أثارني كتاب طرح في الأسواق حديثا رغم أنه كتب قبل أكثر من عشر سنوات، وأثارتني المراجعات حوله، هذا الكتاب أفقدني القدرة على تركه قبل إكمال قراءته، ليس لسلاسة اللغة ولا للتشويق في الطرح، وإنما لأهمية الموضوع وجرأة التحليل لسمات جيل جديد من الإسلاميين! أسماه باتريك هايني مؤلف الكتاب (إسلام السوق) جيل (ما بعد إسلامي).

من هو الإسلامي الجديد؟ هو شخص ملتزم بالمجمل بمبادئ الحشمة، لكن وفق معايير أقل مما عاشها سلفه من الإسلاميين، عصري الطباع، لين الكلام، مهتم بمظهره وشكله، وحياته، ونجاحه وتميزه وفاعليته، احترافي في أعماله، منفتح أكثر على الثقافة الغربية، معاييره أخلاقية وطقوسه روحية على الطراز العصري، أكثر مما هي دينية، منزوعة السياسة بالطبع، وأقل نضالية، تفوقه الاقتصادي والمؤسساتي فاق مقاومته وورعه واحتلت فردانيته مراكز عليا في سلم أولوياته.

يستدل هايني على ذلك بالعديد من الأمثلة في أسلوب استخدامهم لمجالات التنمية البشرية الحديثة وشكل الحجاب وتطور النشيد الإسلامي. إذ أنه منذ استيراد أساليب الإدارة الحديثة وأدبيات تحقيق الذات الأمريكية، ومحاولة “أسلمتها” -على حد وصفه- أخذ الجيل الإسلامي الجديد هذه العلوم كبديل تجاوز احترامه لحركته وتنظيمه، منتقدا تشدد الرعيل الأول وتأخرهم في هذا المسار، مما أوجد حالة من البرود في مستوى الالتزام السياسي والحركي لديهم. وأردف بتفاصيل مشابهة حول النشيد الإسلامي الذي ابتدأ مقاومًا وثائرًا ومتألمًا يخاطب الوطن وينتقد غربته، إلى أناشيد أقرب إلى الأغاني، متوسعة في استخدامها للسلم الموسيقي، تدندن حول قيم أكثر استهلاكية كالفرح، والإنجاز، وسعادة الحياة، وفارغة من أي محتوى سياسي أو نضالي. وتوغل أكثر في وصف الحجاب الإسلامي الذي ابتدأ لباسا للحشمة وانتهى بحالة استعراضية للتفاخر وإظهار الجمال، وتتبع الموضة.

يوجه كاتبنا أصابع الاتهام إلى الحركات الإسلامية سلفية الطباع جهادية الأحلام لعجزها عن المحافظة على هذه القيم بعد اختلاطها بالسوق، فأودى بها هذا العجز إلى تمييع مفاهيمها وإفراغها من محتواها، وتحويل الدين بعدها إلى تجارة استقرت أرباحها في جيوب “تجار الاسلام” ومن ركب موجتهم من رجال الأعمال. إذن إسلام السوق، إسلام التجارة، إسلام المشاريع التنموية، هو ما حل بعد عصر العولمة ودخول الإسلاميين إلى الأسواق العالمية، هذه هي خلاصة الكتاب وجوهر ما فيه.

يتميز الكتاب بلا شك بأوصافه الدقيقة، وقدرة ملاحظة غير عادية في العودة إلى أصل كل ظاهرة وتتبع الشخصيات التي كانت السبب في إدخالها وعمق دائرة تأثيرهم، وهذا النوع من الجمع الدقيق والجهد النقاشي الملحوظ والمتابعة الطويلة لروافد المراكز الإسلامية وصفحاتهم في الشام ومصر وتركيا وأندونيسيا لم نعتد عليه في كتبنا الفكرية العربية أو الإسلامية. ولا أختلف مع الكاتب في وصف الظواهر وإنما أتعجب من عمق الجهد المبذول في الجمع وضحالة التحليل للأسباب من ورائها، وتحفظي على انتقائيته الواضحة في جمع الأمثلة التي تتماشى مع نظريته وتثبت صحتها؛ هل من الممكن أن نصف أعضاء الجيل الإخواني في مصر بالردة عن الحركة الأم؟ أو في فلسطين بميلهم نحو نزع السياسة وإعادة تدوير النضال بأشكال دينية رمزية تعلق على جدران المنزل أو معارك قرصنة إلكترونية؟ السنوات العشر الماضية التي أعقبت إصدار الكتاب بلغته الأم جسدت في البلدان العربية من معاني الصمود والثبات والتجرد الشيء الكثير. إذن هل استيراد بعض المفاهيم الغربية ذات الجذور الإسلامية الأصيلة كالتفكير الإيجابي أو الفاعلية المهنية، سببه عجز التيارات الإسلامية وتلوث ثوبها بالمال؟ هل وجود رجال أعمال مسلمين أو إسلاميين استثمروا أموالهم في إنشاء قنوات دينية مجاراة للاهتمام العام واستثمارًا لعواطف الشعوب العربية يدين الحركات الإسلامية ويصورها كأول بائع للقيم مقابل المنفعة؟ ما هو المعيار الذي قاس به كاتبنا ما قاس؟

إن التغير الذي طرأ على الفضاء الإسلامي مثير للملاحظة وجدير بالتأمل، إلا أن سرعة الاستنتاجات التي لجأ الكاتب لتفسير التغيرات من خلالها جعلت الأمور أمام القارئ العربي تبدو غير منصفة وغير منسجمة مع الواقع، وتحديدًا بعد الثورات العربية وحروب غزة المتلاحقة، بما أعادته من إظهار للبعد التنظيمي وقوته، وشدة انتماء أفراده بشكل يعادل أو يفوق ما كانت عليه التنظيمات الإسلامية سابقا، وتجسدت فيه صفات تشبه في تماسكها سمات الرعيل الأول من الإسلاميين، وإن كان مظهرهم أكثر عصرية، وأناشيدهم أكثر احترافية، وإستراتيجياتهم تتابع النظريات التنموية، وأساليب الإدارة الحديثة.

أنهي حديثي بما قاله تميم البرغوثي في قصيدته الشهيرة معاتبا كاتب التاريخ -وليسمح لي ببعض التحريف: يا هايني، فلتعد الكتابة مرة أخرى أراك لحنت!


اقرأ المزيد:

بين كتابين: “هروبي إلى الحرية” و “أفكار خارج القفص”

قراءة في كتاب “من اتفاق أوسلو إلى الدولة ثنائية القومية”