بعد 16 عامًا على رأس الحكومة الألمانية، ستترك المستشارة أنجيلا ميركل منصبها خلال أيام، وستصبح عاطلة عن العمل. يترقب الجميع ماذا ستفعل، ربما تعود للتدريس في الجامعة، أو تتفرغ للأنشطة الخدمية، وربما يكون في انتظارها وظيفة لم تتوقعها، نعلم أنك لا تهتم بميركل ووظيفتها، لذا نعتذر، دعنا نبدأ.

تبدأ الحكاية في عام 2011 حين قررت دولة قطر ممثلة في «مؤسسة قطر للاستثمارات الرياضية»، شراء نادٍ أوروبي، ولعدة أسباب قررت الذهاب إلى فرنسا، ووقع الاختيار على باريس سان جيرمان.

بدأت بعدها عملية الصرف المكثفة على الفريق ليتحول في سنوات قليلة لأحد كبار أوروبا، وبينما فاز باريس سان جيرمان ببطولتي دوري فقط خلال تاريخه، فإن عشر سنوات مضت على استحواذ القطريين على النادي لم يخسر فيها الدوري سوى مرتين، وصار ضيفًا دائمًا في أدوار دوري الأبطال المتقدمة، رغم أنه لم يحققها حتى الآن.

استمرت عملية الصرف منذ اليوم الأول ولم تنقطع. كسر الفريق الرقم القياسي لأغلى مدافع في التاريخ 3 مرات، ثم وصلت لذروة الجنون في صيف 2017، حين وقع الفريق مع نيمار ومبابي في سوق واحد، ولم تكن كافية لإرضاء طموح الملاك، فقرروا مواصلة الإنفاق.

وفي صيف 2021، حصلوا على راموس وفينالدوم ودونادروما وأشرف حكيمي ونونو مينديز، وبالطبع ليونيل ميسي.

لماذا؟

هذا سؤال بديهي ربما، لماذا تهدر قطر كل هذه الأموال على نادٍ لكرة القدم؟ الكلمة الحقيقية هي تهدر نعم وليست تستثمر، لا تخدعك تصريحات المسئولين.

في كتابه «Soccernomics» يرى «سايمون كوبر» أن أندية كرة القدم ليست مؤهلة لتكون استثمارًا من الأصل. هي ليست استثمارًا ضعيفًا بربح قليل مثلًا، لا، هي لا تصلح لتكون استثمار أبدًا، والأندية التي تحقق أرباحًا هي استثناء للقاعدة، وكذلك فإن أرباحها لا تتناسب فعليًا مع مقدار الاستثمارات المدفوعة مقارنة بأي مجال استثماري آخر.

ليس هناك كيان استثماري ينفق 400 مليون دولار لاستقدام لاعبين فقط لأجل الفوز ببطولة لا تتعدى أرباحها 100 مليون دولار، أو أن يتكبد 355 مليون دولار فاتورة رواتب سنوية في وقت تعاني فيه الشركات العالمية من تبعات فيروس كورونا.

ولا يمكن لكيان استثماري أن يرفض 170 مليون يورو في لاعب مثل مبابي يمكنه التوقيع مجانًا بعد 6 أشهر، وفعل الموقف نفسه مع رابيو ثم رحل مجانًا، هذا لا علاقة له بالاستثمار.

دعوى الاستثمار هذه تطلق على الكثير من المشاريع الشبيهة، مثل تشيلسي و مانشستر سيتي، ذلك أن الجمهور لا يتخيل أبدًا أن هناك أموالًا تهدر بكل هذه البساطة، هناك إحساس بأن من يمتلك كل هذا القدر من الأموال لابد أنه يعرف كيف ينفقها، ولن يهدرها دون طائل بالتأكيد، فلذلك يحب البعض أن يعتقد بأن هذه استثمارات ستعود قيمتها.

حين تعاقد باريس مع نيمار، خرجت التحليلات لتؤكد أن الصفقة ستجلب قيمتها بعد سنوات قليلة، وهو ما لم يحدث، ثم تعاقد الفريق مع ميسي، فخرجت هذه التحليلات مرة أخرى.

سيساعدنا ميسي في جلب الأموال من العقود التجارية، وهو ما سيمكننا من ضبط الحسابات والالتزام بقواعد اللعب المالي النظيف.
ناصر الخليفي- في مؤتمر تقديم ميسي

نعتذر للسيد ناصر، لكنه يعلم أن ذلك لن يحدث. طبقًا لتوم كرو مستشار التسويق الرياضي، فإن قدوم ميسي إلى باريس من شأنه زيادة أرباح النادي بالفعل، ستزداد مبيعات التذاكر، ووجود ميسي سيمنح الفريق قوة أكبر في التفاوض والحصول على عقود رعاية أفضل، والجولات الترويجية في وجود ميسي ستجلب بعض المال.

لكن الزيادات في هذه البنود لن تكون كبيرة وبالكاد يمكنها أن تصل إلى 30 مليون يورو سنويًا، هذا رقم كبير بالطبع لكنه أقل حتى من راتب ميسي الرسمي دون احتساب الضرائب ومكافأة التوقيع وغيرها، لذلك فإن الاستثمار ليس الإجابة على السؤال أبدًا.

قطع الدومينو

 ما يفعله باريس لا يتوقف تأثيره على النادي وحسب، بل يتخطاه ليغير خريطة كرة القدم كلها، منذ اليوم الأول كان للأموال الضخمة التي أنفقت أثر هائل في تضخم أسعار اللاعبين، تضخم أقصى الكثير من الأندية الصغيرة من المعادلة لأنها لم تتمكن من التعامل مع الأسعار الجديدة للسوق.

صفقة نيمار ورغم أنها لم تكن الصفقة الكبرى الأولى في كرة القدم، لكنها كانت فارقة في مسار اللعبة، 222 مليون يورو دفعة واحدة، وكسر الرقم القياسي لأغلى لاعب في العالم بأكثر من الضعف، ربما هذه كانت قطعة دومينو أولى سقطت، فأعقبها الكثير من القطع دون قصد.

110 مليون دفعت في ديمبلي بعد ذلك، و160 في كوتينيو، استغلها ليفربول في كسر الرقم القياسي لأغلى مدافع وحارس في التاريخ وجلب أليسون وفان دايك، ساهم ذلك في طفرته الأخيرة وتحقيقه للدوري الإنجليزي ودوري الأبطال، بينما ظل برشلونة في رحلته لتعويض نيمار. رحلة تركت النادي مثقلًا بأعلى دين في تاريخ الرياضة، وكانت نتيجته الفشل في التجديد لأسطورته ميسي بسبب قوانين حد الرواتب في إسبانيا.

هنا كان السيد ناصر في الانتظار أيضًا، ليتلقف قطعة الدومينو مجددًا، نعم هو لم يجبر برشلونة على الغباء، أو يتسبب في فيروس كورونا الذي أثر على الأندية ماديًا، لكنه ألقى بقطعة الدومينو الأولى التي شكلت وضع كرة القدم الحالي.

أحد أوراق الدومينو التي سقطت، كان الدوري الفرنسي نفسه، فاز ليل بآخر بطولة للدوري نعم، لكنه مهدد بالإفلاس حاليًا، موناكو حين فاز بالدوري باع فريقه بالكامل في الموسم التالي، ومع الوقت تحول الدوري بأكمله لمكان لإفراز المواهب فقط، ما دام لا أمل في المنافسة.

تزايدت مشاكل الدوري الفرنسي مؤخرًا بسبب مشاكل البث، وتأخر الأموال الذي تزامن مع فيروس كورونا، لقد كان 19 من أصل 20 ناديًا معروضين للبيع خلال الأزمة الأخيرة، على حد تعبير أحد وسطاء البيع هناك.

الأزمة أن تنافسية الدوري لا تغري بالكثير من عقود الرعاية الجديدة، ولا تشجع شركات البث على دفع الكثير من الأموال، ولذلك فإن الدوري الفرنسي بأكمله يدفع ضريبة الأموال التي ينفقها باريس كل عام.

ماذا عن كرة القدم؟

نعتذر، لقد تحدثنا عن كل شيء، لكننا لم نتطرق لكرة القدم بعد. نيمار ومبابي وميسي سيجتمعون، الواحد منهم كافٍ لتقديم الكثير في كل مباراة، ما بالك إذا اجتمع الثلاثة؟ وإذا أضفت لهم لاعبين مثل فيراتي وديماريا، وخط دفاع من ماركينيوس وراموس وأشرف حكيمي، هذه وفرة من اللاعبين ستنتج حتمًا كرة قدم يحب الجميع أن يراها، ونحب أن نتحدث عنها.

لكن ربما لا يكون الأمر بسيطًا كما نتوقع، في دراسة بعنوان «تأثير الموهبة المفرطة: متى تكون المواهب أكثر من اللازم» أجريت في «Association of physiological sciences»، وجد الباحثون بناءً على عينة من 400 مباراة في تصفيات كأس العالم 2010 و 2014، أن كثرة المواهب تتناسب طرديًا مع تحسن النتائج كما يظهر منطقيًا، لكن يستمر ذلك إلى حد معين، بعدها تصير العلاقة عكسية.

لقد لعبت مع ريال مدريد لما يقرب من 5 أعوام، في فريق الجالاكتيكوس، ولم أفز أبدًا بدوري أبطال أوروبا، التتويج باللقب لا يعتمد على امتلاكك لأفضل اللاعبين فقط.
الظاهرة رونالدو، نجم ريال مدريد السابق

 طبقًا لسام دين محرر «تليغراف»، فإن كرة القدم الأوروبية أثبتت مؤخرًا أنها لعبة تتعلق بالنظام والفريق بشكل أكبر، كان آخر ثلاثة فائزين بدوري أبطال أوروبا هم ليفربول بقيادة يورجن كلوب، وبايرن ميونيخ بقيادة هانز فليك، وتشيلسي بقيادة توماس توخيل، والمشترك بينهم أن الفريق الجماعي كان أكثر أهمية من الفرد.

تكتيكيًا، فإن باريس عانى في مواجهة الفرق المنظمة في المواسم الماضية، لأن الثنائي الأمامي لا يشارك في العملية الدفاعية إلا نادرًا، هذا يضطر باقي اللاعبين لبذل مجهود مضاعف، ورغم ذلك تظهر الثغرات في مواجهة الفرق الكبرى.

بإضافة ميسي، فإن 3 لاعبين لن يشاركوا في العملية الدفاعية، هذا عدد لا يمكن لأي مدير فني مهما بلغ ذكاؤه التكتيكي أن يبتكر خطة لتحمله، ومهما بلغت مهارة الثلاثي حين تصله الكرة فإن حماية الدفاع ستكون مستحيلة.

الحل الآخر، هو أن يتولى إقناع الثلاثي بالمشاركة في الدفاع، مطالبة نيمار بالعودة مع الظهير حتى المنطقة، وإقناع ميسي بمراقبة ارتكاز الخصم، وأن يتقبل الثنائي ذلك، هذا حل أفضل، لكنها مهمة تحتاج مهارات أنجيلا ميركل في الإقناع وليس مدرب كرة قدم.

هذا ليس تخيلاً، لكنه كان تصريح توماس توخيل، المدرب الذي قضى 3 سنوات مع الفريق، ليخرج بعد ذلك ويؤكد أن هذا النادي يحتاج إلى سياسي يدير الأمور وليس مديرًا فنيًا.

بالطبع فإن إيجاد طريقة تضمن بعض التوازن ليست مستحيلة، ربما يجدها بوتيتشينو وربما من يخلفه، وعندها قد تضمن هذه الجودة الرهيبة أن يفوز الفريق بالدوري دون هزيمة، وأن يحقق دوري الأبطال كما يتمنى الجميع.

إعلان ممول

لكن ماذا لو حقق الفريق دوري الأبطال؟ ماذا يمكن أن يعني ذلك؟ الإجابة بكل بساطة: لا شيء، المشروع لا يتعلق بالاستثمار ولا إثراء كرة القدم ولا تحقيق البطولات.

المشروع يتعلق بالسياسة والظهور، وهو أقرب لكونه إعلانًا ممولاً، إعلان يخبر الجميع أننا أقوى وأفضل، نحن قادرون على شراء أغلى لاعب في العالم ودفع 222 مليون دون اكتراث، ثم جلب أعظم لاعب في التاريخ لجواره دون اكتراث أيضًا، وبين ذلك سنجلب راموس ودي ماريا وماركينيوس وكافاني وإبراهيموفيتش، وسنرفض 170 مليون يورو في مبابي لنخبر الجميع أننا أقوى من الجميع ولا نهتم بالأموال من الأصل.

سيكون الإعلان الممول ضروريًا في نهاية العام كذلك، حين يحين موعد كأس العالم بقطر، الفرصة المنتظرة منذ أعوام، والتي أُنفق لأجلها المليارات، ربما يكون ذلك هو الدافع لكل هذه الأموال من البداية، أن يكون ميسي ونيمار مجرد أدوات إضافية تجعل الإعلان أكثر جاذبية، لا نعلم إن كان ذلك سيكون مفيدًا، لكن ربما جلب ميركل لتدير الفريق سيكون أكثر جاذبية، وأقل جنونًا من كل ما حدث.