يُشاعُ أنَّ الأمراض النفسية تُورَّث من الوالدين إلى أولادهم، وعلى الرغم من عدم وجود أدلة كافية على توريثها بيولوجيًّا، إلَّا أنَّ الأبناء قد يَرِثون بالفعل من والديهم بعض الجينات التي تجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية، أمَّا الباقي فيتوقف بشكلٍ مباشر على نشأة الطفل الأولى. فلا يتِم توريثها من الوالدين ولكن بيدهم خلقها، فمنشؤها الفعلي هو الطفولة.

الطفولة؛ منشأ الصدمات النفسية

لطالما كان ميلاد أغلب الصدمات النفسية مرتبطًا بالطفولة باعتبارها الفترة النمائية الأكثر حرجًا في حياة الإنسان. أوضحت الأمر بالتفصيل الاستشارية والمعالجة النفسية د. منال حلمي في حوارها عن منشأ الصدمة، حيث يُولَدُ الطفل ويخرج إلى الدنيا في مشهد إعجازٍ إلهي يُغير حياته بالكامل؛ من طفلٍ يَستمِدُّ كل احتياجاته النفسية والجسدية – من الشعور بالأمان حتى تلقِّي الغذاء – بشكل تلقائي وهو في رحم والدته، إلى كائنٍ ضعيف لا يدري ما هي احتياجاته في الأساس ولا يقوى حتى على طلبها. وهنا تكمن وظيفة الوالدين في تلبية هذه الاحتياجات.

وتنشأ صدمة الطفل الأولى من عدم تلبية احتياجاته بعد الميلاد وتُرافِقه مدى الحياة، فيستعيد ذكراها مرارًا وتكرارًا مع مروره بمختلف المواقف المشابهة. فعلى سبيل المثال إذا فقد الطفل اهتمام والديه بسبب ميلاد أخٍ له فسيعاني من هذا الفقد حياته كلها، وإلى أن يتخطاها، سيقوم ذهنه بإحياء هذه الذكرى مع كل موقف تهديد مشابه، وسيعاني من فقد هذا الاهتمام على مدى حياته.

الصحة النفسية للأطفال تعتمد على والديهم

أن ينمو الطفل بشكلٍ صحي نفسيًّا يعني أن يصل إلى مراحل تنموية وعاطفية متقدمة، أن يتعلم المهارات الاجتماعية الصحية وأن يكون قادرًا على التعامل مع المشاكل. ومن المُرجَّح أن يتمتع الأطفال الأصحاء نفسيًّا بحياة إيجابية وأن يعملوا بشكل جيد في المنزل، والمدرسة، وفي المجتمع بشكلٍ عام.

ولكن النمو الصحي للطفل يعتمد على والديه أو مقدمي الرعاية الذين يقومون بدور الوالدين، لأنهم هم من يُمثِّلون المصادر الأولى لدعمهم في أن يصبحوا مستقلين ويعيشوا حياة صحية وناجحة.

وترتبط الصحة النفسية للوالدين والأطفال بطرق متعددة. فالآباء والأمهات الذين يعانون من مشاكل نفسية خاصة بهم، مثل التعامل مع أعراض الاكتئاب أو القلق، حتمًا سيواجهون صعوبة أكبر في توفير الرعاية لأطفالهم مقارنة بالآباء والأمهات الأصحاء نفسيًّا.

ورعاية الأطفال بذاتها من الممكن أن تتسبَّب في خلق تحديات جديدة للوالدين، خاصةً إذا كانوا يفتقرون إلى الوعي الكافي، مما قد يكون له تأثير سلبي على الصحة النفسية للطفل في النهاية.

تهديدات الوالدين النفسية يواجهها الأبناء

من أبٍ مشحونٍ بطاقة سلبية من مديره في العمل، وأم مُرهقةٍ من الأعمال المنزلية، لطفلٍ بريءٍ من مشاكلهم؛ تنشأ أغلب الأمراض النفسية بشكلٍ غير مُتعمَّد.

أوضح «ستيفن كوفي» في كتابه «العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية» أنَّ لكل شخصٍ دائرتين: دائرة الاهتمام ودائرة التأثير. دائرة الاهتمام هي الدائرة الأكبر في حياة الشخص وتشمل كل الأمور التي ليس لديه سيطرة عليها وتؤثر عليه بشكلٍ مباشر، مثل الطقس الخارجي أو تعامل الأشخاص من حوله معه. أمَّا دائرة التأثير فهي الدائرة الأصغر وتشمل الأمور التي باستطاعته السيطرة عليها، مثل الأفعال الصادرة منه أو الكلام.

وما يحدث دائمًا هو أنَّ الوالدين يكونون تحت التأثير السلبي من دائرة الاهتمام الخارجية، ويقومون بإسقاط هذه السلبية في دائرة تأثيرهم، والتي يتلقاها الطفل وتؤثر على نموه وصحته النفسية.

حياة طفلٍ لوالدين معتلين نفسيًّا

هل تساءلت يومًا عما يمر به الأطفال الذي يجدون آباءهم أو أمهاتهم يعانون من أمراض نفسية؟

أوضح د. آلان كوكلين في دراسةٍ أجراها مع بعض الصغار الذين كان والدوهم يعانون من أمراضٍ نفسية، أنَّه إذا كنت صغيرًا لأبٍ أو أم يعانيان من بعض الأمراض الجسدية فقد تكون حياتك مُقيَّدة قليلًا أو قد تفتقد إلى بعض المرح، ولكن الأمر سيبدو منطقيًّا لك وستكون قادرًا على تفهمه، بل ستنال أيضًا بعض الاعتراف والثناء لتحملك لهما أو مساعدتهما في أي شيء.

ولكن في حال الأمراض النفسية، أنت هنا لا تدرك ما يحدث، بإمكانك ملاحظة أنه غير طبيعي ولكنك لا تستطيع منطقة الأمر ولا تدري ما يتوجب عليك فعله. قد تبادر بالمساعدة وتقوم بإعطاء والديك الأدوية، تتحمل بعض النوبات المتكررة من الغضب أو القلق، وقد تتصل أيضًا بالطوارئ في بعض الأحيان إذا تعرض أحد الوالدين للأذى الذاتي أو محاولة الانتحار، وفي النهاية لن تحصل على أي ثناء أو اعتراف بالامتنان لما تفعله، بل قد تُلام، ويقال إنك السبب في كل ما يحدث.

يعاني صغار هؤلاء الآباء من خوف مستمر من أن يُصابوا هم أيضًا بذات المرض النفسي في المستقبل، فيصبحوا دائمي التفكير في آبائهم وفي المسئولية المُلقاة على عاتقهم، فيُهملون ما دونه. ومنها يعاني أغلب هؤلاء الصغار بنسبة كبيرة في علاقاتهم الاجتماعية ويميلون دائمًا إلى العزلة بشكل ملحوظ، وعلاوة على ذلك دائمًا ما يتعرضون للتنمر والنفور، سواء لعزلتهم أو من خلال معايرتهم بأمراض آبائهم.

الصحة النفسية كمادة دراسية

تكمن المشكلة الرئيسية في نمو الصغار مع والدين يعانون من الأمراض النفسية هي انعدام الوعي من الأساس حول الصحة النفسية، فيجهلون ماهيتها ولا يستطيعون التعامل معها بشكل سليم أو معالجة مشاعرهم بشكل صحي، فيدفنونها أو يقومون ببناء ميكانزمات دفاع لحماية أنفسهم من المرور بنفس الألم مرةً أخرى.

وعلى الرغم من أهمية تثقيف الصغار بصحتهم النفسية باختلاف ظروف نشأتهم والبيئة التي ينمون فيها، إلا أن جميع المدارس تخلو من مناهج الصحة النفسية، فيتعلم الصغار مختلف العلوم باستثناء ما يؤهلهم للتعامل مع أنفسهم ومشاعرهم.

ومن هنا يأتي دور الوالدين، والمدرسين، وأولياء الأمور بشكل عام، بأن يحرصوا على تعويض هذا العجز الواضح من المدارس، فيقوموا بتثقيف صغارهم عن جانبهم النفسي، كمادة رئيسية في الحياة أهم من الفيزياء والكيمياء، فيتعرفوا على مشاعرهم ويتعلموا كيف يتعاملون معها بشكلٍ صحي.

وقد أتاحت منصة توينكل العديد من الموارد التعليمية التي بإمكانها المساعدة في تعليم الصغار وتثقيفهم عن صحتهم النفسية، مثل لوحات تنظيم المشاعر وشرائح عرض للتوعية بالصحة النفسية وغيرها الكثير، والتي بدورها ستسهل دور أولياء الأمور وتدفع حياة الطفل للأفضل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.