أعطِ إيرانيًا قبرًًا لرجلٍ مجهول، وسيحوِّله إلى مُتحفٍ وحُسينيّة وبُستان. سيُحوِّله إلى محطّةٍ مُتوهِّجة أبدًا لبثّ الوعي التاريخي بآلامه، وجنّة يرشف فيها لذّات الحياة، وبقعةٍ يُعِد فيها العُدَّة للموت! وقد كان علي عزت بيغوفيتش، رحمه الله؛ يرى أن هذا النوع من البشر هم الأكثر حكمة وروحانيّة، وتطرُّفًا؛ هؤلاء القادرون على الجمع بين النقيضين: الاستمتاع حتى الثُمالة، والمعاناة بصورةٍ سرمديّة. ورُبّما كان هذا الثراء الدرامي هو ما يزيد تركيبيّة الوجدان الإيراني، ويجعل سبر غوره رحلة محفوفة بمخاطر سوء الفهم والتقدير؛ خصوصًا إذا تزوَّدت لها بمُعطياتٍ أيديولوجية مُسبقة، وافتقدت القدرة على تذوّق خصوصيّتها.

وقد تجاورت هذه المتناقضات الإنسانيّة طويلًا في إيران، وتعايشت بشكلٍ طبيعي. الحضور العميق والمتأجج لثقافة الشهادة، ومصدره إخلاصُ الوجه لله وصدق تولّي النبي وآل بيته؛ جنبًا إلى جنب مع القدرة على الاستمتاع بملذات الحياة، لدرجة المجون في بعض الأحيان. وإذا كانت المُدن الدينية، مثل مشهد وقُم؛ هي التي تُشكِّل الوجدان الديني والأخروي، فإن أثرها كان أكثر عُمقًا وأوسع نطاقًا برغم جمال الطبيعة وثرائها، اللذان يجذبان الإنسان الإيراني، بقوّة؛ للتمتُّع بما رُزق. لكن عناصر الحضارة الاستهلاكيّة قد أضفت بُعدًا لا إنسانيًا على هذا النزوع الإنساني الفطري، كما حدث في كُل بلدان العالم الإسلامي التي غزتها هذه الحضارة البغيضة؛ حتى صارت المدن العلمانية/الحديثة معامل تفريخٍ لأيديولوجيات لا تُعادي مظاهر الدين فحسب، بل تُعادي تركيبية الإنسان أيضًا. وإذا كان التجاور السلمي لنزعتين إنسانيتين، العبودية لله والاستمتاع بما أحله؛ أمرٌ ممكن في الأنساق الحضاريّة التقليدية، فقد جعلت الحداثة من هذه الممارسة، والتصور الكامن خلفها؛ أسطورة بدائيّة يتعيّن تقويضها. ذلك أن أعدى أعداء الأيديولوجية الاستهلاكية العلمانية هي التركيبية الإنسانية والخصوصيّة الحضاريّة، والثراء النفسي والوجداني الذاتي، وهي الباقة التي يُمكن اعتبارها أحد أهم معالم تفرُّد الشخصيّة الإيرانيّة التقليدية، خصوصًا ما قبل التحديث. إن الأيديولوجية الاستهلاكية تريد إنسانًا فارغًا مجوّفًا يُمكن ملئه بأي شيء، ويُمكن بالتالي التحكُّم فيه وتوظيفه وتوجيهه بسهولة. وإذا كانت العلمنة في تعريفنا نزوعًا إنسانيًا طبيعيًا يتولَّد من إخلاد الإنسان لمتاع الدنيا، وتفلُّته من حاكمية الشرع الذي حدد له وظيفة دنيوية واضحة؛ فإن العلمانيّة الاستهلاكيّة أكثر قسوة وشراسة ولا إنسانية، ذلك أنها تفرض على الضحيّة علمنة شبه إجباريّة لا تنتُج فحسب عن ثقله الإنساني المتعيّن، وغلبة شهواته وإخلاده المؤقت إلى الأرض في لحظات استسلامه لها؛ بل تُكرّس هذه الحال من الضعف بمحاصرته خلالها لئلا يستفيق منها؛ فيظل مُستعبدًا لشهواتٍ تتقاذفه بتوجيه هذه الأيديولوجية اللعينة، وذلك من خلال مؤثّرات دعائيّة مُتغلغلة في كل تفاصيل حياته.

وأول درسٍ يجب للمرء تعلُّمه من ثقافة هذا البلد العريق؛ هو: أنك فقط حين تتعلَّم كيف تموت؛ ستتعلم كيف تحيا. فالإيرانيّون يعشقون الحياة، كما يحتفون بالموت ويُقدِّسون الشهادة. وهم رومانتيكيّون حالمون حتى لتحسب أن أرجلهم لا تمسّ الأرض أبدا، فإذا هُم عمليّون وبراغماتيّون أيضًا بذات الدرجة. يعشقون الطبيعة الغنية التي وهِبت لهم، ويُجيدون الاستمتاع بها إلى حدّ التوحُّد معها أحيانًا (وفي ذلك يتشابه الوجدان الإيراني المثقل بالتاريخ مع الوجدان الأمريكي المعادي للتاريخ). وهي القدرة التي لا يزول بها اغتراب الإيراني المسلم داخل الطبيعة في أكثر الأحيان، لتظلّ ذاته مُنفصلة ومُتصلة بذات الوقت؛ يُعاني الانفصال عن الطبيعة/المادة قبل أن يفرح بالاتصال بها، ليُنتج شعره العميق وموسيقاه الشجيّة ولطميّاته الحارّة المؤثرة، والمحمّلين بثروةٍ وجدانيّة لا تنضُب.

وفي هذا البلد المحيِّر تتنافس المقابر والحدائق على التكاثُر. وجنبًا إلى جنب تتجاور اﻵن صور الشهداء، وإعلانات السلع الاستهلاكيّة؛ لينمو من جراء ذلك وعي مُلتبِس مشوَّش. وعيٌ جديد يركن غالبًا للسلع الاستهلاكية؛ مُستثقلًا الشهادة، وإن أعجبه ذكرها بعض الوقت. لهذا؛ يعتبر بعض المفكّرين الإيرانيين المعاصرين أن لحظة انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، وبناء التشيُّع لدولته “الحقيقيّة” تحت نائب الإمام؛ هي عين لحظة هزيمة التشيُّع أمام نفسه. لقد هُزمت الحركة الاحتجاجيّة الموّارة برفض الواقع (المنافي لأيديولوجيتها) أمام نظام دولتها المحافِظ الراغب في الاستقرار، والذي يبغي الحفاظ على مُكتسباته الدنيوية وواقعه “الجديد” (الذي يُعيد تشكيل الأيديولوجية). لكن عناصر الثقافة الدينية (والمرتبطة بالمذهب) لم تُهزم هزيمة نهائيّة، ولا يُمكن هزيمتها كُليًا في المدى المنظور؛ فهي تُمثِّل جُزءا محوريًا، كامنًا عميق الغور في اللاوعي؛ من منظومة الإشباع الروحي سهل الاستدعاء (ناهيك عن حضوره الكثيف في كل تفاصيل الحياة)، والذي يُعوِّض الفراغ الذي تتسبب به الحضارة الاستهلاكيّة. ذلك أنه ثمّة مواقف في حياة الإنسان يكون فيها مُجرّد التفكير في الموت؛ موقظًا للرغبة ومُخرجًا للروح الإنساني من حالة الخِدر الشامل، كما يذهب بيغوفيتش.

ولا يقتصر تغلغل هذه الثقافة على مواكب عزاء الأئمة وذويهم، والتي تُقام في المدن الدينية فحسب؛ بل تمتد إلى ربط شهداء آل البيت في الوعي الجمعي بشهداء حرب الخليج الأولى والعدوان البعثي (المدفونين على سبيل المثال في “بهشت زهرا” جنوب طهران)، ويزداد ثراء الشبكة الوجدانيّة بضم كبار المراجع المدفونين حول السيدة فاطمة المعصومة في قُم (أمثال: بروجردي، طباطبائي، مطهري، منتظري) وعوام أهل مشهد المدفونين تحت مرقد الرضا عليه السلام، وتتسع دائرة التأثير لتضُم عشرات الشعراء والأولياء والعلماء المدفونين في شتى أنحاء إيران. هذه الشبكة الهائلة، التي تُغطي جُلّ إيران تقريبًا؛ تجعل الشهادة، كأسمى صور الفعل الديني؛ أحد المفردات الحاضرة دائمًا وبقوّة في الوعي الجمعي، حتى وإن انفصلت أحيانًا عن مصدرها الديني، وتمّت علمنة محتواها.

ومن المؤشرات اللافتة على الأثر العميق لآليات بناء الوعي التاريخي الإيرانية/الشيعيّة، حتى في النُخب العلمانيّة؛ ما ذكرته المحاميّة والناشطة الشهيرة شيرين عبّادي في مذكّراتها عن الحوادث الممهدة للثورة. إذ تذكر أن بعض رسائل الإمام الخميني المسجَّلة صوتيًا، والتي كانت تصل مُهرَّبة وتستنسخ باﻵﻻف؛ وجَّهت الإيرانيين للصعود فوق أسطح منازلهم جماعات في تمام التاسعة مساء كل يوم، ليهتفوا: الله أكبر. وقد مثَّلت هذه الطريقة أحد آليّات التصعيد وتعبئة السخط الشعبي، بغير تعريض الجماهير لمواجهة رصاص الشاه في الشوارع. وتُعلِّق عبَّادي على ذلك قائلة أن هذا التكتيك قد كشف مدى نجاح الخميني في العزف على وتر العاطفة الدينية للجماهير، إبّان حملته ضد الشاه. وتُضيف أنها هي وزوجها قد خرجوا بإخلاص تام مع الخارجين، برغم اختلاف انتمائهم الأيديولوجي. بل إن أبواها، أصحاب الخلفيّة القوميّة؛ خجلا من عجزهما عن مشاركة الجماهير فوق الأسطح؛ فكانا يُكبِّران مُطلّين من إحدى نوافذ منزلهما.

ومن المؤشرات الأخرى المهمّة على تغلغُل مُفردات الوعي التاريخي الذاتي (بعناصره المختلفة) في وجدان الإيرانيين؛ عدد النُسخ التي تُباع في إيران من منظومة “شاه نامه”، لشاعر الفُرس الأكبر أبو القاسم الفردوسي؛ والتي تصل إلى ألف نُسخة يوميًا في المتوسِّط. هذا عدا ما يُباع من أعمال الشُعراء اﻵخرين المؤثرين بشكل واضح في تكوين الوجدان الإيراني، الشعري بطبيعته؛ وعلى رأسهم حافظ الشيرازي. وبرغم ذلك؛ يشكو الإيرانيون، خصوصًا أهل القلم والعاملين في صناعة النشر؛ من ضعف الإقبال النسبي على الكتب والقراءة، بسبب الإنترنت والثقافة الاستهلاكية؛ ومن اتخاذ الشباب لمعرض الكتاب السنوي مطعمًا ومُلتقى للعشاق.

….

والإيرانيّون يُحبّون اﻷجانب كما يُحبّ ممثل المسرح جمهوره. وأيًا كان الانتماء الأيديولوجي للإيراني؛ فعنده ما يستعرضه لينتزع تصفيق الجمهور. فمثلًا إن كان علمانيًا، وغلبت عليه النعرة القوميّة؛ راح ينبش الأرض عن عظام جاهليّة إيران، ليستعرضها في فخرٍ اجترّه أسلافٌ له في الشعوبيّة. وإن كان إسلاميًا، وتهمَّشت عنده النعرة القوميّة إلى حدٍ ما؛ راح يستعرض معالم حضارة الإسلام وإنجازات إيران الثورة، ويرفعها جميعًا إلى سلفٍ من عُلماء المسلمين الذين تحدّروا من ذات القرى. وهو في كل حالٍ فخورٌ بنفسه وبلده، ويرى فيها رائدًا وقائدًا؛ في جاهليّتها وإسلامها. وهو يتعامل بمنطق التعالي هذا مع غيره من شعوب العالم؛ خصوصًا العرب المتحلِّقين حول الخليج الفارسي. إذ يعتبرهم العلمانيّ أعرابًا أدنى منه منزلة وحضارة، ويعتبرهم الإسلامي انتكاسة لمسيرة الإسلام وحركته في العصر الحاضر. ولهذا؛ يعجز الإيرانيون عن بناء علاقات ثقافيّة حقيقيّة مع جملة العرب، ومع جيرانهم الخليجيين على وجه الخصوص، وإن ازدهرت علاقاتهم الاقتصاديّة (البراغماتيّة) بشكلٍ واضح.

وثمّة بعض الاستثناءات في نظرة الإيراني للشعوب العربية، لعل أهمّها رؤيته لمصر وأهلها. إذ يخضع العلماني لتفوّق حضارة مصر القديمة على حضارته، التي يُباهي بأعوامها الألفين وخمسمائة؛ ويقبل من ثم بأهلية المصريين للتفوق والقيادة. على الجانب الآخر؛ ينظر الإسلامي إلى مصر بإكبار ومحبّة، باعتبارها بلد الفكر والعلم والقيادة، التي تجاوزت الخلافات الطائفية/المذهبية إلى آفاق الإسلام الرحبة. هذا ناهيك عن احتضان مصر لمراقد آل البيت النبوي الكريم، وحب المصريين وتوليهم لذرية النبي المعصوم، صلى الله عليه وسلم. وعلى سبيل المثال؛ لا توجد تقريبًا أسماء شوارع أو أحياء أجنبية في إيران، بمعنى أن التسميات عندهم تقتصر غالبًا على آل البيت والشهداء والعلماء الإيرانيين والشيعة بوجه عام، وقد تمتد لتشمل بعض أسماء أعلام الفرس في الجاهلية. وربّما كان من الاستثناءات القليلة لذلك هي تسمية بعض شوارع طهران بأسماء أعلام المصريين؛ مثل: الشيخ عبدالحميد كشك، والشهيد سليمان خاطر، والشهيد سيد قطب، والشهيد حسن البنا.

وهذا المستوى من التعميم في تقصّي نظرة الإيرانيين لمصر لا يعني بالضرورة أن الواقع بهذه الحدية، فثمة نسبة كبيرة من اللامبالين، بأي شيء وكل شيء؛ عدا الاستهلاك واللحظة اﻵنية. لكن هذا المستوى من التعميم والاختزال هدفه فهم العناصر الرئيسة في هذه الرؤية، والتي تتركَّب أحيانًا من مزيج من المدخلات تختلط فيه الدوافع الشعوبيّة مع الدوافع المذهبية؛ لتُنتج خطابًا دولتيًا مُعاديًا في لحظات الحاجة. لتبقى النظرة الإيرانية لمصر وأهلها إيجابيّة في مجملها، خصوصًا في الأعوام الخمسة الأخيرة. وهذا يجعل مصر هي البلد المسلم الوحيد تقريبًا، القادر حقيقة على احتواء إيران وتخفيف غلوائها، إن توفّرت له قيادة حكيمة، وهو أمر يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي.

صحيح أن أردوغان وصحبه قد أبدوا حكمة في التعامُل مع الإيرانيين، إلا أن تاريخ المنافسة القديم بين البلدين يحد من قدرة تركيا على احتواء الجموح الإيراني بشكل فعال، فديباجات الصراع بين العثمانيين والصفويين وخلفيّاتها التاريخية، السياسية والمذهبية؛ يسهُل استدعائها لتُفسد كل شيء في لمح البصر. لتبقى مصر هي البلد الوحيد الصالح، نظريًا؛ لبناء علاقات ثقافية وسياسة واجتماعية صحيّة مع إيران؛ علاقات تدمج الأخيرة في صف الأمة بغير تمييز.

لكن هذه الإمكانية النظريّة لا تُعطِّلها السياسة الخليجية والتياسة المصريّة فحسب، بل يُكبّلها أن الإيرانيين عمومًا لا يثقون بالأجانب بسهولة، وقد لا يثقون فيهم أبدًا؛ بغض النظر عن مشاعر التقدير أو الحب التي قد يحملونها نحو شعب من الشعوب. إذ تتحكَّم في الوجدان الإيراني ما يُمكن تسميته ب “عقدة الأقليّة”، التي تغذّت على الحصار وخطاب المظلومية والتآمر؛ مما يجعل الإيرانيين غير قادرين حقيقة على تجاوز كثير من الحواجز النفسيّة واللغويّة والمذهبيّة والسياسية، لتطبيع العلاقات الثقافية مع الكُتلة السنيّة-العربيّة الأكبر. وهذا الرُهاب من الذوبان لا تُشكِّله ظروف موضوعية حقيقية، فحقيقة الأمر أن العرب هم الطرف الأضعف في المعادلة حاليًا. ورغم ذلك؛ يُفضِّل الإيرانيون بناء علاقاتهم الثقافية الحقيقية مع الأقليات الشيعية والجاليات الإيرانية والمتشيّعين الجُدد، بل وحتى مع بعض الفرق الشيعية التي يعتبرونها ضالّة؛ عن بناء مثل هذه العلاقات مع عرب سُنّة، ليبدو هذا الرُهاب كأنه تفضيلٌ لتدفُّق الخطاب في اتجاهٍ واحد يُرسِّخ التقوقعٌ في خندق الخصوصية المذهبية والثقافية، خوفًا من ذوبانها في الكتلة الأكبر من العالم الإسلامي.

وأحد أهم المؤشرات على استحكام هذه العُقدة، برغم الانفتاح الثقافي الإيراني الواضح على الغرب؛ هو الموقف المُتزمِّت لأكثر أهل الحوزة العلميّة من كتابات علي شريعتي، ومثقفين حداثيين آخرين؛ باعتبارها كتابات “مُنحرفة” ومليئة بالأغلاط، ومن ثم تكريس قدر من القطيعة مع مُنتجها ومُستقبلها، برغم أنها تحظى بشعبيّة عريضة في العالم السُنّي؛ فالمؤلف خارج على السرديّة الرسمية، والقاريء مُتلقٍ ل”ضلالات غير مُنضبطة”. وهو موقفٌ نفسي أكثر منه معرفي، وهو في ذلك يُشبه كثيرًا موقف الأزهريين من سيّد قُطب. هذا التغاضي عن الإمكانيّة التوحيدية الكامنة في فكر شريعتي، المتجاوز للمذهبية إلى حدٍ ما؛ ليس استثناءا، بل هو القاعدة في تعامل الإيرانيين (خصوصًا المتديّنين) مع الشأن الثقافي، فهم يُفضّلون “جسورًا” يعبر عليها الحوار من جهة واحدة؛ مُتحولًا إلى مونولوج أو خطاب بالمعنى الذي قصده ميشيل فوكو، وهذا أحد علامات تلازُم الثقافي والسياسي في مذهب الإمامية، الذي نشأ أصلًا كمذهب كلامي.

…..

في حضرة الإيرانيين لا يُمكن أن تعرف تحديدًا ما الذي يجعلك تُحبُّهم، برغم تمام وعيك بعيوبهم وتحيُّزاتهم الصارخة؛ أهو الشجن المعلَّق في الهواء والمعطَّر بالزعفران، والذي يسعى بعضهم لتجاوزه نفسيًا بالانغماس في اللذائذ الحسيّة والمجون الزائد عن الحد؟ هل يمسّ هذا الشجن جوهرًا إنسانيًا ما بداخلنا، شيئًا لا نستطيع له توصيفا؛ أيُمكن لنا في هذا المقام استحضار أحد أبيات نزار: إن الإنسان بلا حُزنٍ ذكرى إنسان؛ هل يُفسِّرُ هذا البيت شيئًا يقبله العقل؟ لماذا يكتسب كل شيء طعمًا مُختلفًا في إيران؛ الفاكهة والخبز اليومي وطعام الطلبة الفقراء وحتى الشاي؟ ولماذا يسري الحزن في كل ربوع إيران، برغم الابتسامات والضحكات والنكات وشدّة الاحتفاء بالحياة؟ لماذا ينضح الوجدان الإيراني بهذا الشجن حتى لتراه عيني الزائر في كل لفتة وتتنسّمه أنفه في كل همسة؟

لقد سألني صديقي الروائي الإيراني عن أوهامي عن إيران وكيف تكسَّرت، قال إن الأجانب يحملون دائمًا الكثير من الأوهام عن إيران، وهي لا تتكسّر بسهولة. فأجبته: لم تكُن أوهامًا كثيرة، كانت باﻷحرى أساطير مُقدَّسة، وتمت أنسنتها؛ وإن بقيت لها هالتها الأسطوريّة. معارف ارتقيت بها من مرتبة الإدراك إلى مرتبة الذوق. لا يصدمني شيء في واقع إيران يا صديقي، ولا حتى زيادة عمق الظواهر التي أعرفها عما أتوقعه. وربّما كانت هذه الأنسنة سببًا في قدرتي على استقبال موجات الشجن المبثوثة في كل مكان، وربّما كان استعداد روحي لتلقّي هذه الهدية الشجيّة مُعينًا على هذه الأنسنة.

إن السائح/المسافر/الزائر المسلم ليس كغيره؛ فهو يغار على محارم الله في كل موطن، ولا يتعامل أبدًا بمنطق الجماعة الوظيفية؛ نازعًا القداسة عمّن حلّ بينهم، ومدنِّسًا حُرماتهم؛ ولو كانوا كُفّارا. فإنما يُراقب الله ولا يُراقب الناس. والسفر والترحال في عقيدة المسلم تحقيقٌ لهدف قرآني أسمى، ليس مُجرَّد التعارُف والتآلُف؛ بل للتفقُّه في الدين. فالسير في الأرض على مقتضى الأمر الإلهي أرحب أبواب التفقُّه في دين الله والفهم عنه. إن كل حركة للمسلم في أرض الله بهذه النية ومن هذا المنطلق لا تؤنسن فحسب رؤيته لمن يحلّ بينهم، بل تفتح له بابًا للعروج إلى الله، وما أكثر الأبواب، لكن قومي لا يعلمون.