أكثر من 80 ألف شخص على ذمة محاكمات في تركيا منذ الانقلاب الفاشل عام 2016. كما طُرد قرابة 150 ألف موظف من الحكومة والأجهزة العسكرية بتهمة التواطؤ مع جماعة فتح الله كولن، المتهم الأبرز في المحاولة الانقلابية. هكذا هو الحال في تركيا بعد المحاولة الفاشلة، لكن من بين عشرات الآلاف ممن طالهم التضييق والاعتقال برز اسم واحد فقط ليصبح هو الواجهة لملف المعتقلين، عثمان كافالا.

عثمان أضحى لاحقًا سببًا في أزمة دبلوماسية بين تركيا و10 دول غربية على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا. إذ طالبت تلك الدول العشرة بالإفراج الفوري عن الرجل، فردّت الحكومة التركية باعتبار سفراء الدول العشرة أشخاصًا غير مرغوب فيهم.

كافالا رجل أعمال تركي من أصول يونانية، قرية كافالا، لعائلة تمتهن تجارة التبغ. حين انهارت الدولة العثمانية اختارت عائلته الحياة في تركيا بدلًا من اليونان أو باريس حيث الأخيرة هي مسقط رأس عثمان. ترعرع في تركيا ودرس إدارة الأعمال في جامعة الشرق الأوسط في أنقرة، ثم أكمل دراسته في جامعة مانشتسر في بريطانيا، ودرس الدكتوراه في نيويورك، لكنّه توقف عنها وعاد لتركيا عام 1982 بعد وفاة والده.

في تلك اللحظة تغيرت خطط كافالا، فأصبح الشاب البالغ 26 عامًا مسئولًا عن تسيير أعمال العائلة. لكن عثمان قاد دفة العمل نحو الاتجاه الخيري فخصص عددًا من الأصول لمناصرة المنظمات غير الربحية بخاصة التي تعمل من أجل الديمقراطية. كما بات عثمان نصيرًا للأقليات مثل الأرمن والأكراد.

من التجارة للسياسة للفنون

هذا التوجه للعمل الخيري والمناصر للديمقراطية جاء في بادية الثمانينيات حيث كانت تركيا تعاني من انقلاب عام 1980، وبدأت البلاد تشهد انحصارًا للديمقراطية. ثم لاحقًا حين شهدت تركيا زلزال عام 1999 الذي أودى بحياة 17 ألف تركي، وشرّد 17 مليون تركي، توجه كافالا لدعم المؤسسات الإغاثية ودعم منظمات المجتمع المدني.

بعد ثلاثة أعوام من الزلزال ترك عثمان قيادة الأعمال التجارية وأسس مؤسسة ثقافة الأناضول، التي تركز على قضايا الثقافة والفنون. شهدت تلك المؤسسة عصرها الذهبي في لحظة تولي العدالة والتنمية للحكم في تركيا. فقد تبنى رجب طيب أردوغان والعدالة والتنمية توجهًا ديمقراطيًا، خصوصًا في سعيهم للانضمام للاتحاد الأوروبي، فبات المجال مفتوحًا أمام مؤسسات المجتمع المدني، ومنها المؤسسات التي أنشأها كافالا والمؤسسات التي كان يدعمها.

لا يبدو عثمان كافالا وفق ما سبق رجلًا قد تمتلك السلطات التركية مبررًا لاعتقاله، فقد كان على تناغم مع السلطة الحاكمة، بل ومعترفًا بما تقدمه لتركيا، فالموقع الرسمي لمؤسسة الثقافة والفنون ذكر أكثر من مرة أنه استطاع تحقيق أهداف ضخمة وكثيرة في ظل حكم العدالة والتنمية.

لكن بعض الخيوط قد تكون هي المبرر أمام الحكومة التركية لترى احتمالية ضلوع الرجل في الانقلاب الفاشل. فقد ساعد كافالا على تأسيس فرع تركي لمؤسسة المجتمع المفتوح، المؤسسة التي أنشأها في الأصل رجل الأعمال المجري جورج سورس. المؤسسة تلاحقها اتهامات في أكثر من 120 بلدًا حول العالم بأنها تهدف إلى تخريب البلدان التي تنشأ فيها. وتُنفذ مؤسسة المجتمع المفتوح ذلك عبر دعمها لمحتجين ومتظاهرين مناهضين لحكومات بلادهم، ويُقدر إنفاق تلك المؤسسة غير الربحية قرابة 32 مليار دولار إجمالًا.

محاولة قلب نظام الحكم

عثمان عمل ضمن مجلس إدارة مؤسسة المجتمع المفتوح، كما لم ينكر كافالا أن له علاقة بجورج سورس، لكنه وصفها بأنها علاقة في إطار عمله في المؤسسة وضمن ما تسمح به القوانين التركية. ونفى كافالا مرارًا أن يكون قد أسهم في تمويل أي أعمال تخريبية في تركيا، أو دعم أي محاولة لقلب نظام الحكم في تركيا. لكن الرئيس التركي لا يوافق عثمان الرأي ويصفه دائمًا بأنه سورس تركيا.

لذلك قررت المؤسسة عام 2018 إنهاء أعمالها في تركيا، ومع قرار الإنهاء أكدت نفيها دعم أي حركات احتجاجية في تركيا. لكن التحقيقات كشفت اعترافات عن بعض أعضاء مجلس إدارة المؤسسة أن المؤسسة دعمت احتجاجات جيزي بارك عام 2013، وأن كافالا شخصيًا كان موجودًا فيها.

ربما جاء قرار المؤسسة متأخرًا بعض الشيء، فقد صار كافالا قيد الحجز منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2017، ما يعني أنه في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 قد أتم أربع سنوات بالفعل في الاحتجاز. احتجازه يأتي في إطار قانوني لمحاكمته، وقد ارتأت السلطات التركية عدم الإفراج عنه والقيام بمحاكمته وهو خارج السجن واستمرار حبسه طوال فترة المحاكمة.

التهم التي وُجهت إليه في بدايات اعتقاله تقلصت تباعًا وبقيت تهمة واحدة هي التي تجري محاكمته عليها، تهمة التدبير لإقامة مظاهرات جيزي بارك وتمويلها وتسهيل إيصال الدعم المالي للمحتجين بهدف إسقاط الحكومة التركية. لكن في فبراير/ شباط 2020 برأته المحكمة من تلك التهمة.

أُفرج عن عثمان بعد ثبوت برائته، لكنه بعد عودته لبيته بساعات قلائل أعادت السلطات التركية القبض عليه بتهم جديدة متعلقة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، ولا تظل تلك المحاكمة جارية حتى لحظة كتابة هذه الكلمات. التهمة الجديدة الموجهة إليه هي خرق المادة 328 من القانون التركي وهي أن عثمان حصل على معلومات بغرض التجسس السياسي أو العسكري أو المساس بأمن الدولة. وشريكه في التهمة الجديدة هو هنري باركي المسئول السابق في الخارجية الأمريكية.

ويبدو أن كلمات مراد كليكيان، صحافي ومعارض تركي، ستكون هي الصادقة في تحديد مصير عثمان، فقد صرّح مراد لـ«نيويورك تايمز» بأن محاكمة عثمان تتم على أسس سياسية صرفة، لذا فهو لن يخرج من السجن أبدًا إلا إذا خرج أردوغان من السلطة، أو موت أردوغان، أو أن يُغير رأيه.

التنديد يتراجع

منذ اللحظات الأولى لاعتقال كافالا وقضيته بات عنوانًا للتنديد بحقوق الإنسان في تركيا، وتعرضت تركيا لضغوط أجنبية ضخمة للإفراج عنه وعن باقي المعتقلين. وفي عام 2019 أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قرارًا ببراءة عثمان باعتبار أن اعتقاله تم من دون أدلة كافية. حاولت المحكمة إلزام تركيا بقرارها باعتبار تركيا عضوًا في المحكمة، لكن تركيا لم تلتزم.

وأصبحت تركيا مدانة نهائيًا من قبل المحكمة الأوروبية بانتهاكها لحقوق حرية التعبير. وبناءً على هذه الإدانة أصدر مجلس أوروبا، المنظمة الرئيسية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان في أوروبا، في سبتمبر/ أيلول 2021 تحذيرًا للسلطات التركية بالإفراج عن كافالا لكن لم تستجب تركيا.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2021 أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، وفرنسا، وكندا، والدنمارك، وفنلندا، وهولندا، ونيوزيلاندا، والنرويج، والسويد بيانًا مشتركًا يطالبون فيه تركيا بالإفراج عن كافالا البالغ 63 عامًا. على إثر هذا البيان اجتمع أردوغان بسفراء الدول العشرة وخيّرهم بين فهم موقف تركيا أو مغادرتها، وبعد اللقاء أعلنهم أردوغان أشخاصًا غير مرحب بهم.

هذا البيان التركي شديد اللهجة قابله مواقف أكثر مرونة من الدول المعنية، فقد أعلنت وزارات الخارجية في بعض الدول أنها تحترم اتفاقية فيينا المتعلقة بالحصانة الدبلوماسية وعدم التدخل في شئون الدول الداخلية. كذلك أعلنت الولايات المتحدة وعدد من الدول أنهم ملتزمون بالاتفاقيات التي تنص على عدم التدخل في شئون الدول المضيفة. ولاقت هذه البيانات المتوافقة في مضمانيها ترحيبًا من أردوغان واعتبرها تراجعًا عن موقف تلك الدول السابق الداعم لرجل متهم بالتورط في انقلاب عسكري.