ظنت المراهقة نورا وهي تستقل الطائرة المتجهة من سيول لكندا مع أسرتها، أنها ستخلع الآن عنها ماضيها وشخصيتها جنبًا إلى جنب مع اسمها الكوري القديم، وتذهب ﻷرض جديدة تكون فيها شخصًا آخر، فوطنها كوريا على اتساعه، لا يزال أصغر من أن يستوعب أحلامها الكبيرة. 

ستتحقق رؤيتها في أغلبها، إلا خيطًا واحدًا لن ينقطع عن ماضيها، وسيظل يشدها إليه؛ إنه هاي سونج، حبيبها الصغير الذي تركته خلفها في ذلك اليوم البعيد. سيلقي به القدر في طريقها مرة كل بضعة أعوام، وفي آخر تلك المرات، ستجلس بجواره في طاولة مطعم، وعلى الجانب الآخر منها، سيجلس زوجها اﻷمريكي ريتشارد.

في فيلمها الروائي الطويل اﻷول، تستوحي الكاتبة والمخرجة الكورية سيلين سونج حياتها الشخصية، لتنسج فيلمًا رومانسيًّا مغايرًا عن الحب واحتمالاته الكثيرة، وتلقي في مزيجها اﻷصيل بالكثير من الأسئلة عن الاختيار والقدر.  

الحب كاختيار لا كقدر

في لقائها اﻷول مع ريتشارد تتحدث نورا عن مفهوم الـ «Inn Yun» البوذي، تشرح له أن أي شخصين يوجدان بعضهما مع بعض الآن، كان كل منهما جزءًا من حياة الآخر في حياة سابقة. يهم ريتشارد بسؤالها لو كانت تؤمن بأي من هذا، عندها، تتبدل نغمة صوتها من نبرة متأملة ﻷخرى ضاحكة وهي تجيبه أن هذا مونولوج مشهور في كوريا يتلوه شخص في محاولة إغواء شخص آخر. تنجح محاولة الإغواء ولا شك، فيتبع مونولوج نورا قبلة تأسس لبداية تضافر مصيرها مع ريتشارد. 

يكثف هذا الحوار مفهوم الفيلم عن الحب واﻷقدار. فالحب وإن بدا من بعيد كقدر لا راد له، إلا أن تفاصيل الحياة العادية وتعقيداتها تخلع عنه تلك القداسة وتحوِّله من قدرٍ إلى قرار. فلو كان الحب قدرًا، لكانت نورا الآن مع هاي سونج، حبيب طفولتها الذي بدا لنا منذ اللحظات اﻷولى أنه توأم روحها المقدر لها أن تقترن به للأبد، لا مع ريتشارد زوجها اﻷمريكي. 

هنا، تأخذ سيلين سونج، مخرجة الفيلم وكاتبة السيناريو، منحى مختلفًا تمامًا عن كلاسيكيات الرومانسية في السينما واﻷدب، حيث يأتي نداء الحب كصوت الجنيات السحرية، التي لا يملك من يسمع غناءها سوى أن يتبع نغماتها، مغمض العينين، مسلوب اﻹرادة. وما يبدو كأحداث اعتباطية سرعان ما يتكشف عن حوادث قادرة على تغيير مجرى مصائرنا. فمن بين كل الحانات في كل المدن، كان على إلسا أن تدخل حانة ريك في “كازابلانكا”، ومن بين كل محطات القطارات في بطرسبورج، كان على فرونسكي أن يقابل “آنا كارنينا” في نفس المحطة. 

وبالمثل، فقد شاهدنا أفلامًا كثيرة تلعب بفكرة القدر، وتأثير الحوادث الصغيرة على مجرى الحياة، من Blind Chance، مرورًا بـ Mr. Nobody وليس انتهاءً بـ Everyting, Everywhere, All at Once. لكن بينما ناقشت تلك اﻷفلام هذه الفكرة بشكل فانتازي مجرد، يأخذ الفيلم هنا اتجاهًا واقعيًّا تمامًا، فالاحتمالات هنا تعيش جنبًا إلى جنب، ومسارات الحياة المختلفة ليست روافد منفصلة، بل نهر واحد كبير يصب فيه كل ما كان يمكن أن يكون. 

فبعد 12 عامًا قضتها نورا في الغرب تجد أن الحياة البديلة التي كان يمكن أن تعيشها مع هاي سونج ليست أبعد من نقرتي إصبع على الـ Facebook تأخذها مجددًا إلى بروفايل حبيبها القديم، لتعود علاقتهما من جديد في طورٍ آخر. حتى اﻷميال الكثيرة التي تفصل بينهما لم تعد عائقًا، في وجود Skype الذي يصلهما بعضهما ببعض في لحظات. 

هنا، ينفتح ماضي نورا وما كان يمكن أن يكون في وطنها كوريا، على حاضرها الكائن في أمريكا، وتعيش ما يشبه الحياة المزدوجة. خارج المنزل، هي كاتبة مسرحية أمريكية واعدة، تكتب وتتحدث الإنجليزية، وفي بيتها، هي فتاة كورية تشتاق لصوت حبيبها وصورته الآتيين من الضوء اﻷزرق المحبب لشاشة اللابتوب في كل يوم. 

لكن من منا يقدر أن يعيش حياتين معًا؟ بالتأكيد ليست نورا، التي سرعان ما تكتشف أن الأمر أصعب مما تتخيل. فإن ألغت الإنترنت فرق المسافات، فمن يقدر على إلغاء فرق التوقيت الضخم بين نيويورك وسيول؟حان وقت الاختيار، وﻷن نورا ليست آنا كارنينا التي تبعت نداء الحب إلى الهاوية، بل امرأة معاصرة تمامًا لها اهتمامات خارج دائرة العلاقات، تختار نورا أن تغلق بوابة الماضي وحبه القديم، وتركز على حاضرها ومستقبلها المفعمين بالآمال والتطلعات المهنية والإبداعية.

ولا تكاد نورا تغلق هذا الباب، حتى تنفتح بوابة جديدة واحتمال مختلف، وتقابل ريتشارد في أحد ورش الكتابة، لكن هذه المرة، تسير نورا في الاحتمال لنهايته، وتتزوج من ريتشارد. 

لكن اختفاء نداء القدر  من سرديات الحب المعاصرة يسلبنا يقيننا بأن هذا الحب كان مقدرًا له أن يكون، فالقرارات التي نأخذها بشكلٍ واعٍ مبني على الظروف، تترك وراءها سؤال “ماذا لو” مفتوحًا على اﻷفق. 

في واحدة من أعذب مشاهد الفيلم وأجمل حواراته يتساءل ريتشارد المستلقي بجانب  نورا في السرير: ماذا لو دخل في ذلك اليوم كاتب أمريكي آخر لورشة الكتابة، ووقعت نورا في حبه، هل كان سيصبح مكانه الآن في السرير؟ 

فمقارنة بسردية حب نورا وهاي سونج الرومانسية، لا يسع ريتشارد سوى أن يشعر بأنه الزوج الأمريكي الشرير الواقف عقبة أمام الحب المقدر له أن يكون. ربما سار اﻷمر على هذا النهج في فيلم آخر، لكن سيلين سونج تقرر أن تضع تلك القوالب القديمة لمثلث الحب جانبًا وتبدلها بصورة أكثر نضجًا وملاءمة لعصرنا الحديث.

مثلث حب مغاير

في اﻷزمنة القديمة وجد الرجال في المبارزة ونتائجها الحاسمة بموت أحد الطرفين حلًّا مثاليًّا لصراعات الحب الشائكة، هكذا مات الشاعر الروسي بوشكين بالمناسبة. لكن في قصتنا هذه لا وجود لمثل تلك الملحمية. 

يعي ريتشارد تمامًا ما يمثله هاي سونج لنورا، فهو يتجاوز مجرد كونه حبيبًا قديمًا، إنه الخيط الذي يربطها بماضيها ووطنها ولغتها، كل تلك اﻷشياء التي تركتها وهي تستقل الطائرة المتجهة من سيول إلى كندا. كما يعرف هاي سونج أن دوره في القصة لا يتجاوز دور الهامش الذي يعيش على حدود حياة نورا، مذنب يمر بسمائها مرة كل 12 عامًا. يمتلك الرجلان هنا ما يكفي من النضج والوعي لتجاوز مشاعر الغيرة العنيفة، ويتسم سرد سيلين سونج بما يكفي من الحساسية ليرتقي بالقصة من صراعات الحب التقليدية لقصة أعمق عن الاختيارات والقدر. 

لكن تلك الغيرة وإن لم تنفجر على السطح، فقد ظلت حرارتها محسوسة في الفيلم مضفية عليه إثارة محببة. 

بأداء متقن وحساس تمكن كل من الممثلين تيو يو، وجون ماجرو، من نقل تلك المشاعر المعقدة على الشاشة في المشاهد التي جمعتهما معًا. فعلى وجهيهما انعكس مزيج من التعاطف مع الآخر كونه واقعًا في نفس المأزق العاطفي، والغيرة أنه لا يملك وحده قلب المحبوبة.  

من وراء الكواليس جاءت ألاعيب سيلين التي خلقت لنا هذا الأداء. فقد كشفت لنا المخرجة في المؤتمر الصحفي للفيلم بمهرجان برلين السينمائي، أنها حركت علاقات الممثلين بعضهم ببعض في الحقيقة لتكون مشابهة قدر اﻹمكان بعلاقتهم في الفيلم. فطوال فترة التصوير فرضت على الممثلين تيو يو، وجون ماجرو ألا يتقابلا ولا مرة قبل تصوير مشاهدهما معًا. وفي الوقت نفسه، فقد أوصت جريتا لي أن تحدث كلًّا منهما عن مدى استمتاعها بالعمل مع الممثل الآخر، لتحيط مشاعر الممثلين تجاه بعضهما البعض، بمزيج من الترقب والغيرة، تمامًا كمشاعر الشخصيتين اللتين يلعبانهما على الشاشة. 

لم تتوقف فنيات سيلين اﻹخراجية هنا، فلتعزيز شعور نورا وشعورنا معها بوجود حياتها في كوريا وحياتها في أمريكا بعوالم مختلفة، خلقت سيلين إيقاعًا وصورة مختلفين لكل من العالمين. فمشاهد كوريا يكللها نور نوستالجي هادئ تسير فيه بإيقاع متمهل، بينما يشع ضوء أكثر بريقًا في مشاهد أمريكا التي اختارت لها إيقاعًا أكثر سرعة وشريطًا صوتيًّا مختلفًا.

تحافظ سيلين على تلك السمات اﻷسلوبية لكلٍّ من العالمين، حتى يأتي الثلث اﻷخير للفيلم، حين يسافر هاي سونج ﻷمريكا ليقابل نورا وتنفتح الاحتمالات مرة أخرى بعضها على بعض. وفي مشهد بديع وغير مألوف يجلس الثلاثة معًا على طاولة واحدة في مطعم، نورا في الوسط بين زوجها الحالي، وحبيبها القديم. بهذا المشهد، تفتتح سيلين قصتها، وتعود إليه مرة أخرى في النهاية بعد أن برزت لنا معانيه والعلاقة المعقدة التي تجمع أقطابه.

في فيلم آخر ربما كان سينتهي هذا التتابع بنورا في المطار تستقل الطائرة الذاهبة إلى سيول مع هاي سونج بعد أن استجابت أخيرًا لنداء القدر. لا يمكننا سوى أن نرى هذا الحلم في ألق عيونها عندما ترى حبيبها القديم بعد كل تلك السنوات. لكن نورا لا تستطيع أن تهدم تلك الحياة التي بنتها مع زوجها وتتبع نداء جنيات. تحت أمطار نيويورك الباردة، تودع حب حياتها، وبعد أن تبتعد به سيارة اﻷجرة، تنهار دفاعاتها أخيرًا وتجهش في البكاء. فحتى وإن آمنَّا تمامًا باختياراتنا، تترك تلك الطرق التي لم نسلكها، والاحتمالات التي ظلت معلقة، في قلوبنا حسرة. ومن قلب تلك الحسرة تنسج سيلين سونج أجواء نهاية فيلمها البديع.