيز (نقلًا عن تاريخ ابن خلدون)

كان وصول عمر بن عبد العزيز إلى سدة الحكم في دمشق استثناءً بارزًا في العصر الأموي، فقد أوصى إليه بالحكم ابن عمه سليمان بن عبد الملك، كاسرًا القاعدة السائدة في الانتقالات السابقة للخلافة الأموية من الأب لابنه، أو من الأخ لأخيه. ولكن اضطر سليمان إلى أن يجعل ولاية العهد من بعد عمر بن عبد العزيز لأخي سليمان، يزيد بن عبد الملك، وذلك ليهدئ من غضب الفرع الأموي الأقوى آنذاك وهو فرع أبناء الخليفة عبد الملك بن مروان.

شهرٌ بعد شهر، تصاعدَ غضب جمهور الأمويين ضد ابن عمهم عمر بن عبد العزيز، الذي حرمهم من كثير من امتيازاتهم السياسية والمالية، فنقل ابن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» رسالة غضب، وتهديد صريح من ابن خليفة أموي أسبق، وهو عمر بن الوليد بن عبد الملك، لعمر بن عبد العزيز نصها:

إنك قد أزْريْت على من كان قبلك من الخلفاء، وعِبتَ عليهم، وسِرتَ بغير سيرتهم بُغضًا لهم، وقطعت ما أمر الله به أن يُوصَل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، فأدخلتها في بيت المال جورًا وعدوانًا … ولن تُتْرَكَ على هذا!

فرد عليه الخليفة عمر برسالةٍ قوية اللهجة، أكد فيها تمسُّكه بإقامة العدل، ورد الحقوق، ولو على ذوي القربى وأصحاب الحيثية، واختتمها بقوله:

والسلام علينا ولا ينال سلام الله الظالمين

أمام صلابة عمر بن عبد العزيز في تطبيق إصلاحاته الثورية، لم يكُن أمامَ خصومه هؤلاء سوى التخلص منه، لا سيَّما وقد خشوا أن يمضيَ قُدُمًا على الخط إلى استقامته فيلغي وصية الحكم من بعده إلى يزيد، ويُعيدَ الأمر شورى عامة على فتوفّيَ الخليفة الاستثنائيُّ فجأة بعد أقل من عاميْن ونصف من حكمه مغدورًا بالسم على أشهر الروايات التاريخية، الذي ذكر بعضُها أن خادمًا لعمر هو من ارتكب تلك الجريمة مقابل ألف دينار. جديرٌ بالذكر أنه لحظة وفاة عمر بن عبد العزيز، لم يكن في سجون دولته مُعتَقَلٌ سياسيٌّ واحد بالاصطلاح الحديث.

اقرأ: عمرو المقصوص .. علَّم الخليفة العدل فقتله الأمويُّون

وقد نعاه الذهبي في «سير أعلام النبلاء» واصفًا إياه بما يلي:

.. قد كان حسن الخَلْق والخُلُق، كامل العقل، جيد السياسة، زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظَّلمة الذين ملُّوه، وكرهوا مماقتته لهم، ونقصه أعطياتهم، وأخذه كثيرًا مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سقوه السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين ..

عصر يزيد: أربعون وما بعدها

عام 101هـ، آلت الخلافة بعدَ عُمرٍ إلى ابن عمه يزيد بن عبد الملك تبعًا لوصيةِ الخليفة الأسبق سليمان بن عبد الملك، وكان يزيد شابًا في الثلاثين من عمره، وقد حاول في أول عهده أن يتشبًَّه بأفعال عمر بن عبد العزيز ذي الشعبية الجارفة، فأظهرَ كثيرًا من الورع والخشية من حساب الله على الظلم، وأكثر من الذهاب إلى مجالس علماء التابعين مثل مكحول وسواه. لكن ينقل الذهبي في موسوعة «سير أعلام النبلاء» أن تلك الحالة العُمَرية لم تدُم أكثرَ من 40 يومًا فحسب، وتغيَّر يزيد تغيرًا دراماتيكيًا إلى نقيض ما كان عليه الزاهد العادل عمر.

أمّا بعد .. فاتقِ يا يزيدُ الصَّرعة بعد الغفلة حين لا تُقالُ العثرة، ولا تَقدرُ على الرَّجعة. إنك تتركُ ما أتركُ لمن لا يحمدُك، وتصيرُ إلى من لا يعذرك .. والسلام.
من وصية عمر بن عبد العزيز إلى ابن عمه وخليفته في الحكم يزيد بن عبد الملك

ينقل المؤرخون أن بعض الخائفين من أن يسير يزيد على طريقة عمر بن عبد العزيز في العدل والحفاظ على المال العام، قد أحضروا إلى مجلسه ما يقارب الأربعون شيخًا، من تلك النوعية التي توصَف حديثًا بـ«شيوخ السلطان» فخدَّروا ما بقي من يقظة ضميره، وأجهزوا على نفسِه اللوامة عندما أقسموا له أن الخلفاء ليسَ عليهم حساب ولا عذاب، كما ينقل الذهبي في «سير أعلام النبلاء»، الذي استنكرَ مثل هذا النفاق الفجَّ.

لكن يذكر المؤرخون أيضًا أنه قد ظهرت في حياة الخليفة يزيد في تلك الفترة جارية بالغة الحسن، وساحرة الغناء، اسمها (حبابة) سلبتْ عقلَ وقلبَ الخليفة الشاب في أيامٍ قليلة، حتى إنه أضحى مفتونًا بها، يقضي الساعات الطوال خاضعًا لسطوة جاذبيتها القادرة، حتى إنه انقطع عن إمامة المصلين في الجامع الكبير، وأوكل تلك المهمة إلى قائد الشرطة، ولم يستمع يزيد إلى النقد اللاذع الذي وجَّهه له كبير الأسرة الأموية آنذاك مسلمة بن عبد الملك في ما يخص تعلقه المُستَنكَر بجاريته.

وسيكون لحبابة لاحقًا قصة دراماتيكية شهيرة مع الخليفة المُغرَم بها، حيث ستلفظ أنفاسَها بينَ يديْه في واقعةٍ لا يفوق صدمتها سوى غرابتها، عندما شرِقَت في حبة عنب ألقاها إلى فمها في أحد مجالسهما الرومانسية الهانئة، فأصيب إثر ذلك باكتئاب شديد، وانقطعَ أكثر من أسبوعيْن عن العالم، ثم توفي عام 105هـ.

عادت يد الفساد الاقتصادي لتعبث في الدولة في عهد يزيد الذي انصرف إلى مجالس اللهو والغناء، فتغيّرت السياسات الضريبية الرفيقة لعمر. مثال ذلك خراج اليمن، فقد أمر عمر واليه هناك بتحصيله بالنسب الشرعية العشر أو نصف العشر، ومراعاة ظروف الناس، وإعفائهم من الخراج في حالة وجود أي مشكلات. أما والي يزيد على اليمن، فقد جاءتْه الأوامر بالتشدد في تحصيل الخراج حتى في مواسم الجفاف، ولو أدى ذلك إلى الإضرار بحياة الناس ومعايشهم.

ومن نماذج الانقلاب السياسي في عهد يزيد، ما تعرَّض له واحدٌ من علماء التابعين هو عِراك بن مالك الغِفاري الذي اشتهر بعبادته وزهده وعلمه الواسع، فقد نُفيَ في عهد يزيد بن عبد الملك إلى جزيرةٍ نائية قرب ساحل اليمن، كان الأمويون ينفون إليها خصومهم السياسيين، وذلك لأنَّه كان في عهد عمر بن عبد العزيز من أبرز المحرِّضين لعمر على الإصلاح المالي والسياسي بانتزاع ما أخذه الأمويون بغير حق من المال العام وممتلكات الناس والدولة. وتُوفيّ التابعي الجليل عراك بن مالك في هذا المنفى البعيد عام 104هـ.

وتجلَّى التغير السياسي السلبي في عزلَ يزيد كثيرًا من ولاة عمر بن عبد العزيز الذين اتصفوا بالعدل، وعاد إلى سيرة الأمويين في توليه الولاة المستبدين، الذي أتتْ أفعالهم على ما خطَّته سياسة عمر من العدل والإنصاف بممحاة الظلم والفساد.

ثم كانت الطامة، عندما أوصى يزيد من بعده بالخلافة إلى أخيه هشام بن عبد الملك، ثم من بعده ابنه الوليد بن يزيد. وكان هشام (105-125هـ) خليفةً قويًا، لكنه كان شديد البطش بخصومِ الأمويين، فقتلت جيوشُه زيدَ بن علي بن الحسين، حفيد حفيد رسول الله، عليه الصلاة والسلام، عام 122هـ بعد خروجه احتجاجًا على المظالم، كما تتبع من أعانوا عمر بن عبد العزيز في سياسته الإصلاحية الشديدة ضد الأمويين، مثل غيلان الدمشقي، فأمر بقتلِه وصلبه بحجة أنه قدري مرتدٌّ، وهو نفس غطاء قتلِ واليه على العراق خالد القسري للجعد بن درهم الذي غالى في القدر ردًا على لجوء الأمويين ودعاتهم إلى الفكر الجبري لتبرير حكمهم ومظالمهم بأنَّها قدرُ سابق نافذ من الله.

اقرأ: د.محمد عمارة .. ناصر مظاليم التاريخ

أما الوليد بن يزيد، فقد ذاع صيته في كتب التاريخ على قصر مدة خلافته بغرابة الأطوار، والانصراف إلى مجالس الخمر والغناء، واستهانته بالمقدسات كالكعبة التي نُقِل أنه أراد أن يعقد مجلس لهوه على سطحها. قُتِل الوليد بعد ثورة بعض الأمراء الأمويين ضده، ولم تستقر الدولة الأموية بعد ذلك حتى نهايتها عام 132هـ.

أحكام التاريخ القاسية

لو قُدِّرَ لمشروع عمر بن عبد العزيز أن يكتمل، وأن يُبنى عليه في العصور التالية، لنزع فتيل عديد من الأزمات والكوارث التاريخية التي شهدتها العقود الأخيرة من الحكم الأموي، والعصور الإسلامية اللاحقة، التي لا تزال الأمة الإسلامية تعاني من بعض تبعاتِها إلى اليوم، ولعصم كثيرًا من الدماء التي سالت جرَّاءها، لكن دائمًا ما تنظر الثورات المضادة من منظورٍ ضيق، لا يرى سوى مصالحها الآنية في التفرُّد بالحكم وبالثروة، مهما كان الثمن اللاحق لذلك.

اقرأ: تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم.

وهكذا، فبعد ما يقارب 30 عامًا من نهاية مشروع هذا الخليفة العادل، تخلَّلها 6 أشهر من مشروعٍ إصلاحيِّ قصيرٍ للغاية في عهد يزيد بن الوليد الأموي 125-126هـ، دفعت أسرتُه الأموية ثمنًا باهظًا لاستبدادِها السياسي والأمني والاقتصادي، عندما اندلعت ضدها الثورة العباسية المسلَّحة شديدة العنف، التي اجتثَّت خلافة الأمويين اجتثاثًا بفاتورةٍ ثقيلةٍ من الدماء والمذابح.