سبعة أصدقاء يجمعهم عشاء في بيت أحدهم، ثلاثة أزواج وأعزب، يقررون لعب لعبة مسلية، أي رسالة صوتية أو مقروءة تصل لأي هاتف يخص أي منهم سوف تقرأ على الملأ، بالتدريج تتكشف أسرار عميقة لكل منهم خفيت حتى عن أقرب الناس إليه، خيانات وأمراض نفسية وحتى ميول جنسية.

تلك هي الحبكة الأساسية لفيلم «غرباء بالكامل – Perfect strangers» الإيطالي الذي تم استنساخه لثماني عشرة نسخة حول العالم، ومنذ ثلاثة أيام فقط أطلت علينا النسخة التاسعة عشرة والعربية للفيلم عبر منصة نتفليكس من بطولة: منى زكي، إياد نصار، جورج خباز ونادين لبكي.

فيلم ينتمي لنوعية الدراما الحوارية ودراما المكان الواحد، فيلم جيد، مسل، لن يعلق بذاكرتك طويلاً بعد المشاهدة وإن وضعك في حالة من التوتر أثناءها. الفيلم العربي مأخوذ بالكامل عن الأصل الإيطالي، رغم أن بعض النسخ للفيلم بلغات أخرى تمت معالجة تفاصيلها بشكل مختلف، كالنسخة الكورية مثلاً والتي ألغَت أصلاً وجود شخص ذي ميول جنسية مثلية ضمن الشخصيات.

أثار الفيلم جدلاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي، وخرج اللغط من الحدود الإلكترونية للواقع، حتى أن هناك دعوات في البرلمان المصري لإيقاف عرض الفيلم، الفيلم الذي لا يعرض في السينمات المصرية أصلاً ويعرض على منصة عالمية باشترك مدفوع! السبب هو التعدي على قيم المجتمع المصري المحافظ، وتشوبه قيم الأسرة المصرية الوسطية الجميلة، في هذا المقال نحن لا ندافع عن الفيلم ولا ندافع عن الأسرة المصرية المتدينة بطبعها، نحن فقط نسرد حقائق ونناقشها بهدوء.

«إحنا هنبيّن بس حتّة م *****»

في أحد مشاهد الفيلم ظهرت منى زكي وهي تتظاهر بخلع قطعة من ملابسها الداخلية، لم يظهر في اللقطة أي جزء من جسمها، ولم ترسم أي تعابير وجه شبقة أو خليعة، ولم تستعرض قطعة الملابس أمام الكاميرا، كانت الشخصية في الفيلم لامرأة تعاني من الإهمال العاطفي والحرمان الجسدي والصمت الزوجي ومجموعة من المشكلات التي جعلتها متوترة وصاخبة وتتصنع الضحك والحديث.

فجأة بعد عرض الفيلم بساعات يهاجم الجميع منى زكي لأنها قبلت القيام بهذا المشهد، ليس هذا فقط بل وابل من التعليقات ينهمر على صفحة زوجها أحمد حلمي يتهمه فيها بأنه «ديوث» (الكلمة المثيرة للأعصاب إلى حد غير طبيعي)، ويطالبونه بأن يحكم أهل بيته، المعلقين يطئطئون ويقولون كيف يمكن لأم– خصوصاً إذا كانت أم لفتاة – أن تقبل القيام بهذا المشهد، رغم أنها لم «تبين حتة م ****»، هذا بالمناسبة ليس إفيه من اختراعي، بل هو أحد إفيهات فيلم «عمر وسلمى» وجاء على لسان عبد الله مشرف.

مشهد آخر يتهم فيه الجميع إياد نصار بأنه خيب آمال الجمهور عندما قبل أن يدافع «على لسان الشخصية في الفيلم» عن صديقه ذي الميول الجنسية المثلية، وعن اختياراته وحقه في الحياة، لم يهاجمه الجمهور لأن نفس الشخصية في نفس الفيلم كان يخون زوجته، والأدهى أنها لم تكن خيانة فقط، بل عرضاً عرفنا أنه يستقبل صوراً عارية لطفلة ما زالت ترتدي بيجامات «هالو كيتي»، الشخصية الكارتونية المشهورة، لم يهاجمه الجمهور أيضاً لأنه كان يتحدث مع صديقه عن زوجته ويفشي أسرار الفراش بينهما «بتتعامل طول اليوم انها راجل وعايزة آخر الليل تبقى ست»، لم يهاجمه الجمهور بسبب كل هذه الأشياء التي يراها بسيطة ولكنه هاجمه بسبب دفاعه عن صديقه المثلي!

أما الأب الذي يتحدث مع ابنته التي على وشك أن تقيم علاقة جنسية مع صديقها، ويناقشها فيما هي مقبلة على فعله واعترافه لزوجته أن الفتاة سوف تفعل ما تريده رغماً عنهما وأن الأفضل أن يكونا على علم حتى يتدخلا لحمايتها إذا ما اقتضت الأمور ذلك فهذا بالطبع يتطلب سخط الجمهور، أما نظراته المتشككة في زوجته وعلاقتها بصديقه فيمكن تجاهلها بسهولة، ربما لن ننتبه لها أصلاً.

هل الفيلم بعيد عن الواقع فعلاً؟

الجميع يصرخ أن الفيلم بعيد عن واقع المجتمع الشرقي المحافظ، وأننا لا نعاني من هذه المشاكل بهذا الانفتاح فلا يجب أن نناقشها أو نستعرضها، وفي الحقيقة هم محقون تماماً، فعلاً مجتمعنا الشرقي عامة والمصري بخاصة لا يعاني من هذه المشاكل إطلاقاً.

نحن مشاكلنا تتلخص في أخ يحرق أخته حيّة نزاعاً على الميراث وتتوسل أمه للقاضي أن يعفو عنه، أخ آخر يختطف أخته ليصورها عارية مع صديقه لابتزازها لتتنازل أيضاً عن حقها في الميراث، زوج يتفق مع صديقه أن يعتدي على زوجته جنسياً ليصورها ويتمكن من تطليقها من دون أي نفقات، وآخر يبتز زوجته بصورها الخاصة لنفس السبب، وبالغ يتحرش بطفلة في مدخل عمارة وتصوره الكاميرات، مراهقة تنتحر لأن ابن عمها يبتزها بصور عارية لها مقرراً أنه «أولى من الغريب»، ملايين من القضايا في محاكم الأسرة، وملايين من المشاكل لا يفصح عنها أحد، هذا هو واقع مجتمعنا، أما ما يحدث في الفيلم ليس هو الواقع فعلاً.

هل هذا معناه أن المجتمع أسوأ من الفيلم أو الفيلم أسوأ من المجتمع؟ نحن لا نملك مقياساً أصلاً لنقيس به الأمور، ولكن ما يجب أن نتعجب له بشدة هو ممارسة الإنكار على نطاق أوسع مما يجب. أنت عندما تنكر شيئاً ما لا يساهم إنكارك في إخفاء هذا الشيء بطريقة سحرية، سيظل موجوداً حتى لو ظللت تصرخ طوال عمرك أنه غير موجود، مجتمعنا يعج بالمشكلات وهجومك على الفيلم لن يغير هذه الحقيقة.

نظرة واحدة على صفحة من صفحات «فيس بوك» المختصة بالمشكلات الاجتماعية التي يرسلها أصحابها بصورة مجهولة سوف تجعلك تعرف ما يحدث حولك، بيئة العمل حولك المليئة بالعلاقات المشبوهة بين أفراد يبدون من الخارج محترمين وهم يمارسون كل أنواع الخيانة كفيلة بأن تفيقك، الطرق العامة والمواصلات التي يبث التحرش فيها عرض مستمر بلا فواصل قادرة على صفعك بالحقيقة، انظر الآن في المرآة سوف ترى شخصاً ما يخفي سراً مشيناً ولا بد من أن يكون له سقطة حقيقية، الفيلم لم يخترع واقعاً موازياً ويقنعك به، هذا هو الواقع. أنت الذي تصر على القيام بدور البجعة بإصرار مثير للإعجاب.

من يحمي شبابنا؟

مم؟ مم يجب أن نحمي شبابنا أصلاً؟ من الحقيقة؟ هل هذه جملة تحمل أي قدر من المنطق أصلاً؟ لماذا يجب أن أحمي ابني من الحقيقة؟ كيف يمكن للحقيقة أن تضره؟ هل نموذج الشاب ذي الميول الجنسية المثلية سوف يضر بابني عندما يعرف أنه موجود في العالم؟ كيف؟ سوف يحب أن يجرب؟ يجرب ماذا؟ الهويات الجنسية والميول ليست موديل أحذية أو قصة شعر، الإنسان إما مغاير الجنس أو مثلي الجنس.

 ثم أن التعرض المبكر أصلاً هو الذي سيحمي أبناءك من هوس التجربة لمجرد التجربة، المراهق الذي يكبر وهو يعرف أن هناك ميولاً جنسية مختلفة عن شكل أسرته وبيئته لن يصبح مهووساً بالفكرة عندما يكتشفها فجأة ولن تلح عليه بإصرار حتى تدفعه لتجربتها لمجرد التجربة وهو مغاير الجنس، والأهم من ذلك أنه يصبح أكثر تقبلاً للاختلاف وبالتالي لن يحمل ضغينة ضد أحد ويترتب على ذلك أنه يصبح أقل عرضة لتكوين عداوات بخاصة أن طفلك هذا لن يظل في حمايتك للأبد، سوف يخرج للعالم يوماً ما وسوف يقابل بشراً مختلفين عنه يجب أن يقبلهم وألا يسيء لهم، إذا لم يكن وازعه في هذا أخلاقياً فعلى الأقل حتى لا يسجن إذا ما كان في بلد يحترم حقوق الأفراد، ثم أن ابنك نفسه أقلية إذا خرج خارج حدود عالمنا العربي، أفريقي عربي مسلم على الأغلب، إذا لم يتعلم كيف يحترم الآخرين فلن يكون هناك سبباً يدعو هؤلاء الآخرين لاحترامه بخاصة إذا كان في بلادهم.

ثم أين دورك كمرب سواء كنت أباً أو أماً؟ أنت مرتعب تماماً من فكرة أن هناك فيلماً سوف يتسلل لأفكار أطفالك ويفسدها، لماذا؟ هل تخليت عن دورك تماماً وأصبح طفلك وحيداً في مواجهة العالم؟ أين أنت من أفكاره ومشاعره وبناء توجهاته؟ لماذا تتخلى عن دورك الأصلي ثم تملأ الدنيا صراخاً أن العالم سوف يفسد طفلك؟ هذا الوقت الذي تستنزفه في محاربة طواحين الهواء لماذا لا تستثمره في تربية طفلك الذي صدعت رؤوسنا برغبتك في حمايته من شرور العالم؟

فيلم أصحاب ولا أعز فيلم مسل، كما كان الأصل الإيطالي أيضاً مسلياً، الأمور لا تحتمل أكثر من هذا، الفيلم لن يغير العالم ولن يجبرك أن تفعل شيئاً أنت لا تريد أن تفعله ولم يخترع مشكلات فضائية، الفيلم هو فيلم، جيد أو سيئ، وأنت؟ قم بواجبك وربي أولادك واحفظ نفسك وسوف يصبح العالم سعيداً.