في تفاصيل وجودها تجد التاريخ متدثرًا فيها بأريج أزهار الياسمين والورود المختلفة ألوانًا وأسماءً، ليجمع كل المشاعر الإنسانية الضاجة بالمتناقضات والأضداد في نفوس كل من سكنوها واعتلوا عرش حكمها من أجناس البشر لعشرة آلاف سنة كاملة، بعضهم وجدوا فيها الملجأ الأمين وآخرين عدّوها عين الصحراء ودرب الآلام.

إنها «أريحا» التي جمعت ملامح الإنسانية للتاريخ البشري منذ العصر الحجري إلى أن أضحت مدينة «السلام» على إثر الاتفاق الأول والأبرز بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، والذي أضحت بموجبه خاضعة للحكم الذاتي من قبل السلطة الفلسطينية، مما جعلها تشهد تحولات كبيرة على مستوى الوجود الحضاري والتطور السياحي في جنباتها؛ فأُقيمت فيها الفنادق والحدائق العامة وشهدت إقامة أول مشروع تلفريك وأول كازينو (انتركونتيننتال) في المحافظات الفلسطينية بالشمال يأوي إليه الأجانب ويلزمه رجالات السلطة في كل اجتماعاتهم ورحلات مفاوضاتهم.


تطور تاريخ المدينة

هناك ومنذ فجر التاريخ سُمعت أصوات البشر في أريحا، إذ يعود تاريخ الحياة الإنسانية فيها إلى العصر الحجري الذي اعتمد فيه الإنسان التنقل والترحال حسب توفر الماء والكلأ، ثم بدأ في الاستقرار معتمدًا في حياته على الزراعة وتربية الحيوانات وصولًا إلى حضارة العصر الكنعاني فالروماني والأموي وما تبعه من تداول الحضارات الإنسانية، مما منح المدينة تاريخًا لا يُمكن تجاهله أو تغافل مراحله التي أسبغت تاريخ المدينة بمظاهرها.

يختلف «قصر هشام» بمدينة أريحا عن غيره من الآثار الإسلامية لتزيينه وزخرفته بمختلف فنون النحت والرسم الطبيعي للإنسان والحيوان

ففي العصر الكنعاني عُرفت أريحا باسم «مدينة القمر» نسبة إلى الإله الكنعاني «باريخ». ثم اشتُق من مصدر الكلمة الثلاثي «يريح» لتعني العطر فكانت أريحا مدينة القمر العطِرة، إذ لا يُمكنك أن تمر بالمدينة إلا وتتنسم عبق بساتينها وأزهارها الغنّاء.

وفي العصر الروماني بدت مشتى فلسطين والقدس الرئيس خاصة بعد أن بنى الملك هيرودس قصر شمال وجنوب وادي القلط، وفي العصر الأموي أضحت منارة تراثية وثقافية بعد بناء الخليفة هشام بن عبد الملك «قصر هشام» عام 737، واستكمال زينته الزخرفية من قبل الوليد بن يزيد عام 744، من فنون النحت والرسم الطبيعي للإنسان والحيوان، والتي ميزته عن باقي الآثار الإسلامية من مساجد ومدارس، واعتمدت أساليب الزخرفة والزينة فهي على الأنماط الهندسية والخطوط والأشكال النباتية التجريدية.

وما إن دخل العهد القسطنطيني حتى باتت أريحا مركزًا لأسقفية، إذ انتشرت وقتها الديانة المسيحية وتم تشييد الأديرة والكنائس في ضواحي المدينة، وعلى وقع التطور التاريخي ودخول العهد البيزنطي استمرت أريحا في الازدهار حتى الفتوحات العربية للمدينة في القرن السابع الميلادي حيث أتبعوا أريحا للرملة في جند فلسطين.


العصر الإسلامي وجه استقرار المدينة

ومع فجر الإسلام عُرفت أريحا بالزراعة وأضحت أهم مدينة زراعية في غور الأردن، واشتهرت بزراعة النخيل والموز وقصب السكر والريحات والحنة والبلسم والنيل، فوطئها أقوام مختلفون من قيس وآخرون من قريش، لكن هذه المكانة تراجعت؛ ففي القرن الثامن عشر لم تكن أريحا سوى قرية صغيرة وفقيرة، واشتهرت وقتها بزراعة أشجار الزقوم وكانت تُنتج زيته، واستمرت على حالها خلال القرن التاسع عشر.

ومع بدايات القرن العشرين وطئها بعض سكان القدس إذ اتخذوها كمشتى سياحي ومن ثمّ بدأوا في إنشاء المباني السكنية للاستقرار فيها، وعمدوا إلى استعادة مجدها الزراعي فنثروا فيها كل أنواع الفواكه والخضراوات، حتى زمن الانتداب البريطاني فعادت مكانتها إلى الازدهار مجددًا، خاصة مع وجود مجلس محلي للمدينة عمل على تطويرها بفتح الشوارع ومنح تراخيص البناء والإشراف على توزيع المياه على المزارعين.

زاد عدد السكان بمدينة أريحا خلال النصف الأول من القرن العشرين ليصل إلي 3010 نسمة خلال عام 1945 علي امتداد مساحة 38 دونما

ما قضى بتحويل المدينة من ناحية إلى مركز قضاء كانت نتيجته مُبهرة، وزيادة نمو وعمران المدينة على المستوى الديموغرافي، حيث زاد عدد سكان المدينة خلال النصف الأول من القرن العشرين حيث وصل إلى 3010 نسمات خلال عام 1945، على امتداد مساحة 38 دونمًا تضم بيوتًا من الطين حينًا وأخرى مسقوفة بالتراب الممزوج بالتبن والمرصوص فوق قضبان من القصب أو الخشب للحد من حدة حرارة الجو في البيت والعمل على ترطيبه.

بينما تطورت المباني في عهد الانتداب البريطاني لتكون مبنية من الحجر والأسمنت ومُحاطة ببساتين من الأزهار والأشجار التي تعمل على تنقية الهواء وتُلقي بظلها على المساكن فتُرطبها.

ومع حلول النكبّة عام 1948 عايشت المدينة تحولات جوهرية فتدفق عليها اللاجئون من كل حدبٍ وصوب، واستقروا في مخيم عين السلطان ومخيم عقبة جبر ومخيم النويعمة، حتى تجاوز عدد سكان المدينة الـ 10 آلاف نسمة عام 1961، وفي السبعينيات وصل عدد السكان إلى 15.000 نسمة وصاحب هذه الزيادة توسع في مساحة المدينة.

وبلغ عدد البيوت في مطلع الستينيات 2.106 أبيات بدأت في التزايد واستمرت حتى وقتنا الحالي، كما تزايدت أعداد السكان في المُخيمات الثلاث وبلغ عدد سكان مخيم عقبة جبر المخيم الأكبر في أريحا قرابه الـ 4.000 لاجئ خلال عام 2013، بينما لم يتجاوز سكان مخيم عين السلطان الـ 3.500 لاجئ ومخيم النويعمة 2.500 لاجئ في ذات الفترة.


بوابة فلسطين الشرقية

لم يُفضِ تاريخ المدينة إلى اكتسابها الأهمية التاريخية وحسب، بل إن موقعها منحها الهوية الاقتصادية فكانت مُلتقى التجارة بين كافة المدن الفلسطينية وكذلك مع العالم الخارجي، فهي البوابة الرئيسية للفلسطينيين نحو العالم، إذ تميل إلى الشرق عن القدس العتيقة قرابة الثلاثين كيلو مترًا، أما من الغرب فتتجه على بُعد 7 كيلو مترات من نهر الأردن، وتزداد فجوة البعد في الشمال إلى 10 كيلو مترات عن البحر الميت، بينما تنخفض عن سطح البحر قرابة الـ 250 كيلو مترًا مما يجعلها أخفض مدينة في العالم.

وشكلت أريحا على مدار سنوات تاريخها الطويل سلة الغذاء الرئيسية في فلسطين باعتبار سكانها احترفوا الزراعة منذ أن وطئت أقدامهم المدينة، وكانت المحاصيل التي تُنتجها من الخضار والفواكه تفي بالاحتياجات المحلية وما يتّبقى منها يتم تصديره إلى الخليج العربي وبلاد الشام، مما دفع إسرائيل إلى محاولة إنهاء هذه المكانة وعمدت إلى تجفيف المنابع المحاذية لنهر الأردن والمُقدرة مساحتها بين 1-5 كيلو مترات عبر سحب المياه من هناك ومن منطقة المغطس.

وفي العصر الحديث عمدت إلى تكثيف استيطانها بالأغوار لتستحوذ على أكبر مساحة منها على حساب الوجود الفلسطيني، بالإضافة إلى إبقاء مساحات شاسعة من أراضي المدينة تحت بند «منطقة عسكرية مغلقة» والذي بموجبه لا يُمكن وصول الفلسطيني إلى أرضه ورعايتها وزراعتها بالمحاصيل المختلفة.

المناخ الدافئ في مدينة أريحا، بالإضافة لوقوعها بين الأغوار منحها قيمة سياحية كبيرة خاصة في فصل الشتاء إذ يسودها المناخ المعتدل الدافئ

وفي إطار مناقب الأهمية الاقتصادية التي تتمتع بها أريحا فإن مناخها الدافئ ووقوعها بين الأغوار منحها قيمة سياحية أُخرى خاصة في فصل الشتاء إذ يسودها المناخ المعتدل الدافئ، ناهيك عن احتضانها لشواطئ البحر الميت التي يأوي إليها السيّاح المحليون والأجانب للاستمتاع والترفيه، إذ تنعدم فيه مخاطر السباحة، وكذلك للاستفادة من الخصائص العلاجية فيه، ويُقدر عدد السياح فيها سنويًا بين مليون ومليون ونصف سائح، لكنّ الاحتلال الإسرائيلي يسعى دومًا إلى الانتقاص من هذه المكانة لصالحه.

فبدأ بطرح «البحر الميت» للتصويت العالمي ليُضاف إلى قائمة عجائب الدنيا متجاهلة الحق الفلسطيني بامتلاك قرابة الـ 17 كيلومترًا في مياهه من ناحية الشاطئ الشمالي، وكيف لا تفعل ذلك وهي التي تمنع الفلسطينيين رغم حقهم التاريخي والقانون فيه من الوصول إليه، ومن ثمَّ عمد إلى بث الشائعات الكثيرة بين السيّاح أن المدينة غير آمنة مما كلف الفلسطينيين هناك الكثير من الخسائر المالية التي لم يتمكنوا من تعويضها.


آثار المدينة

بحسب عمر المدينة المُمعن في القدم فإنها تضم الكثير من المعالم الأثرية بدءًا من تل عين السلطان ودير قرنطل أو ما يُعرف بـ «جبل الأربعين» والذي يعود تأسيسه إلى زمن السيد المسيح على يد الأرشمندريت أفراموس، وصولًا إلى دير مار يوحنا الذي يضم كنيسة الراعي صالح وتمثالًا للسيدة العذراء والطفل يسوع وتمثالًا آخر للسيد المسيح وغيرها، مما منحها أهمية تراثية وتاريخية لا تُضاهيها فيها أي مدينة في العالم.

  1. تل عين السلطان: مهد البداية

على بُعد كيلو مترين شمالي غرب المدينة يستقر التل، وجوده كان السبب الذي جعل خبراء الآثار وعلم التاريخ يُقرون بأن أريحا أقدم مدن العالم، إذ كانت نبعة «تل عين السلطان» سبب الاستيطان البشري بمدينة أريحا، إذ يعود تاريخها إلى العصور الحجرية.

ما يهم أن النبع هو من جمع الأطياف البشرية حوله ليؤسس لحضارة المدينة، وأن تسميته كانت في البداية خالصة للبابليين إذ أطلقوا «عين السلطان» عليه بعد أن اقتلعوا عيني ملك منحى عن العرش من بيت المقدس عنده، ومن ثمَّ جاء النبي اليشا وقام بتحلية مياه النبع وبعدها أُطلق عليه «نبع اليشا» نسبة إليه.

تل السلطان، أريحا
تل السلطان
  1. جبل الأربعين (دير قرنطل)

يرتفع هذا الجبل قرابة 350 مترًا فوق مستوى سطح البحر، ورغم أن ذلك يمنحه جمالية منقطعة النظير إلا أن أهميته كلوحة تاريخية تعود إلى ارتباطه بالسيد المسيح، إذ قضى فيه أربعين يومًا صائمًا يُصلي ويتعبد في محرابه، ناهيك عن وجود 30-40 كهفا في المنحدرات الشرقية للجبل يأوي إليها النساك والرهبان منذ الأيام الأولى للمسيحية، بالإضافة إلى تشييد الدير «دير قرنطل» فوق المغارة التي تعبد فيها السيد المسيح خلال القرن السادس الميلادي.

جبل الأربعين، أريحا
جبل الأربعين
  1. قصر هشام

على بُعد 5 كيلو مترات باتجاه الضواحي الشمالية لمدينة أريحا يتربع هذا القصر، كأهم معلم تاريخي إسلامي إذ أمر ببنائه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وضم مجموعة من الأبنية وأحواض الاستحمام والجوامع والقاعات الكبيرة المُفعمة بالأعمدة الأثرية ولوحات الفسيفساء والزخارف التي عُدت أهم عناصر الجذب للسياح والزوار، وتم نقلها إلى متحف روكفلر في القدس.

  1. وادي القلط (دير القلط)

على بُعد ثلاثة كيلو مترات بعد تجاوز الخان الأحمر وباتجاهٍ منحدر نحو «وادي الأردن» تقودك ثلاث طرق فرعية من جهة الشمال إلى وادي القلط، الذي هو انهدام طبيعي في المرتفعات مع الجدران الصخرية المرتفعة بين القدس وأريحا لمسافة 45 كيلومترا.

تُشير قراءات الأدلاء السياحيين إلى أن الطريق الضيقة التي تمتد بمحاذاة الوادي كانت المسلك الرئيسي للمدينة، لكنها اليوم تُستخدم من قبل السياح الزائرين للدير.

وادي القلط، أريحا
وادي القلط
  1. مقام النبي موسى

تجده بالاتجاه إلى شرق القدس المحتلة وتحديدًا على مسافة 28 كيلو مترا، ويُعد نموذجا للعمارة الإسلامية التي تعود للقرون الوسطى، أوجده صلاح الدين الأيوبي فيما أقام بناءه الظاهر بيبرس عام 1269، يمتاز بضخامة أبنيته وتاريخه القديم، وشهرته الواسعة، ودوره في تاريخ فلسطين الحديث. أما تسميته فهي لا تتصل بأي علاقة تاريخية بالنبي موسى عليه السلام – وفق ما تُشير إليه القراءات التاريخية – والتي تُؤكد أن النبي موسى قد توفي ودُفن في التيه، ولم يحضر إلى فلسطين.

مقام النبي موسى، أريحا
مقام النبي موسى