هل تساءلت يومًا عن الحد الفاصل بين الحلم والحقيقة؟ وبين الماضي الذي انقضى والحاضر الذي نُعايشه؟ وبين الواقع الذي يفرض وجوده علينا، والخيال الذي تولّده لنا القرائح والأفكار؟

مسرحية «توفيق الحكيم» الذهنية، التي تناول فيه قصة أهل الكهف، وأخذ مضمونها ثم نسج منه حبكة دراميّة فلسفية مبتكرة، تصوغ لنا ببراعة هذه الجدليات؛ جدلية الزمن ونسبيّته، وجدلية الحلم الخيالي والواقع الحقيقي.

فكرة عن المسرحية

استوحى الحكيم قصّته من الحكاية الشهيرة للفتية الذين فرّوا بدينهم من البطش، والتجئوا إلى كهفٍ بالرّقيم يحتمون داخله، حكاية أصحاب الكهف، الذين لبثوا في نومتهم لقرون.

«مشلينيا» و«مرنوش» والراعي «يمليخا» وكلبه «قطمير»، كما ورد في المسرحية، هم أولاء الذين ناموا بمنأى عن الزمن طيلة ثلاثة قرون.

أمّا مشلينيا ومرنوش، فقد كانا وزيرين للملك الوثني «دقيانوس»، مُضطهد المسيحيين، وكان مرنوش قد تزوّج امرأة مسيحية ورُزق منها ولدًا، ومن شدّة تعلّقه بها اعتنق الديانة التي هي عليها وترك الوثنية. وبالنسبة لمشلينيا، فقد كان مُحبًا لـ «بريسكا» ابنة الملك، وكان يسمر معها الحين تلو الحين ببهو الأعمدة في القصر، ولأن الأميرة بريسكا كانت طيبة القلب خفيفة العقل، محِبّةً لمشلينيا؛ سَهُلَ عليه إقناعها بالمسيحية التي كان معتنقًا لها منذ الولادة.

تواعَد المحِبّان وعدًا مقدسًا على الخطبة وعدم الخيانة مهما تطاولت السنين، وعلَّق مشلينيا صليبًا ذهبيًا صغيرًا برقبة بريسكا حينذاك.

يبدأ الإشكال عندما كتب مشلينيا رسالة للأميرة، ذَكر فيها أنه ذاهب رفقة الوزير مرنوش لأداء صلاة الفصح، ولسوء الحظ أرسل الرسالة مع وصيفةٍ تُخفي كيدًا للأميرة ومشلينيا، ولا ترجو لهما خيرًا. فما أسرَع ما وقعت الرسالة بأيدي الملك، قاهر المسيحيين وذابحهم.

بعدَ أن أسرعت بريسكا خارجًا وأعلمت الوزيريْن [مشلينيا ومرنوش] بما حصل، سارع الاثنان للهرب من عيون الملك تفاديًا للجزاء المحتوم، وهنا، يدلُّهما راعٍ مسيحي اسمه يمليخا إلى الكهف بجبل الرقيم. وهناك يستكين الثلاثة للنوم طالبين شيئًا من الراحة.

تبدأ المسرحية مع استيقاظ أهل الكهف داخِله، وتجادُلِهم حول العودة إلى المدينة [طرسوس] من عَدَمها، وتأرجحهم بين الخوف والأمان. ثم يقرر الوزيران السابقان إرسال الراعي يمليخا لجلب الطعام، فإذا به يُصادف صيادًا خارج الكهف فيعرض عليه دريهمات– مصكوك عليها ختم دقيانوس– مقابل بعض الصيد، فيُذهل الصياد عجبًا من «الكنز الثمين»، ويذيع الخبر بعدها بين أهل المدينة.

على الطرف الآخر، داخل القصر، تقف الأميرة بريسكا، التي سُمِّيت تيمُّنًا بالقديسة «بريسكا» ابنة دقيانوس، وصادَف أن شابهتها في الخِلقة بشكل كبير، حتى أنها كانت تلبس صليب الذهب الصغير بعنقها بعد أن تمّ توارُثه. تقف ببهو الأعمدة متحدثةً مع مؤدّبها «غالياس»، الذي وصلَه شأن الرجال الذين عُثر عليهم بالكهف، وسرَدَ عليها حينئذٍ الأسطورة التي نسجتها الأجيال المتلاحقة حولهم، وكان سعيدًا لظهور هؤلاء «القدّيسين» في عصر مَلكه الحالي؛ والد الأميرة «بريسكا» الحالية.

بعد استقدام رجال الكهف إلى القصر والناس من حولهم، يبدأ الغموض والحيرة، وانعدام الفهم واتساع الهوّة بين المعاني في خطاب الثلاثة مع مَن حولَهم، وكل ذلك ناتج عن فوارق الزمان التي لم يُدركها أهل الكهف بعد.

وهو ما زاد الوضع تأزّمًا وإثارةً، هو عثور مشلينيا على بريسكا الشبيهة ببريسكا الأولى خطيبته، وتوهُّمه أنها هي، ثم حيرته– مع رفيقيه– من تبدّل الأحوال في القصر والمدينة وفي النمط الحياتي ككل في غضون أيام قلائل حسب تقديرهم.

وهذه اللعبة الزمنية، وعاطفة الحب التي تُغالِبُها وتحيا بمعزلٍ عنها، ثم التدرّج في إدراك الواقع والحقيقة، تلك هي التي تمثل جوهر المسرحية وفكرتها الأساسية.

القلب خارج الزمن والعقل داخِلَه

في حالة كل واحدٍ من الرجال الثلاثة، يحدث اكتشاف الحقيقة الصادمة (حقيقة امتداد ليلتهم بالكهف طيلة ثلاثمائة عام) عند تحقق غياب ما أحبَّته قلوبهم، أي عند إدراكهم لِفناء ما تعلّقوا به وأملوا العودة إليه، فكيف ذلك؟

أول منْ أذعَن للحقيقة كان الراعي يمليخا، الذي لا أهل له سوى كلبه قطمير، أحبَّ الرجل عالَمَه ومدينته وأهلها وأجواءها كما تعرفها نفسه حقَّ المعرفة. فما إِن استأذن وغادر القصر وتجوَّل بالمدينة، حتى أحسّ بالغربة الفعلية؛ غربته عن أهل هذا الزمان، فقد شعر أنه لا ينتمي إلى هؤلاء ولا كلبه، وذلك ما جعله يُدرِك فعلًا أنه– وصاحباه معه– قد أصبحوا في حوزة التاريخ، وأنه لا يحق له الهروب من قبضته والعودة إلى مجرى الزمن الحاضر.

وفي ختام الفصل الثاني، نجد يمليخا يُلقي هذه الحقائق الرهيبة على مسمع صاحبيْه بالقصر، اللَّذيْن ما انفكّا يتهمانه بالجنون والهرطقة، فما كان منه إلا أن غادرهما إلى العالم الأصلي الذي ينتمي إليه: الكهف، الذي ينتمي إلى عصر دقيانوس، فليس له أن يقتحم عصرًا ليس له فيه مكان، فليعد إذن إلى كهفه ليموت هناك حقيقةً كما مات في أذهان الأجيال المتلاحقة وتحوَّل إلى أسطورة.

أمّا بخصوص مرنوش ومشلينيا، فلم يُدركا ما أدركه صاحبهما لأنهما لا يزالان معتقديْن بأن الأحِبَّة في انتظارهم؛ فهذا أحب أهله، وذاك أحب بريسكا، وظن كلاهما أنهما واجدان منْ أحبوا، فلم يشعروا بثقل وطأة القرون الثلاثة التي مكثوها وقلوبهم حيّة بالحب، أمّا الراعي فقد مات ما أحبَّه؛ ماتت المدينة التي يعرفها والمعالم التي يأوي إليها وأهل زمانه الذين يستأنس بهم، فأدرَك بالعقل حقيقة ما جرى بعد أن مات الحب الذي خفّفَ عنه حِمل الزمن.

وهذا ما حدث تاليًا مع مرنوش؛ فقد غادر القصر قاصدًا بيتَه وأهله وقلبه مُفعَم بالمحبة للقائهم، فما وجد مكان البيت إلا سوقًا لبيع الدروع والرّماح، وسأل الناس عمّا يراه، وعن زوجه وولده، فاقتاده أحد الشيوخ وأراه قبر ولده وقد كُتِبَ على شاهده:

مات شهيدًا في سن الستين بعد أن جلَب النصر لجيوش الروم.

هنا وجد مرنوش نفسَه أمام الواقع، رأى بعقله بعد أن كان يرى بقلبه، فلمّا مات قلبه (أي ما تعلّق به) خَلُصَ إلى نفس موقف الراعي يمليخا:

لسنا أهلًا لهذا الزمان… نحن فقط نتطفَّل عليه، وإذن يُعاقبنا التاريخ الذي نحن رهن قبضته.

وكما فعل يمليخا، قصَد مرنوش صديقه مشلينيا وطرح عليه الحقائق ذاتَها، لكن مشلينيا –وحيوية الحب لا تزال تسري فيه– ظل ثابتًا على موقفه، وكان يقول أن هذه السنين الثلاثمائة التي يدَّعونها ليست سوى أرقام وكلمات لا معنى لها، فليقل من شاء ما شاء، وما صديقاه إلّا مُخرِّفان قد عبثت ليلة الكهف المخيف بِعقليْهِما وأصابَهما منها الجنون.

بين الصدفة والقدر: مشلينيا وبريسكا

حوار الأميرة بريسكا (الحالية) والقديس مشلينيا الذي يؤمن أنّ هذه هي خطيبته بريسكا (الأولى)، من أعظم مشاهد الرواية وأبرعها جدليّة فقد تواصلت الريبة والشك وتلاعبت الظنون بحديث الاثنين طيلة صفحات؛ يَعجَب القديس مشلينيا ممّا طرأ على روح بريسكا وعقليتها من تغيّر، ثُم يرى الصليب الذهبي (الذي أعطاه للأولى في الماضي وورثته الثانية في الحاضر)، فلا يُخالِجه شك في هويتها، بينما تَعجَب بريسكا مما حلّ بهذا القديس الأسطوري من عته وهذيان لا تهتدي إلى سببٍ له.

شيئًا فشيئًا، تفهم الأميرة ما يجري، وتتذكر نبوءة العرّاف الذي أخبر أهلها عندما وُلِدت أنها ستُشبه جدتها الروحية، القديسة بريسكا، ولذلك سمّوها باسمها. أدركَت أن جدتها القديسة هي في الواقع خطيبة مشلينيا، وأنه مجرّد سوء فهم مُذهل بطله الزمن.

شَرَحت الأمر لمشلينيا، وأنها ليست الفتاة التي يطلُبها، فهذه الأخيرة قد رحلت عذراءَ قدِّيسة حافظة للعهد، فلم يتمالك الرجل نفسَه لِثِقَل الحقيقة على عقله، لكنه لم يجِد سوى التّسليم والرضوخ:

نعم… الوداع. الآن أُحس مصيبتي وعِظَم ما نزل بي. إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحارٌ لا نهاية لها، وإذا الليلةُ أجيال… أجيال… وأمَدَّ يدي إليكِ وأنا أراك حية جميلة أمامي، فيحول بيننا كائن هائل جبّار: هو التاريخ. لقد فات زماننا ونحن الآن مِلكٌ للتاريخ، ولقد أردنا العودة إلى الزمن ولكن التاريخ ينتقم… الوداع.

أَصُدفةٌ هي أن يُبعَث مشلينيا في عصر هذه الأميرة بالذات، هذه الشبيهة بخطيبته، الحاملة لاسمها، وأن يجمعهما هذا المشهد الذي يَطيش بالعقول؟ أم أنها يد الأقدار الخفية بعَثَت الإثنين لبعضهما ودفعتهما إلى هذا اللّقاء المُرتّب دفعًا؟

ذاكَ ما جالَ بخاطر الأميرة بريسكا، التي رأت في المنام بأمسها أنّها تُدفَن حية، وبعد أن أمعنت النظر، لم ترَ سوى أن الرؤيا في طريقها للتحقّق.

حقيقة أم حُلم؟

أدرَك مشلينيا إذن ما أدركَه صاحباه، فمضى على آثارهم إلى الكهف، إلى عالمهم السعيد الذي ينتمون إليه، لكي يفنوا فيه ويلحقوا أهل زمانهم.

في المشهد الأخير، يُوقِظ مشلينيا رفيقيْه من النوم، فنستشِفّ من حواراتهم أن الأمر قد اختلط عليهم، وأن الواقعَ قد التبسَ به الخيال، فلم يعودوا مُدرِكين للفرق: أغادروا الكهف أصلًا؟ أم حلموا نفس الحلم المزعج، حلم الثلاثمائة عام، حلم تغير المدينة ونمط الحياة، حلم موت الزوجة والولد، حلم فقدان الخطيبة الحبيبة؟ أكُلّ ذلك حلم أم حقيقة؟

يموت الراعي يمليخا وهو يُشهِد الله والمسيح أنه يموت، وهولًا يدري إن كانت حياته واقعًا حقيقيًا أم أضغاث أحلام. أمّا مرنوش فيتفطّن للثياب التي يرتديها بعد أن تحسّسها في الظلام، إنها ثياب القصر، ثياب الحلم، ثياب العصر. حينئذٍ يُسقِط من باله فرضية الحلم، ويلوم رفيقه مشلينيا على التلاعب به وإيهامه، ولا يلبث هو الآخر أن يموت.

أمّا الذي جعل مشلينيا متمسكًا بالحياة، فهو القلب؛ أحسّ أنه أحب هذه المرأة التي رأى، هذه «البريسكا» سواءً أكانت هي ابنة دقيانوس أم كانت أخرى، إنه يحب هذه المرأة، ويريد أن يحيا لهذه التي رآها في يقظة، لا في حلم.

وقبل أن يلحق مشلينيا صاحبيْه، يُعلِن أن قوةً فينا تستطيع التغلب على الزمن:

نعم تغلّبنا عليه… أُشهِد الله أني أموت مؤمنًا، أُشهِد المسيح أني أُؤمن بالبعث، لأن لي قلبًا يُحِب.

نبوءة

تصل الأميرة بريسكا، في نهاية المطاف، إلى حقيقة الإعداد القدري المُذهل لهذا اللقاء بينها وبين هذا القديس الذي اختفى لثلاث قرون، ثم عاد لهذا الميعاد العجيب، فاتّبعت ما تبيّن لها وعزمت على إنفاذ النبوءة، نبوءة الحُلم الذي دُفِنت فيه حية.

وذاك ما طلبَته من «غالياس»، الذي أعانها على اللحاق برجال الكهف الذين ماتوا بالفعل، إلا مشلينيا، الذي به رَمَق. حاوَلَت الحيلولة بينه وبين الموت، وأخبرتْه أن «لا شيء يفصِلني عنك… إن القلب أقوى من الزمن»، لكن مشلينيا يُغادرها في صمت، على أمل اللقاء في جيل آخر أو عالم آخر.

وتظل الأميرة مُختبئة هناك، ويأتي الملِك والرهبان لِيودِّعوا القديسين، ثم يُغلَق عليهم الكهف كما لو كان قبرًا كبيرًا، وتصدُق رؤيا بريسكا، التي تحوّلت أخيرًا إلى قديسة بين قديسين.

إننا لسنا حلمًا، لا، بل الزمن هو الحلم، أما نحن فحقيقة، هو الظل الزَّائل ونحن الباقون، بل هو حلمنا، نحن نحلُم الزّمن؛ هو وليد خيالنا وقريحتنا ولا وجود له من دوننا. إن تلك القوة المركّبة فينا، وهي العقل، آلة المقاييس والأبعاد المحدودة، هو الذي اخترع مقياس الزمن، ولكن فينا قوةً أخرى تستطيع هدم كل ذلك: أوَ لَم نعِش ثلاثمائة عام في ليلة واحدة فحطمنا بذلك الحدود والمقاييس والأبعاد؟ نعم، ها نحن أولاء استطعنا أن نمحو الزمن، نعم تغلَّبنا عليه.
مشلينيا، وهو يحتضر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.