غالبا ما يبرر متكلمو السنة مسلك الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه في اختيار الولاة من أقربائه بتبريرات رومانسية أو متعسفة تنزيهًا له عن أي طبيعة سياسية، من نوع صلة الرحم أو البحث عن الكفاءة أو إنكار المسلك ذاته باعتباره لم يتحقق إلا في ولايات معدودة. إلا أن الظاهر في الواقع هو أن عثمان رضي الله عنه كان يستشعر ضعف نفوذه الشخصي في تلك الولايات البعيدة نسبيا عن مقره في المدينة المنورة، وأنه لم يكن يتمتع بولاء تام من قبل رعايا ونخب تلك الأقاليم.

وقد حاول عثمان رضي الله عنه التغلب على تلك الحالة عبر الاعتماد على أهل الثقة وتكوين نظام حكم عائلي، على الأقل فيما يتعلق بتلك الولايات الخطرة كمصر والشام والبصرة والكوفة في العراق؛ وهو ما عبّر عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما استبدل به عثمان رضي الله عنه أخاه من الرضاع، الوليد بن عقبة بن أبي معيط، على الكوفة، وهو شخصية لم يكن من المحتمل إطلاقا أن يكون لها مثل هذا المنصب نظرا لسوء خلقه وسمعته من جهة ونزقه العقلي من جهة أخرى، قائلا: «أوجعلتموها ملكا!».

حاول عثمان رضي الله عنه التغلب على تلك الحالة عبر الاعتماد على أهل الثقة وتكوين نظام حكم عائلي.

لا زال كثير من السياسيين والمحللين ينظرون إلى ذلك المسلك باعتباره الحل العملي لمشكلة ضعف هيمنة السلطة المركزية على مفاصل الدولة ونخبها. غير أن ذلك المسلك في الحقيقة ينبغي أن ينظر إليه كحل من الدرجة الثانية، متخمٍ بالمخاطر من جهة، ومن جهة أخرى فهو بذاته انتقاص من شرعية السلطة التي تحتاج إلى تعويض هذا النقص عبر الهيمنة المباشرة العارية عن الأسس الموضوعية. وتمثل إدارة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه النموذج المقابل لذلك النوع من السلوك السياسي. فعبر حرصه على إثبات نزاهته وإبعادها عن الشكوك، وإثبات كفاءته في الوقت نفسه في متابعة تسيير الأمور حتى في الأطراف البعيدة، نجح عمر بن الخطاب بشخصيته القوية المعروفة عنه، في الإمساك بمقاليد السلطة والتفنيد المسبق لأية محاولة لزعزعة الثقة فيه أو التشكيك في شرعيته.

أعاد الخلاف الأخير بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو، الشخص الذي كان مفترضا أن يكون خلفه المناسب على رأس حزب العدالة والتنمية والحكومة التركية، نوعا من هذا الجدل إلى الواجهة. إذ رأى بعض المتابعين المتعاطفين مع أردوغان أن سلوكه مبرَّر في ضوء الوضع السياسي المأزوم، والواجب السياسي الذي يحتم عليه الإمساك بمقاليد الأمور. والحقيقة أن وراء دخان السياسة يقبع مرجل من التحولات في بنية تلك التجربة الأهم للإسلاميين في العصر الحديث.

كان صدق المواقف والتنازل عن المصالح في سبيل المبادئ يؤسسان لشرعية ضمنية وشعبية هادئة لا تحتاج إلى شعارات رنَّانة أو تصريحات استعراضية.

لطالما قدَّم الرئيس التركي حاليا، رجب طيب أردوغان، نفسه، عندما كان بعدُ رئيس بلدية، أو رئيس حزب صاعد وحكومة تدير توازنات دقيقة بحساسية بالغة، باعتباره ذلك المناضل القادم من أحياء الفقراء. التدين الصادق ونزاهة اليد والإخلاص، تلك كانت مصادر شرعية ذلك الرجل الذي لم يرتدِ يوما ثوب السلطان الموشَّى. لم يكن ممكنا التشكيك في صدق الرجل الخارج لتوِّه من السجن نتيجة تمسكه بمبادئه، والممنوع من ممارسة السياسة. كان التدين في ذلك الوقت هو من ذلك النوع المفعم بالحيوية، المؤمن بالقوة ذريعة لا إرادة. وكان صدق المواقف والتنازل عن المصالح في سبيل المبادئ يؤسسان لشرعية ضمنية وشعبية هادئة لا تحتاج إلى شعارات رنَّانة أو تصريحات استعراضية.

مرَّت الأيام، ومعها تحوَّل المناضل ابن حي قاسم باشا، بتدينه الصادق المخلص، إلى سلطان يثير قصره «السلجوقي» في أنقرة الدهشة. وتحوّلت الأسرة المتواضعة إلى مجموعة من
تتناثر حولهم الشائعات. افترق رفاق القضية، والسياسة التي كانت ذات يوم كفاحا مشتركا لجماعة متماسكة لا يفكر أيٌّ من أعضائها في موضعه، تحوّلت هي أيضا إلى صراع إرادات الهيمنة بين الأجنحة. لم يكن لسياسة الأجنحة أن تكون لولا أن التدين الصادق المفعم بالغايات الأخلاقية كان قد اعتراه الكثير من الجموح البروتستانتي نحو كنوز الأرض.
تتناثر حولهم الشائعات. افترق رفاق القضية، والسياسة التي كانت ذات يوم كفاحا مشتركا لجماعة متماسكة لا يفكر أيٌّ من أعضائها في موضعه، تحوّلت هي أيضا إلى صراع إرادات الهيمنة بين الأجنحة. لم يكن لسياسة الأجنحة أن تكون لولا أن التدين الصادق المفعم بالغايات الأخلاقية كان قد اعتراه الكثير من الجموح البروتستانتي نحو كنوز الأرض.

لم يكن لسياسة الأجنحة أن تكون لولا أن التدين الصادق المفعم بالغايات الأخلاقية كان قد اعتراه الكثير من الجموح البروتستانتي نحو كنوز الأرض.

على الضفة الأخرى من المتوسط، في البلد الغارق في التدين الشعبي العاشق للشعارات، تحوَّل أردوغان الذي كان رمزًا للعلمانية، الرجل الكافر بحسب بعضهم، المؤمن بالديمقراطية التي هي «سبيل المجرمين» كما صرَّح أحد مشايخهم، إلى رمز للتماسك أمام النموذج الغربي وعدم التماهي معه على طريقة الإسلاميين التونسيين، كما كتب أحد الشباب المصريين من وقت قريب. وحدها الشعارات هو ما يهم؛ هذا التدين الذي يسحق الإنساني في الإلهي ويرى التدين انعكاسًا لا عقلانيًا لإرادات إلهية اعتباطية، بلا أي حمولة أخلاقية. وفي هذا النمط من التدين، الذي يبدو، نظريا فحسب، مثاليا تماما ولا يعرف الأبهة، تكون السلطنة هي الحكم النموذجي، إذ يحقق السلطان عبر هيمنته الأرضية المباشرة، الحاكمية الإلهية غير المباشرة. وتتغلغل لغة التقديس والشخصيات الملحمية في المشهد.

ثلاثة أنماط من السلطة يقابلها ثلاثة أنماط من التدين، هي حصيلة المشهد. وحتى لا تتحوَّل «الإسلامية» إلى ورقة توت رخيصة تغطي مطامحنا الشخصية، وحتى لا تتحوّل القوة من ذريعتنا التي لا نفرِّط فيها إلى إرادة هيمنة جامحة تأكل أول ما تأكل نواة نفوسنا الصلبة، فينبغي أن يبقى هذا النوع من التدين الصادق المفعم بالمعنى والأخلاق والرسالة، حاضرا في الوعي والقلب. ففي صراعنا مع الوحوش، يجب ألا نتحوّل إلى وحوش مثلهم. ويجب ألا ننسى في منتصف الطريق، لماذا بدأنا.

«ما أسهل عليّ أن أتخلى عن طموحي الشخصي وأضعه تحت قدمي، وأن أضرب عرض الحائط بأي منصب قد يظن الناس أن تركه محال، ولا أن أتسبب بأي أذى أو حزن لهذه الحركة المباركة ولرجالها ذوي القلوب الطاهرة، الذين هم أمل المظلومين الوحيد في كل أنحاء العالم» أحمد داود أوغلو.