تسعى تلك المقالة إلى تقديم رؤية تحليلية للرواية والفيلم المصري «الباب المفتوح»، للدكتورة «لطيفة الزيات» أستاذة الأدب الإنجليزي والناشطة السياسية والحقوقية والنسوية خلال فترة الأربعينات والخمسينات، وهي نفس الفترة التي يدور فيها الإطار الزمني لتلك الرواية التي نُشرت عام 1960 وأعيد نشرها في طبعة إنجليزية عام 2000.

وتتميز تلك الرواية بالخصوصية والتجاوز معًا؛ فتستمد خصوصيتها كونها تؤرخ لفترة زمنية اختبرتها الأديبة ذاتها بكل قضاياها العاطفية والسياسية، فتبدو وكأنها ترسم ذاتها في شخصية «ليلى» البطلة الرئيسية للرواية، والتي جسدتها «فاتن حمامة» في الفيلم.

كانت «لطيفة الزيات» من أوائل الناشطات السياسيات في الجامعة المصرية خلال الأربعينات، وانتمت إلى التيار الاشتراكي واعتقلت أكثر من مرة، الأولى، عقب زواجها بأحد القيادات الاشتراكية عام 1949 وهو «أحمد شكري»، ثم انفصالها عنه والزواج بأستاذ جامعي وكاتب مسرحي هو «رشاد رشدي» الذي كان يميني الاتجاه، ثم الانفصال عنه هو الآخر لتصرح بنفسها بأن ذلك حفاظًا على كينونتها المستقلة التي لا تجدها إلا في الفردية.

اعتقلت كذلك في سبتمبر 1981 وهي في الستين من عمرها. تتجاوز «لطيفة» في روايتها التعبير عن الذات لتحولها إلى دعوة للتحرر الوطني الاجتماعي، فهي تدور في الأربعينيات والخمسينيات في ظل زخم النضال للتحرر من الاستعمار الانجليزي وإسقاط الملكية.

وتعد رواية «الباب المفتوح» إحدى نقاط التحول في تاريخ الرواية العربية في مصر منذ نشأتها على «يد المويلحي» وتطورها على يد «توفيق الحكيم» ومن بعده «محفوظ»؛ حيث أخرجت المرأة من الهامش الاجتماعي في الكتابة، وجعلت المرأة والحكي عنها مركز الحدث التاريخي، بعد أن كان الاهتمام منصبًا على حكاية الجماعة وسعيها نحو التحرر والنهضة.


«الباب المفتوح» والسعي وراء المطْلقات

جسدت الرواية إشكالية الوجود الإنساني في الرغبة في إدراك المُطْلقات: الحرية المطلقة، السعادة المطلقة، الحب المطلق، الوطنية الخالصة، الولاء المطلق. كما حاولت تقديم رؤيتها للتغلب على تلك الإشكالية بالسعي من أجلها، كونه ما يخفف من عبء الوجود الإنساني ومن المسؤولية تجاه الذات والآخرين، وعملت على تجسيدها في أحداث الرواية بالسعي المزدوج في مواجهة القمع والاستبداد، وكذلك في مواجهة نكوص الذات ورضوخها لاستبداد العادة والتقليد والوصاية.

فنجد «ليلى» هي مركز الرواية التي تجسد الازدواجية بين الوطن والمرأة، وتصحبنا في رحلة التحرر: تحرر الوطن وتحرر المرأة، فكان نضال «ليلى» من أجل حريتها وتحققها نضالًا من أجل حرية الوطن وسيادته، حيث زاوجت «لطيفة الزيات» بين القضايا المركزية أو عمدت إلى التماهي بينها، فنجد تحرر الوطن هو تحرر المرأة ونجد خيانة الوطن في أن تُخان «ليلى»، ونجد انكسار الوطن في انكسار «ليلى»، ونجد «بطريركية» المجال الخاص الممثل في أسرة «ليلى» ترادف الـ«بطريركية» في المجال العام.


الـ«بطريركية» الخاصة والعامة

رسمت الرواية تشريحًا دقيقًا ذكيًا وثاقبًا لصور الأبوية الذكورية في المجالين الخاص والعام، حيث جسدت كيف يتم تشكيل الـ«بطريركية» في المجال الخاص بدءًا من أسرة «سليمان أفندي» والد «ليلى» خروجًا إلى المجال العام، وكيف تتم إعادة إنتاج نفس القيم بداخله لتتحول إلى «بطريركية» عامة كما ظهر واضحًا في مناخ الجامعة وأستاذ «ليلى» الذي جسده «محمود مرسي».

رسمت الرواية لملامح الوصاية الذكورية داخل أسرة «ليلى» مقارنة دقيقة بين «ليلى» وأخيها «محمود»، في أسلوب الخطاب الموجه لكل منهما، ومقدار الحرية الممنوحة لهما في طريقة التعبير وفي السماح بالتواجد في المجال العام، واعتبار مشاركتها في مظاهرات سياسية سوء تربية وخروج عن الآداب كما ورد على لسان والدها، وتعرضها للضرب كأداة للتأديب وللعقاب للخروج إلى المجال العام، وعتاب والدتها لها عقب ضرب والدها بكون ما قامت به: «فضيحة في الحتة». وهي كلها دلالات لطرق تعاطي المجال الخاص مع المرأة في تشكيل وعيها وإدراكها عن دورها في المجال العام.

يطرح «الباب المفتوح» تصاعدًا تدريجيًا للمواجهات طوال رحلة «ليلى» البحث عن الحرية، فتطرح أول مواجهة بينها وبين أخيها عن مدى صدقية المعايير ومن يحددها، ما الصواب وما الخطأ، ما وضع المرأة، ما حقوقها وواجباتها، وعن صدقه هو معها في إيمانه بالمرأة كما يردد دائمًا، وينكص عن المواجهة وقت الأزمات الحقيقية، فيعترف لها بكونه هو الآخر عاجزًا عن جعل نظرياته واقعية، وهو ما يجسد إحدى أبرز المشكلات التي تواجه ما يعرف بتمكين المرأة الذي لا يتجاوز كونه خدعة لتعجيزها.


الحب والـ«بطريركية» الناعمة

تجسد الرواية مفهومًا آخر في رحلة «ليلى» للسعي إلى التحرر وهو الحب، حيث أرادت الخروج من المجال الخاص الخانق باختبار معنى آخر وجديد للحياة وهو حب ابن خالتها، إلا أنها سرعان ما اكتشفت كونه يمثل وجهًا آخر للـ«بطريركية» التي تشكلت في قناع ناعم وهو الحب، حيث سرعان ما اكتشفت أن ما تختبره هي معان أخرى لتقييدها، تتمثل في تشييء المرأة والخيانة، وهو ما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي «جيل ليبوفيتيسكي» في كتابه «المرأة الثالثة.. ديمومة الأنثوي وثورته» المرحلة الثانية، من تطور الذكورية، ولقّب المرأة في ذلك الطور بالمرأة الثانية التي لم تعد يتم التعاطي معها بغريزية معلنة، وإنما يتم تغليف تلك الغريزية برومانتيكية زائفة.


«بطريركية» المجال العام والوسط الجامعي

ترسم الرواية كذلك ملامح تطور الـ«بطريركية» وإعادة تشكيلها في المجال العام، فقد خرجت «ليلى» من مجالها الخاص بمفاهيم مهزومة عن الحرية والحب ووضع المرأة، خرجت وهي تخشى المشاركة والانطلاق والحب والحياة، ومحملة بخبرات سلبية عن الخضوع والخيانة.

استمرت تلك المفاهيم ومراحل إنتاجها، لكنها كانت مصاحبة بالصراع والمقاومة. صراع فطرتها الرافضة للاستكانة، ورسائل «حسين» التي مثلت عنصرًا محفزًا لمقاومتها وأداة دفع للحب والحرية والانطلاق.

فقد واجهت «ليلى» رمزًا آخر للـ«بطريركية» في المجال العام، ورمزًا لتغول الـ«بطريركية» في أواسط النخبة الفكرية، وهو أستاذ الفلسفة الذي واصل الوصاية عليها بإملاء قواعد للسلوك داخل المحاضرات وفي الجامعة، وصولًا لرغبته الزواج منها كونها مطيعة لا أكثر، كما مثلت شخصية أستاذ الجامعة ازدواجية القيم في المجتمع الشرقي، فيطالبها بالفضيلة ولا يمارسها هو.


التمكين السياسي أولًا: مدخل الرواية للتغيير الاجتماعي والسياسي

طرحت الرواية مدخلًا لحل قضية المرأة وتحريرها، لا بالبدء بإصلاح المجال الخاص، وإنما بالخروج إلى المجال العام، أي بالتمكين السياسي أولًا، فقد ظهر «حسين» الذي جسده «صالح سليم» كمن يدفع بـ«ليلى» نحو طريق الخلاص من السيطرة الذكورية في المجالين الخاص والعام، بعد أن فشل في إعادة قناعتها بالحب، ليظهر منيرًا لها الشمعة وقت الغارة ليقنعها بحب الوطن لا بحبه، وبأن الطريق لذاتها وتحققها في الذوبان في المجموع، أي بالعمل العام، وفي حب الآخرين وفي خدمة هدف وقضية، وقتها فقط ستجد ذاتها وستكسر قيدها.

ويظهر المشهد الأخير في الفيلم في محطة القطار، عندما تثير مشاهدة الجرحى والمصابين من المقاومة الشعبية الآتين من السويس وبورسعيد «ليلى» لتتجاوز ذاتها وانكفاءها على عثرتها الشخصية لرؤية أبعد لدورها وكيانها، فتترك في محطة القطار أسباب هزيمتها الشخصية، فتكسر أول قيد بأن تخلع خاتم خطبتها من أستاذها الجامعي، وتتجاهل والدها غير منصتة لحديثه وتربت على كتف والدتها مودعة إياها، وتهرول نحو القطار الذاهب إلى بورسعيد وهو يمشي، فتلتقطها عشرات الأيادي المعاونة لها على الصعود والتحرر، وهو انتصار لعملية التغيير الاجتماعي والسياسي على السواء.

وتفرد الرواية مشهدًا آخر يلي ما توقف عنده أحداث الفيلم، حيث نجد «ليلى» و«حسين» أمام تمثال «دليسيبس» وهما يتعاونان كتفًا بكتف على هدمه وإسقاطه، أي إسقاط الاستعمار والتحرر الوطني، وهو كناية عن إعلاء لقيمة التمكين السياسي والمساواة الجندرية.


فُتح الباب، ولكن لمن المفتاح؟!

على الرغم من الصيغة التفاؤلية التي ختمت بها الرواية والفيلم، رحلة التحرر من الذكورية، فإنها كذلك نهاية دائرية بعض الشيء، فبشكل غير مباشر مَن فتح الباب لـ«ليلى» هو الرجل، من وجهها وأرشدها لطريق خلاصها ومقاومتها هو الرجل الذي جسده «حسين» أو «صالح سليم»، وهو الذي اصطحبها في رحلة البحث عن الحرية، وفي رحلة التحرر والتحقق، وهو من أنار لها الشمعة لحظة الغارة، هو من واصل إثارة مقاومتها بخطاباته له، وهو من انتظرها في محطة القطار، وهو من اصطحبها في محطة القطار.

لذا ظل مفتاح الباب في يد الرجل، وهو ما يمكن أن نجده في رفض «لطيفة الزيات» له في حياتها الواقعية العاطفية بتكرار انفصالها وبخاصة من زوجها «رشاد رشدي» الذي كتبت عنه بعد انفصالها الآتي:

ها أنا أبرأ، أو على وشك أن أبرأ، أخاف أن ترتد كينونتي الوليدة إلى الرحم. هل كان مشروع عمري الذي انقضى، أم كانت السعادة الفردية هي المشروع؟ .. كانت السعادة الفردية هي مشروعي الذي حفيت لتحقيقه وجننت عندما لم يتحقق. أنا صنيعة المطلقات وأسيرة سنوات أدور في المدار الخطأ. لا أملك القدرة على فعل أتجاوز به المدار الخطأ لسنوات تسلمني فيها إلى الشلل الهوة الرهيبة بين ما أعتقد والواقع المعاش، بين الحلم والحقيقة، أخاف أن ترتد كينونتي الوليدة إلى الرحم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.