ستون ثانية زمن قياسي لذكرى لم ينسها أجيال من المصريين على مدار 30 عامًا، ففي عصر الإثنين 12 أكتوبر 1992 بعد الساعة الثالثة عصرًا، اهتزت المباني الشاهقة وارتجفت معها ملايين القلوب في خضم هرولة من الجميع، في مشهد يكاد يقنعك بأنها نهاية العالم.

 ستون ثانية كانت كافية وكفيلة لغرس الرعب والخوف في نفوس جيل كامل ظل يتذكر كل عام السيناريو الدرامي لزلزال 92، فهناك جيل كامل أطلق عليه جيل الزلزال لأن ما شاهده يعد أكبر الكوارث الطبيعية التي شهدتها مصر، وكان سببًا في مصرع العشرات وتشرد بسببه المئات جراء الخسائر التى تسبب فيها ذلك الوقت، ويعد الزلزال الأكثر تأثيرًا على القاهرة بعد زلزل عام 1847.

حطام منزلنا فوق ألعابي  

بحسب ما أفادت نورا حسين في حديثها لـ«إضاءات»:

أصيبت معظم بيوت مصر القديمة بتصدعات وبعضها تهدم، وشهدت مصر عدة توابع لهذا الزلزال استمرت على مدار الأربعة أيام التالية. كنا صغارًا وقتها، ولكني أتذكر ذلك اليوم جيدًا، تركتني أمي عند الجيران وسط صرخات وصيحات الجميع لتلحق بأخواتي الكبار في المدرسة التي وقعت أجزاء منها فوق رؤوس كثير من الطلاب وقتها ولكن العنائية الإلهية وأمي أنقذا أشقائي.

وتضيف: في منطقة روض الفرج كانت البيوت والمباني متهالكة إلى حد كبير، وجزء كبير من تلك المباني وقع فوق رؤوس أصحابها، كل شيء تحول إلى كوم تراب حتى منزلي الذي ولدت فيه، كانت آخر ذكرى لنا فيه ذلك اليوم المأساوي لأنه بمجرد أن وقع الزلزال سقط جزء كبير منه.

وتابعت نورا ، 35 عامًا، «بعدها انتقلنا إلى مخيمات الإيواء بعد أن تهدم المنزل وتحطمت معه كل ألعابي الصغيرة وكل أشيائي التي تخليت عنها وقتها رغمًا عني».

«وبعد 3 أشهر من العيش في تلك المخيمات انتقلنا إلى منزلنا الجديد ليبدأ معها فصل جديد من ذكرياتي وحياتي، فقد كان الزلزال نقطة تحول في حياتي أنا وأسرتي فكل شيء لم يعد كما كان قبل أن يقع الزلزال»، بحسب ما قالت نورا لـ«إضاءات».

يوم أدركت معنى الخوف

ولم تنسَ مها عبدالرحمن، 37 عامًا، مشهد والدتها التي احتضنتها هي وشقيقتيها مسرعة نحو الباب، قائلة «كادت أمي تمزق يدي من شدة خوفها علي، فقد كنت أصغر إخواتي وأضعفهم جسمًا».

وواصلت مها، في تصريحات لـ«إضاءات»، «فور نزولنا الشارع وجدت مشهدًا لم أنسه فقد وجدت ابنة جارتنا تصرخ بشكل هيستري «أمي أمي» والجميع يحتضنها ويمنعها من دخول العقار مرة أخرى، لإنقاذ والدتها القعيدة التي ظلت بمفردها داخل شقتها، ولم يمتلك أحد الشجاعة أو القدرة على حملها وإخراجها من المنزل وقت حدوث الزلزال».

«ذلك المشهد لم يغب من بالي أبدًا، وأدركت وقتها معنى الخوف جيدًا وكيف تصل لدرجة لا تستطيع فيها أن تحمي أقرب إنسان إليك».

يوم وفاة صغيرة الحي

كانت لدى شيرين بكر، ذكرى أخرى حملتها معها على مدار أكثر من ثلاثة عقود، فأحيانًا يحمل القدر حظًا سعيدًا، حينما كانت في الصف الأول الابتدائي ولم تذهب للمدرسة يومها، إلا أن زميتلها وحيدة أمها وأبيها ذهبت يومها لتلقى حتفها تحت سور المدرسة نتيجة تدافع الأهالي والتلاميذ داخل المدارس بمنطقة الصلب في التبين بحلوان.

وأَضافت  شيرين في حديثها إلينا، «كنت صغيرة، لا أتذكر سوى أني بالصدفة لم أذهب إلى المدرسة في ذلك اليوم، حينما أدركنا وقوع الزلزال أصيبت أمي  بحالة ذعر، ولم ينم أحد ليلتها في بيته، فقد افترشنا الشارع مع الجيران، وبقينا عدة أيام في الشارع»، وواصلت «لم ينم أحد في بيته داخل ذلك الحي الشعبي، والكل خرج نام بعياله في الشوارع».

الشارع كله كان في حالة حزن بسبب وفاة إحدى صغيرات الحي، فقد نقصت صُحبتنا وقت اللعب واحدة، أدركت وقتها ما معنى أن يُغيب الموت فردًا كان يلهو ويجري معنا ليرحل ويترك ذكرى جميلة.

القدر أنقذنا

فيما أفادت أسماء سمير، 38 عاما، لـ«إضاءات»، بأنها ومعظم أفراد أسرتها لم يكونوا في المنزل الذي احتاج للتنكيس بعد حادث الزلزال، مضيفة «كنت في المدرسة ووالدتي كانت في الشارع، ومن ثم جاءت شقيقتي الكبرى لإنقاذي فور سماعها بالزلزال ومن حسن حظنا أنه لم يكن أحد منا في البيت الذي تعرض لشروخ وتصدعات احتاجت لتصليح شهور».

وتابعت «وقتها لم نعد إلى البيت إلا بعد شهور طويلة، حتى يتم ترميم منزلنا، وأتذكر وقت عودتي للمنزل كانت سعادتي كبيرة».

فيما يروي أحمد محمد السيد لـ«إضاءات»، تفاصيل زيارته إلى جدته التي ربما لم تكن عادية هذه المرة، فقد كانت كل مرة يزور فيها جدته يعود محملًا بالهدايا والألعاب، إلا أن هذه المرة عاد مختلفًا، فقد عاد محملًا بلحظات رعب عاشها مع شقيقه الأصغر وأمه وجدته التي كانت تسكن في الدور الأخير.

واستطرد «وجدت أمي فجأة تسحلني وراءها على الدرج، حاملة معها أخي الرضيع بين ذراعيها، وانتظرنا في الشارع فترة طويلة، ولم نعد إلى بيت جدتي إلا بعد فترة كبير تصل لشهور خوفًا من التوابع  ولإصابة منزل جدتي بكثير من التصدعات والشروخ».

الزلزال وبنايات وسط البلد

ترك الزلزال أيضًا ذكريات لدى جيل آخر، حاملًا معه معاني أخرى ربما لم يتدبرها الجيل الأصغر، كان محمد السيد عبدالعال في زيارة لوالده بإحدى عمارات وسط البلد التي لم تنحن يومًا لزلزال أو توابعه، ولكن يتذكر محمد أنه أخذ والده مهرولًا نحو أسفل تلك البناية على سلالم متهالكة وشاهقة الارتفاع حاملًا على كتفه والده كبير السن الذي لم يستطع أن يزيد من سرعة خطواته الهزيلة،  وبعدما نجحت عملية نزول محمد ووالده للشارع وجدوا أسوار أسطح تلك البنايات تتساقط فوق رؤوسهم حتى أصيب العشرات جراء سقوط أسوار أسطح تلك البنايات.

وبحسب رواية محمد، 68 عامًا، لـ«إضاءات»، « أتذكر أنه كان لذلك الزلزال توابع، وفي أحد توابعه كنت في عملي داخل جريدة الجمهورية، وقرر زملائي أن يتخذوا طريق النجاة الأسهل نحو أسفل المبنى ومن ثم الخروج للشارع، ولكني قررت شيئًا آخر وقتها فقد صعدت لأعلى المبنى لعلي أجد ملاذًا آخر، حتى لا تقع كل أدوار المؤسسة فوق رأسي».

أكثم بطل رواية لا تموت

وتروي نهى توفيق، 37 عاماً، لـ«إضاءات»، أنها وأهل قريتها بالمنوفية شعروا بالزلزال ولكن لم يعيشوا تلك اللحظات المروعة التي كانت تبثها شاشات التلفاز، وكانت أكثر المشاهد التلفزيونية تأثيرًا في نفسها وظلت معها حتى الآن لحظة خروج أكثم، ذلك البطل الذي خرج من تحت الأنقاض بعد 82 ساعة وأكثر.

ثلاثة أيام ونصف اليوم عاشها أكثم، تحت الركام محتميًا بذلك العمود الخرساني الذي منع السقف من السقوط عليه، فلم يكن وحيدًا، كان بصحبته: «والدته، زوجته وابنته سميرة»، كانوا يتحدثون جميعًا حتى ساد الصمت فعلم أكثم وقتها أن رفض أسرته ووالدته شُرب «البول»، كان سببًا كافيًا لكي يلقوا مصرعهم جواره.

ولم يظهر أكثم عبر شاشات التلفاز سوى فى حوارٍ واحد مُقتضب للتلفزيون المصري،  عقب الحادث مباشرة، ووصفته مانشيتات الجرائد بالمعجزة البشرية، ورغم غيابه الذي طال لما يزيد على الـ28 عامًا، إلا أن ذكراه حية في عقول أجيال كاملة.