محتوى مترجم
المصدر
George Orwell
التاريخ
1945/10/26
الكاتب
George Orwell

البارحة، بعد يوم شاق، وصلني خطاب مهم للغاية من السيد/ ج. ستيوارت كوك J. Stewart Cook، اقترح فيه أن السبيل لمجابهة نشوء الكهنوت في أروقة العلم، هو تدريس وتثقيف الجماهير بشكل علمي، واقترح كذلك، أننا ملزمون بدفع النخبة العلمية إلى صفوف الشعب، ليندمجوا في المجتمع وليخرجوا من قصورهم العاجية، بالمشاركة أكثر وأكثر في الإدارة السياسية للبلاد.

هذا الطرح العام، دون أي تحديد أو تخصيص، حسبما أظن، هو طرح مقبول لدى الكل. لكن ثمة شيئًا قد لاحظته (كالعادة). الشيء هو أن السيد/ كوك لم يضع تعريفًا محددًا للعلم، وهذا يفضي ضمنيًا إلى أنه يعتقد في النظرة الشائعة للعلم أنه تلك العلوم الدقيقة المحدده، التي يمكن إجراء تجاربها في أجواء معملية بحتة (كالفيزياء والهندسة وغيرهما). هذه النظرة الشائعة، قد جعلتنا نبذل مجهودات مضنية في تدريس أبنائنا الفيزياء والحساب، وجعلتنا أيضًا نتعجب كثيرًا حينما تُدرس لهم أشياء غريبة كالفلسفة والتاريخ والأدب، فهذه الترهات في المنظور الشعبي العام ليست «علمًا». إن نظرة الجموع للعلم، فيما يبدو لي، قضية مهمة للغاية، تحتاج إلى إفراد مستطرد. فكلمة علم تحمل وجهين، لكل منهما دلالة فريدة تحيد عن الأخرى. لكن ثمة مراوغة تجري دائمًا حتى يُستغل أحد المعنيين في ترجيح كفة المعنى الآخر لتنتهي عملية التدريس إلى حالة تكديس وحشر المعرفة في العقول كما هو الحال.

إن كلمة العلم دائمًا ما تشي بإحدى دلالتين، إما أن تشير إلى مجموع العلوم الدقيقة كالكيمياء والفيزياء والهندسة وإلى آخره. أو أن تُفضي بطريقة التفكير أو منهجية دراسة المسائل، التي تحصد نتائج واقعية يمكن التحقق منها بالتحليل المنطقي النقدي المبني على ملاحظة مادية.

بادر بسؤال أي أكاديمي عن ماهية العلم، لتحصل فورًا على إجابة شديدة القرب من المعنى الثاني للعلم. أما البسطاء والعوام، وحتى المتعلمون منهم، فحينما يقولون – أو يكتبون – كلمة علم فإنهم يرمون للمعنى الأول. فالعلم حسبما يعتقدون، هو تلك الأمور التي تجري في المختبر: فالصور الذهنية التي ترد فور سماع تلك الكلمة دائمًا ما تكون رسومًا بيانية وأنابيب بها سوائل ملونه تنتج أدخنة وبكتيريا تُلاحظ أسفل المجهر. فالكيميائي وعالم الرياضيات جديران بمسمى «رجل علم»: أما الصحفي والشاعر، وربما طالب الفلسفة، فلن يخطر بعقل أحدهم أن يسميهم «علماء». لهذا نعتقد، أن من ينادي بتدريس العلم للصغار، يبطن رغبة شديدة في تلقين هؤلاء الصغار المزيد من المعلومات عن الإشعاع الذري ومواقع النجوم أو الفيزيقا والخلايا الحيوية، وهو كذلك لا يرى أي داعٍ لتعليم هؤلاء الصغار طرقًا جيدة ودقيقة في التفكير.

هذا الخلط المفرط في الاصطلاح، يحمل بين طياته الخطر الأكبر. لأن من يطالبون بالمزيد من الدراسة العلمية من أجل تحسين الوضع الراهن، يؤمنون، بالتبعية، أن من يتقن تخصصًا علميًا معينًا، يصبح أكثر ذكاءً في بقية مجالات الحياة. لذلك تجدهم يضفون تجليلاً عظيمًا لآراء هذا الأكاديمي في الوضع السياسي مثلا. لأن ثمة ربطا غير معلن بين الذكاء والحكمة، والدراسة الأكاديمية التي يتلقاها الأفراد. فعمومًا، آراء هؤلاء النابغين في أي تخصص، تؤخذ بمأخذ الجدية في المشكلات الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية، بل وحتى في الفنون. فأغلبنا إذن يتصور أن العالم سيتحول إلى مكان أفضل إذا أداره العلماء والأكاديميون المختصون، لأنهم يفقهون أسرارًا لا يعرفها غيرهم، أو لأن ثقافتنا المعاصرة تنزلهم منزل الإهابة والتقدير.

يؤمن الملايين بهذه الفرضية، فهل هي سليمة، أم أنها غاية في السذاجة، هل حقيقي أن العالم، بحسب التعريف الضيق للعلم، هو الأنسب من بين جميع أطياف البشر في التعامل الموضوعي مع القضايا غير العلمية؟ لا، هذا الاعتقاد غير مبرر بالطبع. والأمثلة على ذلك كثيره. فلنأخذ مثلاً النزعة القومية. إننا عادة ما نقول إن «العلم غير محدد ببلد» لكن نظرة دقيقة مع قليل من التأمل تكشف لنا أن كل الأكاديميين، في كل البلاد يصطفون ويؤيدون حكوماتهم، خلا استثناءات ضئيلة جدًا، وعلى النقيض، فالكتاب والفنانون، لا يمكن تصنيفهم ككتلة واحدة في ظهر الحاكم، بل هم أطياف وأصناف. وكمثال أدق، يمكن أن نأخذ المجتمع العلمي الألماني، الذي لم يجابه بأي شكل ديكتاتورية هتلر. لأن الكثير من الرجال الموهوبين قد قاموا بأداء أبحاث علمية لإنتاج طائرات وقاذفات صواريخ، ساعدت بشكل مؤثر وفعال في تدوير آلة الحرب الألمانية. وهناك كذلك هؤلاء الأكاديميون الألمان الذين أفرطوا في البشاعة، فأخذوا يقلبون ويراوغون بالعلم لكي ينتجوا ما يؤيد «العنصريه» دعمًا لفرضيات القائد النازي، لقد كان ذلك شرًا عظيمًا.

خلاف ذلك بالتحديد هو ما جرى للأدباء الألمان حينما سيطرت النازية على مقاليد الحكم. صحيح أنه لا توجد مقاييس وأرقام إحصائية دقيقه، لكنه لا شك أن عدد العلماء الألمان الذين عزلوا أنفسهم أو تم استقصاؤهم من قبل النظام كان عددًا أقل بكثير من عدد الكتاب والصحفيين الذين قاموا بذلك.

كذلك، وفي سياق مغاير، قد قدم الأكاديميون الإنجليز صورًا مماثلة للانصياع. فعدد العلماء الحاصلين على ألقاب وأوسمة من الدولة، يشي بتأييد هؤلاء وتقبلهم للتركيبة الرأسمالية للمجتمع! أما الأدباء، فمنذ عهد تينيسون، لم يحصل أي من الكُتاب الإنجليز – ممن يستحقون أن تقرأ كتاباتهم بالطبع، باستثناء السير بييربوم – على أي لقب من الدولة. الفرق واضح تماما! وحتى العلماء الإنجليز الذين يقاومون النظام الحالي، عادة ما يتجلى أنهم مؤيدون للوجه الآخر للفاشية، أنهم من أتباع الشيوعية. وهذا يدل على أنه، برغم كل ما قد يُحصله هؤلاء العلماء من فيض معرفي في مجالات اختصاصهم، فإنهم على استعداد للاستغناء عن النقد، وعلى أتم الجاهزية لخيانة الأمانة في بعض الأمور الحقيقة الأكيدة هنا هو أن استيعاب أحد العلوم الدقيقة استيعابًا دقيقًا، حتى وإن كان الشخص فذ الذكاء، ليس ضامنًا بأي حال من الأحوال لأن يكون الشخص إنسانيًا أو نقديًا في نظرته للعالم. الفيزيائيون الذين أتوا من شتى أرجاء العالم، لينتجوا في سرية وخبث قنبلة ذرية، هم أفضل تمثيل لتلك الحقيقة المؤكدة.

هنا يبرز التساؤل، هل يمكن الآن أن نعفي الجماهير من عبء الدراسة العلمية؟ لا على العكس! إن كل ما أشرنا إليه يفضي فقط إلى أن الاستزادة من الدراسة العلمية على هيئتها الحالية ربما تضر أكثر بكثير مما تنفع. فإذا انخرط الدارسون في المزيد من الفيزياء والمزيد من الكيمياء والأحياء إلخ، على حساب الأدب والتاريخ، لربما يتحول حينها الأشخاص العاديون إلى مسوخ ضيقة الأفق، مسوخ تزدري تلك الأشياء التي لا تعرفها، فقط لأنها لا تعرفها. هذه الجماعات الممسوخة إن أنتجت، ستكون صاحبة الانفعالات السياسية الأكثر غباءً على الإطلاق. إن ثمة شخصًا بسيطًا، ربما غير متعلم، لكن لديه بعض الأخبار التاريخية ويملك حسًا جماليًا بسيطًا ومعتدلاً، يستطيع أن يصدر أحكامًا أفضل بكثير من هؤلاء المسوخ.

الحل الأفضل هنا، حسبما يتفق لي، أن نُعيد صب الدراسة العلمية في قالب جديد، بحيث يحرز هذا القالب المزيد من الفكر النقدي والتجريبي لدى الدارسين. بحيث يكتسب الطالب المتعلم طريقة ومنهجًا في التفكير، منهجًا يصلح للتعامل مع أي من المشكلات، كالتي تُلقى على مائدة الصباح. علينا إذن أن نهجر أسلوب التعليم المعاصر الذي يهدف فقط إلى تكديس كم معرفي هائل في عقل الدارس.

بادر من حولك بذلك الاقتراح، بأن ينفق المجتمع المزيد على التعليم، سيدعمك الكل، وبشدة، هنا حاول أن تستفسر منهم عن تصوراتهم حول ما يجب أن يكون، سيجيبونك دائمًا، بأنهم يحلمون بالمزيد من حشو المعرفة في الأذهان، المزيد والمزيد. ربما لأن المعنى الثاني الواسع للعلم الذي أشرنا له، فكرة غائبة عن الناس. فلا أحد يدري أن العلم هو في الحقيقة نظرة مغايرة ونقدية تجاه العالم.

والسبب في غياب تلك النظرة هو أن هناك من يمانعون وصولها للأشخاص البسطاء. هناك من يدعمون بشدة أن يبقى التصور بأن العلم مجرد بناء معرفي ضخم لا يمكن لأي شخص أن يتسلقه. وبرأيي، أن جزءًا لا بأس به ممن يمانعون شيوع ذلك التصور، هم العلماء أنفسهم، بدافع الغيرة المهنية المطلقة. لأنه ببساطة، إذا استوعبت الجماهير أن العلم مجرد نظرة للعالم، سيتمكن حينها أي شخص، يفكر بطريقة عقلانية متزنة، أن يُسمي نفسه عالمًا. حينها ستضيع المكانة الاجتماعية الهائلة التي يحظى بها الكيميائي والفيزيائي. سيخسرون ميزتهم الأساسية في نظر أنفسهم.

منذ مائة عام، وصف تشارلز كنجزلي العلم بأنه «إنتاج روائح كريهة في المعمل». منذ عام أو عامين أخبرني متخصص في الكيمياء، بعجرفة، أنه لا يدرك ما أهمية الشعر؟! وهلم جرا. أما أنا شخصيًا، فلا أفهم لماذا علينا أن نختار بين تعريفين للعلم، أحدهما حقيقي والآخر زائف لكنه رائج. رائج لمجرد أن نتائج علمية رائعة قد أحرزت هذه الأيام ولأن التطور بات مذهلا فعلا؟ لهذا يصرخ الجميع، علموا الجماهير، علموهم العلم! لكننا خلافًا لما كان يجب أن يكون، لا نسمع أي أصوات تنادي بأن نُعلم العلماء أشياء يحتاجونها خلاف العلم (الدقيق الذي يختصون فيه).

قبل أن أبدأ في كتابة هذا المقال للتو، قرأت عنوانًا في مجلة أمريكية يفيد بأن عددًا من العلماء الأمريكان والإنجليز قد رفضوا الاشتراك في البحث القائم حول تصنيع القنبلة الذرية، بعدما علموا بالهدف الخبيث وراء تصنيعها. وبالرغم من أن الأسماء لم تعلن، إلا أن التخمين هنا وارد، بأنهم أشخاص ذوو مرجعية ثقافية جيدة، ربما لديهم بعض الاطلاع على التاريخ أو الأدب. باختصار، إنهم ليسوا بأي حال من هؤلاء الأشخاص ذوي الرؤية المحدودة بالعلم، بتعريفه الراهن.