في عهد الخليفة عبدالله المأمون تبنت الدولة العباسية مذهب المعتزلة في كثير من القضايا الدينية، ومنها مسألة خلق القرآن الكريم، وكان لذلك تداعيات عديدة وصلت إلى حد امتحان الفقهاء والقضاة في هذه القضية، ونتج عن ذلك قتل وسجن كثيرين، فيما نجا البعض بعد الإقرار بخلق القرآن، سواء عن اقتناع أو لمجرد النجاة من بطش السلطان.

ويذكر الدكتور محمد نصر عبدالرحمن والدكتور محمد صقر الدوسري، في كتابهما «تاريخ الدولة العباسية في العصر العباسي الأول»، أن المأمون كان من أكثر الخلفاء حبًا للتعلم، وشغفًا بالتيارات الفكرية التي تتصارع في جنبات خلافته، لذلك اهتم بمذهب المعتزلة واعتنقه، وكان لهذا الأمر آثاره البعيدة على المجتمع العباسي، حيث عصفت به عديد من القضايا الفكرية التي كان لها أثر كبير على الولايات العباسية، فقد أدى اعتناق الخليفة للاعتزال إلى تبنيه رأيهم الذي يقول إن القرآن مخلوق محدث وليس بقديم.

امتحان الفقهاء السبعة

جهر المأمون بمذهبه بناء على نصيحة من قاضيه المعتزلي أحمد بن دؤاد، لكن الخطورة تمثلت في فرضه هذا الرأي على الخاصة والعامة، فعقد المناظرات لنشر معتقده، ومن رفض هذا الرأي كان يُسجن أو يُضّيق عليه، مهما كانت مكانته سواء من العلماء أو كبار رجال الدولة.

فرغم خروج المأمون عام 218هـ / 833م لقتال البيزنطيين، فإنه لم ينس قضية خلق القرآن، واستغل توقفه بمنطقة الرقة (شمال سوريا) أثناء مسيرته للقتال، وأرسل لعامله على بغداد إسحاق بن إبراهيم رسالة مطولة، يبين له رأيه في هذه القضية، ثم يأمره بجمع القضاة في بغداد وعرض هذا الكتاب عليهم، فمن وافقه يُطلق سراحه بعد أن يُشهد الناس على ذلك، ومن عارضه يُلقى به في السجن.

وبالفعل، جمع إسحاق القضاة، ولما سألهم نزلوا على رأي المأمون بأن القرآن مخلوق فأمر بإطلاق سراحه، بحسب ما روى «عبدالرحمن» و«الدوسري».

ويبدو أن المأمون لم يرض عن هذه النتيجة، أو ربما اقتنع بأنه لم يكن كافيًا، فعاود الكرّة لكنه أرسل هذه المرة إلى إسحاق يأمره بإرسال سبعة من كبار الفقهاء إليه ليمتحنهم بنفسه في الأمر، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويحيى بن معين، وأحمد الدورقي، ويزيد بن هارون، وزهير بن حرب، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وبالفعل أرسل إسحاق إليه هؤلاء الفقهاء، وامتحنهم المأمون بنفسه، فرضخوا لرأيه، وأقروا بخلق القرآن، فأرسلهم لبغداد، وأمر بعرضهم على المشايخ والفقهاء لإثبات قبولهم بالأمر.

ويذكر أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام»، أن هؤلاء السبعة كانوا من وجوه المحدّثين في بغداد، وممن شنعوا على المأمون بالقول في خلق القرآن، ومن رؤوس الذين يقولون بقدمه. ولعل المأمون رأى أنهم إن حضروا أمام الخليفة نفسه كان ذلك أرهب لهم، وحملتهم الهيبة والرهبة على متابعته فيما يقول، فينقاد الناس لهم، ويتبعون قولهم، فتنقطع الفتنة، وقد صدق في حدسه في الشطر الأول، ولم يصدق في الثاني، فقد أجاب هؤلاء بخلق القرآن لكن لم تنقطع الفتنة.

لا إنكار ولا إقرار

وبناء على كتاب جديد من المأمون، جمع إسحاق بن إبراهيم علماء وفقهاء آخرين وامتحنهم، ومنهم بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدي، وعلي بن أبي مقاتل، وأبو حسان الزيادي، وأحمد بن حنبل، وأبو هارون بن البكّاء، وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الحميد العمري، وأبو العوام البارد، وحرر إسحاق محضرًا بجميع أقوالهم وأرسلها إلى المأمون، فثارت ثائرته وجن جنونه.

وبحسب «أمين»، رأى المأمون أن أجوبتهم لا تدل على عقل، ولا تنكر في صراحة، ولا تقر في صراحة، وبعضهم يسلم بالمقدمات وينكر النتيجة، مثل ابن البكّاء الذي قال إن القرآن «مجعول» استنادًا إلى قوله تعالى «إنا جعلناه قرآنًا عربيًا»، ولم يرض أن يقول القرآن مخلوق، أما عليّ بن أبي مقاتل فقال «هو كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا»، فيما ذكر أبو حسان الزيادي «القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا».

واعتقد المأمون أن عقلية هؤلاء عقلية عوام، يريدون أن يتظاهروا بالبطولة أمامهم، وهم على خلاف ذلك مع أنفسهم، ولو كانوا ذكروا له حججًا على نظريتهم أو امتناعهم لجادلهم فيها، ولكنهم كانوا لا يريدون أن يقروا، ولا يريدون أن ينكروا، ولعل هذا ما أغضب المأمون أشد الغضب، بحسب ما ذكر «أمين».

وإزاء ذلك، أمر المأمون إسحاق بن إبراهيم أن يستدعي بشر بن الوليد، الذي أبى أن يجيب بخلق القرآن، فتشدّد المأمون في تعليماته؛ إن أصر على شركه ولم يقل إن القرآن مخلوق فليضرب عنقه وأن يُبعث برأسه إليه، وإن تاب فليشهر إسحاق أمره بالتوبة ويمسك عنه، وكذلك أمره في إبراهيم بن المهدي الذي أبى الإجابة هو الآخر.

تشهير برافضي الإقرار بخلق القرآن

وغير هذين الفقيهين، هناك آخرون لم يأمر المأمون بضرب عنقهم، ولكنه عرّض بهم، وذكر أفعالهم ومخازيهم، ليبين أن امتناعهم ليس عن دين، ولكن عن تصنع، فالذيال بن الهيثم، كما يقول المأمون، كان يسرق الطعام في الأنبار، وأبو العوام البارد صبي في عقله لا في سنه، وأنه سيحسن الجواب في القرآن إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك، والفضل بن غانم اغتنى في مصر من منصبه في أقل من سنة، ومحمد بن حاتم ومحمد بن نوح وأبو معمر فإنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على حقيقة التوحيد، كما روى «أمين».

وهكذا استمر المأمون يعدد لكل رجل امتحنه عيوبه، ثم أمر عامله إسحاق بن إبراهيم في كتاب أرسله إليه أن يعيد الكرّة عليهم، فمن أبى غير بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي فليحملهم أجمعين إليه «لينصحهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعًا على السيف».

جبهة المعارضة ووفاة محمد بن نوح

أطاع إسحاق أمر المأمون، فجمع نحو ثلاثين قاضيًا ومحدثًا وفقهيًا مرة أخرى، وأعاد امتحانهم، فأقروا جميعًا بأن القرآن مخلوق إلا أربعة منهم، على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، والحسن بن حماد سجاده، وعبيدالله بن عمر القواريري، ومحمد بن نوح، فشُدوا في الحديد، فلما أصبحوا أعاد امتحانهم، فاعترف سجادة بخلق القرآن فأطلقه، وبعد يوم آخر أجاب القواريري بأن القرآن مخلوق فأخلى سبيله، بحسب ما ذكر «أمين».

 ولم يبق بعد من هؤلاء إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشُدوا في الحديد، ووُجها إلى المأمون وكان في طرسوس، وكتب إسحاق كتابًا إليه يخبره بإرسالهما، وكتابًا آخر يذكر فيه أن القوم الذين أجابوا لم يجيبوا عن عقيدة، وإنما أجابوا عن تأويل، وقد تأولوا أنهم مكرهون، وليس على المكره حرج.

وإزاء ذلك، بعث المأمون كتابًا إلى إسحاق يعلن فيه أن هؤلاء أخطأوا التأويل، وليست الآية «إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان» منطبقة عليهم، وقال «إنما عُني بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مُظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مُظهر الإيمان فليست الآية له». ثم أمر بإشخاص من أبى الإجابة بخلق القرآن إليه في طرسوس، فأرسل إسحاق واحدًا وعشرين كانوا امتنعوا عن الإقرار بخلق القرآن، فلما كانوا في الرقة بلغتهم وفاة المأمون، فأعادهم والي الرقة إلى والي بغداد فخلى سبيل أكثرهم.

أما محمد بن نوح فقد مات وهو عائد إلى بغداد بعد موت المأمون، ففُك قيده وصلى عليه ابن حنبل، الذي تركزت رئاسة المعارضة فيه، فكان زعيمها وعَلمها ومتجه الأنظار فيها، ولذلك لم يُخل سبيله كما خُلي غيره، وبذلك انتهى المأمون وانتهى دوره في المحنة.

ويذكر «أمين»، أن المامون قبل موته سنة 218هـ / 233م، أوصى أخاه أبا إسحاق المعتصم، وهو يوصيه بالخلافة من بعده، بالاستمرار على هديه في قضية خلق القرآن، كما أوصاه بابن دؤاد وحرصه عليه وإشراكه في المشورة في أموره كلها، فكتب إلى الأمصار بالاستمرار في امتحان الناس بخلق القرآن.

ويذكر «أمين»، أن أحمد بن حنبل أصر على امتناعه عن القول بخلق القرآن، فيما أصرت دولة المعتصم على حمله على ذلك، وانتهى الأمر بضربه بالسياط ثم إخلاء سبيله.

صلب ابن نصر الخزاعي

مات المعتصم سنة 227هـ / 842م، وخلفه أبو جعفر هارون الثاني الواثق بالله، وكان مثقفًا ثقافة واسعة، وكان يسمى «المأمون الأصغر»، بل فضّله بعضهم على المأمون من ناحية أنه أكثر رواية للشعر العربي من المأمون، فتعصب للقول بخلق القرآن عن علم وعقيدة.

ويروي «أمين»، أن أبرز ما حدث في أيام الواثق كانت حادثة أحمد بن نصر الخزاعي عام 231هـ / 845م، وكان يرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ ذلك بيده، كما كان يعتقد بالخروج على الحكومة إن جارت، والثورة عليها فيما انحرفت فيه عن الصواب، وتبعه في ذلك أناس كُثر كان يستعملهم في خطته، فثار مع أتباعه في بغداد أيام كان المأمون في خراسان، فلم قدم المأمون بغداد استتر ابن نصر، فلما ولي الواثق استمر في خطته، وعزم هو وأتباعه على الثورة، فوصل الخبر إلى والي بغداد إسحاق بن إبراهيم، فقبض عليه وعليهم.

وأرسل والي بغداد الخزاعي للخليفة في سامراء، فقال الواثق له: «دع ما أُخذت له، ما تقول في خلق القرآن؟»، قال: «كلام الله ليس بمخلوق»، فحمله الواثق على أن يقول إنه مخلوق، فأبى، وسأله عن رؤية الله يوم القيامة (والمعتزلة ينكرونها)، فقال إن الله يُرى يوم القيامة، وروى له حديثًا للرسول في ذلك يقول «ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر، لا تُضامون في رؤيته»، فقال الواثق «ويحك، هل يُرى كما يُرى المحدود المتجسم، ويحويه مكانه ويحضره الناظر، إنما كفرت برب هذه صفته».

واستشار الواثق من حوله من فقهاء المعتزلة في أمر الخزاعي، فطالبوه بقتله، ما عدا ابن أبي دؤاد الذي خشى عاقبة تحمل وزره، فطلب منه أن يستتيبه، لكن الواثق عزم على قتله، فدعا الواثق بالسيف، وقال «إني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربًا لا نعبده، ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها»، ثم مشى إليه فضرب عنقه، وأمر به فحُمل رأسه إلى بغداد ونُصبت هناك، فيما نُصب جسمه بالجانب الشرقي أيامًا والجانب الغربي أيامًا.

لما صُلب كتب الواثق ورقة وعُلقت في رأسه نصها «هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبدالله الإمام هارون (أي الواثق) إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فجعله الله إلى ناره»، ووكّل بالرأس من يحفظه ويصرفه عن القبلة. ولم يزل جثمان الخزاعي منصوبًا ست سنين حيث أمر الخليفة المتوكل بالجمع بين رأسه وجسده، ودُفن في الجانب الشرقي من بغداد.

وبعد قتل الخزاعي، أمر الواثق بتتبع أنصاره، فسجن منهم نحو خمسين رجلًا، حيث قُيدوا بالحديد ومُنع ذووهم من زيارتهم.

ويرجح «أمين»، أن بعض غضب الواثق سببه ثورة أحمد بن نصر، وخروجه عن الطاعة وحمل الناس على العصيان، وجاءت قضية خلق القرآن خاتمة الغضب، ومظهر الانتقام.

وبحسب «عبدالرحمن» و«الدوسري» في كتابهما المذكور آنفًا، أن التطرف بلغ من الواثق في مسألة خلق القرآن حدًا خطيرًا، فحين وقع تبادل للأسرى مع البيزنطيين عام 230هـ / 844م، أمر بعمل امتحان لهؤلاء الأسرى قبل أن يفك أسرهم، ورفض أن يفك أسر من لا يقول إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة منهم، ومن كان يقول بغير ذلك كان يتركه للبيزنطيين.

علماء تعرضوا للتنكيل

ومن العلماء الذين قاموا الاعتزال أبو يعقوب يوسف البويطي، صاحب وتلميذ الإمام الشافعي، الذي ينسب إلى قرية بويط في صعيد مصر، وقد قام البويطي مكان الشافعي بمصر بعد وفاته في الدرس والإفتاء.

ويذكر فتحي يوسف الشواورة في دراسته «سياسة الخليفة المتوكل على الله الدينية 232 – 247هـ / 847 – 861م»، أنه في أيام المحنة حُمل البويطي في خلافة الواثق على بغلة من مصر مقيدًا، فلما وصل إلى العراق طلبوا منه القول بخلق القرآن، فامتنع عن ذلك ولم يجب فبقي في السجن، وكان وهو مسجون إذا سمع المؤذن يوم الجمعة اغتسل ولبس ثيابه ومشى حتى يبلغ باب السجن، فيقول له السجان «أين تريد؟»، فيقول «أجيب داعي الله»، فيقول: «ارجع عفاك الله»، فيقول «اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني»، وتوفي البويطي في محبسه سنة 231هـ / 846م.

وهناك نعيم بن حماد الخزاعي الحافظ، وهو من العلماء الذين امتُحنوا بخلق القرآن، فلم يجبن فحبس وقيد ومات في الحبس سنة 229هـ / 843م.

وكذلك بكار بن الحسن ابن عثمان بن زياد بن عبدالله العنبري، وهو من الفقهاء الذين امتحنوا في أيام الخليفة الواثق، ولكنه لم يجب بأن القرآن مخلوق، فأوذي وسُجن. وكان يقول «عيون الناس ممدودة إليّ، فإن أجبت أخشى أن يجيبوا ويكفروا»، وقد تجهز للثورة على الخليفة الواثق، فلما تهيأ لها جاءه خبر وفاة الخليفة، وقد توفي سنة 238هـ / 852م، ذكر «الشواورة».

هناك أيضًا عفام بن مسلم بن عبدالله البصري، الذي سكن بغداد ورفض القول بخلق القرآن زمن الخليفة الواثق بالله، وكذلك أبو عبدالرحمن عبدالله بن محمد الأذرمي، الذي امتُحن ولم يجب، وتناظر مع القاضي ابن أبي دؤاد بحضور الخليفة الواثق وانتصر عليه.

 أما الحارث بن مسكين، وهو فقيه ومحدث، فقد ولد سنة 154هـ/ 766م، وعاش في مصر، ورفض القول بخلق القرآن، فحُمل إلى العراق في عهد المأمون وسُجن، فبقي في السجن حتى أطلقه المتوكل وأكرمه وأعاده إلى مصر، وعينه قاضيًا عليها، وتوفي في سنة 250هـ / 860م.

وهناك إبراهيم بن هاني أبو إسحاق النيسابوري، وكان ورعًا صبورًا، رفض مذهب الاعتزال، ومدحه الإمام أحمد بن حنبل وقال عنه «إن كان رجل من الأبدال (الزهاد الصالحين) فأبو إسحاق النيسابوري».

وكانت سياسة التشدد في فرض هذا المذهب، وما رافقها من كبت وعنف سببًا في ظهور رد فعل عنيف في بغداد سنة 227هـ / 890م، فقد ثار جماعة من عامة الناس على أبي صالح شعيب بن سهل الرازي إمام مسجد «الرصافة»، الذي كان يتبنى مذهب الاعتزال ويمتحن الناس في خلق القرآن، فأحروقوا داره ونهبوا منزله وحاولوا قتله، لكنه هرب منهم، بحسب ما روى «الشواورة».

رجوع الواثق عن امتحان الفقهاء

ويرى عبدالعزيز محمد اللميم في الجزء الأول من كتابه «نفوذ الأتراك في الخلافة العباسية وأثره في قيام مدينة سامراء من 221 – 279هـ»، أن مسألة خلق القرآن لاقت بعض الفتور في نهاية حياة الواثق، وأنه رجع عن إنزال المحنة بمن لا يرى هذا الرأي.

ومما يؤكد إقلاع الواثق عن امتحان من لم يقل بخلق القرآن ما أشار إليه البعض من المؤرخين، حينما نوظر أحد الممتحنين وهو الفقيه أبو عبدالرحمن عبدالله بن محمد الأزدي من قبل أحمد بن دؤاد أمام الواثق، بعدما قُبض عليه لمخالفته رأيه في خلق القرآن، لكن هذا الفقيه نجح في إفحام الواثق وحاشيته حتى بُهتوا، حيث قال للواثق «أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه، أعلمه رسول الله– صلى الله عليه وسلم– فلم يدع الناس إليه، أم شيء لم يعمله؟»، فقال ابن دؤاد: «بل علمه»، قال: «فكان يسعه ألا يدعو الناس إليه، وأنتم لا يسعكم؟»، فبهتوا وضحك الواثق وفكر في كلام هذا الفقيه واقتنع به، وأمر بإطلاق سراحه.

وبحسب «اللميم»، لم يمتحن الواثق بعد هذا الرجل أحدًا، وسقط ابن دؤاد من عينه بعد ذلك. ويقول ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة»، إن الواثق ثاب ورجع عن القول بخلق القرآن، فأدركته المنية عام 232هـ/ 847م قبل إشاعة ذلك.

انتهاء امتحان الفقهاء في عصر المتوكل

تولى أبو فضل جعفر المتوكل على الله الخلافة، وعلى عكس الخلفاء الثلاثة السابقين عليه، ناهض مذهب المعتزلة وأحيا مذهب السنة والجماعة، وأصدر سنة 234هـ / 848م مرسومًا أعلن فيه انتهاء المحنة، وفرض حظرًا على المناقشة بشأن طبيعة القرآن الكريم من حيث كونه مخلوقًا أو غير مخلوق، وكتب «إن الذمة برأت ممن يقول بخلق القرآن»، بل وأمر بحبس كل من يقول في علم الكلام، روى «الشواورة» في دراسته المذكورة.

وفي سبيل هذه السياسة الجديدة، اتخذ المتوكل مجموعة من التدابير 237هـ / 851م، منها إطلاق سراح المساجين من الذين رفضوا مذهب الاعتزال، فأكرمهم وخلع عليهم الكسوة سنة، وفي نفس العام أمر بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي الذي كان الواثق فصل رأسه عن جسده، فصُلب الرأس في بغداد والجسد في سامراء، فأمر المتوكل بجمع الرأس والجسد، فدُفن يوم عيد الفطر في تشييع رسمي واحتفال مهيب.

كما استدعى الخليفة أحمد بن حنبل من بغداد إلى سامراء، مقر الخلافة، وقرّبه إليه وأكرمه، ولكن الإمام أحمد استأذن الخليفة بالرجوع إلى بغداد وآثر الابتعاد عن السلطان رافضًا هداياه.