محتوى مترجم
المصدر
جزء من كتاب A Pedagogy for Liberation
التاريخ
2016/08/16
الكاتب
باولو فريري وإيرا شور

إيرا: من ناحية التمكين والبيداغوجيا، أريد أن أثير قضية تتعلق بالمعلم بصفته «فنانا». فدور الفن في التدريس التحويلي يهمني بصورة كبيرة، ولهذا ارتأيت أن أتحدث عنه بعض الشيء قبل أن أصغي إلى وجهة نظرك.

أن نقول إن المعلم فنان يعتريه الكثير من اللبس، فالفنانون يعملون على مواد نتوقعها كالزيوت والرخام والموسيقى. فما هي يا ترى الجوانب التي يشبه فيها المعلمون النحاتين والرسامين وقائدي الأوركسترا والملحنين؟ الطريقة الوحيدة التي أرى بها هذا الجانب الجمالي في التدريس تكمن في الادعاء بأن الصف الدراسي مادة بلاستيكية شُكِّلت مسبقا في صورة شيء ما، وهي قابلة لأن تَتشكل مجددا في صورة شيء آخر.

وهنا طريقة أخرى للقول إن التعلم التحَرري ينطوي على عملية إبطال مفعول التنشئة الاجتماعية، فالطلاب والمعلمون في الصف الدراسي ليسوا عذارى تربويين. لقد خضعنا بكثافة لاندماج اجتماعي بدءا من مدارسنا وكُلياتنا، فنحن نطبق ولوقت طويل خطة عمل مدرسية محكمة تخص الكيفية التي يُفترض أن يتصرف بها كل واحد منا (وأن يسيء التصرف). إن خطة العمل الروتينية هذه تجسد العلاقة التقليدية بين السلطات المُشْرفة والطلاب المستَلَبِين، وعلى المعلم المحَرِّر أن يدْرس سيناريو هذا الروتين في الصف الدراسي ويرى إلى أي حد ضيق الاندماج في المجتمع من تعبير الطلاب المزهو عن أنفسهم، وحينها يقرر بشأن الموضوعات التي يمكنها أن تكون أفضل المداخل نحو التحويل النقدي.

وانطلاقا من تلك المداخل التي تجعل التغلغل في الوضع متاحا، يتوجب على المعلم أن يعيد تقديم المادة التي يعرفها/ تعرفها عن ثقافة الطالب، أو موضوعا للدراسة. وتُعد إعادة التقديم هذه لموضوع الطالب، أو سياق أكاديمي ما، أو لحظة من لحظات المجتمع مسألة أو «ترميزا» يُعرض على الصف من أجل الاستقصاء. إنه سيرورة فنية، وكشف للموضوعات المفتاحية والمداخل نحو الوعي، ثم تركيبها من جديد في بحث نقدي مُقْلِقْ؛ تنسيقا لدراسة مطولة.

كل ما احتجت إليه في الصف الدراسي هو براعة خلاقة لضبط البيداغوجيا على مقاس كل مجموعة طلاب جديدة. ومع انطلاق كل درس يتوجب علي أن أبدأ من تمارين تُطور التثقيف النقدي لدى الطلاب، وفي نفس الوقت تُطور معرفتي بهم. وكلما تعلمت الموضوعات والكلمات المفتاحية من وعيهم بشكل سريع كفاية، كلما تمكنت من أشكلة تلك المادة، وبذا نثمن معا المادة منهجيا.

أشير هنا إلى ضرورة إيجاد موقع للتثقيف النقدي في داخل موضوعات ولغة الطلاب، لكني أعتقد أن الصيغ الخلاقة لدراسة الدلائل المعرفية تقتضي من المعلم أيضا أن يكون فنانا. على سبيل المثال، صديقُك الذي يعمل أستاذا للفيزياء في البرازيل، كان خلاقا حين طلب من الطلاب أن يُنجِزوا بحثا حول وعي العامة من الناس كطريقة للشروع في درس تاريخ العلم. فإعادة صياغة المعرفة الأكاديمية بحيث تستوعب الموقف الذاتي للطلاب، تتطلب الكثير من الخيال من جانب المعلم. وثمة بعد آخر خلاق يكمن في تضمين إعادة الصياغة هذه نقدا للمجتمع.

يُعد العمل على إرباك التعليم السلبي بشكل خلاق، لحظة جمالية وسياسية أيضا؛ لأنه يقتضي من الطلاب إعادة تصور فهمهم السابق، وممارسة تصورات جديدة مع المعلم بصفتهم متعلمين خلاقين. وربما نتمكن من اعتبار أنفسنا دراميين عندما نعيد كتابة خطط العمل الروتينية للصف الدراسي ونعيد اختراع غيرها بغرض التحرير. فبقدر ما تعد الخطة الدراسية خطة عمل، بقدر ما هي منهاج دراسي. والصف الدراسي هو مسرح للأداء وهو بالقدر نفسه لحظة تعليم. والصف الدراسي ليس خشبة و لا أداء ولا صيغة للاستقصاء فحسب، لكنه أيضا مكان يحمل أبعادا بصرية وصوتية، فيه نرى ونسمع الكثير من الأشياء. فكيف نتمكن من ضبط ما يتراءى من مشاهد وما يُسمع من أصوات في هذه اللحظة لنُحَفزَ الطلاب على الانتباه النقدي غير الاعتيادي؟. من ناحية التركيب الشفهي نفسه، أفكر بإضفاء الطابع الجمالي على الصف الدراسي عبر تشكيلة من التعابير.

فأصوات الإنسان تخاطِبُ بأنماط متعددة تتخذ شكل أسئلة، وعبارات، وتعميمات، وتخصيصات، وصور، وكوميديا، وعطف، وسخرية، ومحاكاة، وإفراط عاطفي، ..إلخ. فما مقدار التركيب الذي يظهر في كل درس؟، متى تظهر الكوميديا؟، وأين هو الشعور العميق؟.

دعني أكون واقعيا أكثر بشأن مسألة التركيب الشفهي، خطة العمل الروتينية للصف الدراسي تجعل المعلم يتكلم بصوت مرتفع جدا عن مواضيع رسمية لا تعني الكثير بالنسبة للطالب. أما المنهاج القَصِي والعلاقات السلطوية للصف الدراسي فيتطلبان من المعلم أن يتحدث بصوت مرتفع ويُسهب فِي الكلام ليفرض بعض الانتباه أمام مقاومة الطالب. ومن جهة أخرى، إذا كان المعلمون يتكلمون كثيرا وبصوت مرتفع جدا فإن الطلاب يتكلمون القليل وبصوت منخفض جدا.

باولو (يضحك): نعم، ذلك هو ما يكون عليه الحال في الصف الدراسي.

إيرا: ألج الصف الدراسي وأنا أتكلم بصوت مرتفع، ولدي الكثير لأقوله، لو أني المعلم. أقول كلماتي بشكل واضح وأنا أميزها كلمة كلمة حتى تكون سهلة التدوين، لو أني المعلم. أتكلم وأنا في مقدمة الصف الدراسي متمترسا وراء مكتبي وأنا أشدد في الجمل على الكلمات المفتاحية إذ أتلفظها، راغبا من الأطفال أن يحفظوها في ذاكرتهم بما أننا نُحَضِّر لاختبار الأجوبة القصيرة الذي اقترب أوانه. الآن، لو أني الطالب، فإنني أتكلم أقل ما يمكن وبصوت منخفض وأنا أُدغم الكلمات في بعضها لأن لا أحد في الواقع يصغي إليها، أو يدون ملاحظات بشأن ما أقوله، أو يخشى من الاختبار الذي سيقدم مبنيا على كلماتي. والخطاب برمته يستهدف جوابا قصيرا صحيحا في كل الأحوال؛ إذا لماذا نمضي؟.

عندما أكون مُطَّلعا على هذه الأمور كمعلم محرِّر، فإني سأشرع في القَلْب الخلاق في لحظات الكلام. أُعدِّل صوتي وفق إيقاعات المحادثة بدل نبرات المحاضرة الديداكتيكية، أُنصت بأناة لكلام كل طالب على حدة، وأطلب من الآخرين الإصغاء عندما يتحدث أحد أقرانهم، ولا أرد بعد أن يفرغ الطالب من جملته الأولى، لكني أطلب منه أن يتحدث أكثر عن المسألة، وعندما يُطلب مني أن أدلي برأيي فيها فإني أقول: سأكون مسرورا أن أدلي برأيي لكن لِمَ لا ندع المزيد من الناس يتحدثون أولا عما قاله الطالب للتو، إذا كنتم توافقونه أم لا؟.

وعندما لا يكون لدي جواب عما قاله الطالب أو أنني لم أتمكن من فهم تعليقاته المتسلسلة، ولم أستطع أن أخترع في الحال أسئلة لبسط القضية، فإنني أذهب إلى البيت وأفكر بشأنها، وأفتتح الصف الدراسي المقبل بما قاله الطالب من قبل لكي أحافظ على بثي إشارات للطلاب بشأن أهمية عباراتهم. تعمل هذه التدخلات القصيرة على معارضة السيطرة الشفهية التي ساقت الطلاب نحو مقاومة الحوار. إذا قمتُ هنا بابتكار صورة جديدة للمعلم كمتكلم ومستمع، فإني أدعو أيضا الطلاب لابتكار صورة جديدة لأنفسهم كمستمعين ومتكلمين في خطة عمل جديدة للصف الدراسي. وأعتقد بأن ما يُعد فنا هنا هو تجديد ابتكار ما هو شفهي، وخلق صورة جديدة لما هو صوتي عبر الحوار.

لقد تم عبر استخدام فنون السيطرة خلق صمت الطالب، فالطلاب ليسوا صامتين بالطبيعة، إنهم بارعون في التعاطي مع الكلام لكن ليس ضمن خطة عمل الصف الدراسي التقليدي. وتعد إعادة ابتكار كل من المظاهر البصرية والشفهية للصف الدراسي طريقتين للتصدي لفنون التعليم السلبي غير البناءة، كما أن اكتشاف الموضوع المفتاحي للطالب وتنسيقه كحافز، وتنويع الموضوع لاستكشاف سمته يُعَدَّان أيضا استخداما فنيا للحوار.

قد أضيف من زاوية أخرى، بأن الفكاهة لحظة خلاقة للغاية، مثلها في ذلك مثل الكوميديا المتبادلة بين الطلاب والمعلمين، ولا أقصد هنا فقط ذلك الأداء الهزلي الذي يؤديه مرب ظريف، وبالنسبة لي فأمتع اللحظات وأكثرها إيحاء تتجلى في قوة الطالب وهو يزدري مُشْرفِيه ويقلدهم بشكل ساخر. عندما أتمشى في قاعات الكلية أسترق السمع إلى محادثات الطلاب لأتعلم منهم عن كيفية تحدثهم إلى بعضهم بعضا، أسمعهم وهم يسخرون من معلميهم ورؤسائهم، ..إلخ في محاكاة مدهشة. وعندما أطلب منهم أن يكتبوا خطابي التقديمي عند انطلاق الدرس، فإنهم يكونون قادرين على إصدار أحكام جيدة بشأن الصوت التعليمي، يستطيعون أيضا قراءة هذا الصوت الديداكتيكي من صفحاتهم باستخدام تقنية التحديد اللوني للخصائص. إنهم يعرفون كيف يبدون مثل المعلم.

باولو (يضحك): نعم، يعرفون كيف نتكلم.

إيرا: ومع ذلك، غالبا ما نقول إنهم لا يعرفون الإنجليزية الفصحى، أو الاستخدام الصحيح حتى لو كانوا يستطيعون تقليد الأستاذ. إنهم يعرفون بعض الأمور عن هذه اللغة الرسمية التي تستخدمها السلطات، وهم لا يستخدمونها أو يدرسونها بانتظام، فالاستخدام الصحيح ليس هو لغتهم الأساسية، وليس أساسيا أيضا في نموهم الاتِّباعي في المدرسة والمجتمع. وحين يشاءون فهُم بلا شك يشتركون في الاستخدام القياسي (الخاضع لضوابط اللغة) ليقدموا لحظات خلاقة، ويمثل هذا مثالا عن جماليات نقدية يحتاج المعلمون استحضارها بصفتهم فنانين.

باولو: أتفق معك تماما بشأن قضية المعلم بصفته فنانا، وأريد فقط أن أضيف إليها عنصرين اثنين؛ الأول يفترض أنه بغض النظر عن ما إذا كان التعليم يمارَس بشكل غير رسمي في البيت أو بشكل رسمي في المدرسة، عبر العلاقات غير الرسمية بين الآباء والأطفال أو الرسمية في المدرسة الابتدائية بين المعلمين والطلاب، فالتعليم يجب أن يعمل جنبا إلى جنب مع السيرورة الدائمة للتكوين. رغم أنه ليس من المهام الدقيقة للمربي أن يخلق صورة للطالب أو يعمل على تشكيله مهما كان مستوى التعليم. ففي تصوري، أنا أعد نفسي مساعدا للطلاب في سيرورة التكوين الخاصة بهم وبنموهم، وهذه السيرورة هي بالضرورة فنية، ومن المستحيل المشاركة في سيرورة نيل الشكل، كنوع من الانبعاث، بمنأى عن بعض اللحظات الجمالية. في هذا الجانب، يعد التعليم وعلى نحو طبيعي ممارسة جمالية، وحتى لو لم نكن واعين بهذا فإننا نظل مندمجين طبيعيا في المشروع الجمالي. وما يمكن أن يحدث عند عدم وعينا بهذا الجانب الجمالي للتعليم، هو أننا نصبح فنانين سيئين للغاية، لكنْ ومع ذلك، فنانين ذوي طيبة، إلى حد أننا نساعد الطلاب على الولوج إلى سيرورة التكوين المستمر.

هناك نقطة أخرى تجعل من التعليم، إلى حد بعيد، حدثا فنيا؛ وهي على وجه التحديد حين يكون التعليم أيضا فعل اطلاع. بالنسبة لي يعد الاطلاع أمرا رائعا!، إلى حد أن الاطلاع هو إزاحة اللثام عن الموضوع، وهذه العملية تهب الموضوع «الحياة» وتدعوه إلى الحياة، حتى إنها تهبه حياة جديدة. وهذه مهمة فنية؛ لأن اطلاعنا يملك فضيلة الإمداد بالحياة، ويخلق ويبث الحياة في الموضوعات بمجرد دراستنا لها.

كل الأشياء التي تحدَّث عنها تشارك أيضا في هذه الطبيعة الجمالية للاطلاع والتشكيل. الإيماءات وترنيمات الأصوات، والمشي في الصف الدراسي والتصنعات: يمكننا القيام بكل هذه الأشياء طوال الوقت دونما وعي بجوانبها الجمالية وانعكاسها على تكوين الطلاب عبر التدريس، وأعتقد أن الطبيعة الجمالية للتعليم لا تعني أن نُظهرها ونعيها إذ نقوم بها طوال الوقت. أعتقد أن اللحظة التي تلج فيها الصف الدراسي، اللحظة التي تقول فيها للطلاب: مرحبا!، كيف حالكم؟، فأنت بالضرورة تقيم معهم علاقة جمالية، وهذا لأنك مرب لديه دور إستراتيجي وإرشادي ليلعبه في بيداغوجيا تحريرية. وبالتالي فالتعليم هو، وعلى نحو تزامني، نظرية من نظريات المعرفة، تتوجه نحو الممارسة، والفعل السياسي والجمالي. وبالتالي فالأبعاد الثلاثة التالية تكون مجتمعة دائما؛ اللحظات المتزامنة للنظرية والممارسة، والفن والسياسة، وفعل الاطلاع حال خلق وإعادة خلق الموضوعات بينما يعمل (فعل الاطلاع) على تشكيل الطلاب المطلعين.

أعتقد فضلا عن ذلك أن المربي إذ يصبح واضحا أكثر فأكثر بخصائص التدريس هذه، فيمكنه/ا أن يُحَسِّن فعالية البيداغوجيا. فالوضوح بشأن الضرورة السياسية والفنية للتعليم يُصَيِّرُ المعلم أفضل سياسي وأفضل فنان. إننا نضطلع بالفن والسياسة عندما نُقَوي تكوين الطلاب، عَلِمنا بذلك أم لا. فأن نعرف ما نفعله في الواقع يُعيننا على القيام به بشكل أفضل.