القسم الثالث: «رجل المرآة»

(1)

كانت البداية في إحدى الأمسيات، عندما كنت أتابع من فوق مقعدي في الصالة، ككل يوم، تبدل الضوء في السماء؛ المتعة الأساسية التي أنتظرها كل مساء. عالم كامل من الأضواء يتحرك أمامي على صفحة السماء، خاصةً عندما تكون هناك بعض السُحب، وفي أيام الصفو، تأخذ متعتي شكلًا آخر، ويصبح المرء مرعوبًا من اللون الأزرق العجيب، الذي لا يمكن الإحاطة باتساعه ولا فهم جماله، وتبدأ النجوم في الظهور واحدة إثر الأخرى، نقاط صغيرة من الضوء المتألق يقترب منك كلما حدّقت فيه. خُيِّل إليّ في بعض الأحيان أنني أستطيع الحديث والتأمل مع كائنات بعيدة.

في إحدى الأمسيات، وعندما كنت أنظر إلى السماء، لاحظت طيفًا يتحرك أمامي، بعد قليل تحققت من أنه يرتدي بنطلون جينز، ويمشي كأنه يتنزه، لم أشأ أن أهتم كثيرًا بتلك الصور التي تتراءى، ثم تتلاشى؛ فقد حدثت لي أمور مشابهة في أوقات سابقة.

كان يأتي من فوق بيوت المدينة، كأنه كان يجلس فوق سطح بيت، وقال لنفسه: «سوف أتمشّى قليلًا في السماء». يعبر فوق المدينة، يقترب من المنطقة التي أسكنها ويمر أمامي، بالقرب من نافذتي، ويمضي دون أن يلتفت ناحيتي.

لم أشعر بالحيرة في هذا اليوم لأنني افترضت أنه نوع من خداع البصر الذي أعرفه منذ أيام صيد السمك، فطول التحديق في الموج يبدل شكلها ويستخرج منها كائنات حية، وبحكم استنادي على حقيقة أن هذه الأشكال من صنع خيالي، لا يُصيبني الرعب، مفترضًا أن خيالاتي هي هواي المحبط في الرسم.

بنفس الطريقة واجهت أول ظهور للرجل الغريب في السماء، لكن ظلالًا من الشك ورّطتني، في اليوم التالي، في حسابات منطقية. كانت الحقيقة البسيطة المرهقة التي ترسّبت في ظني أن هذا الشخص الذي يتجول في السماء هو أنا.

في الأيام التالية انهار كل شيء، انهار السكون الذي بنيته، وأصبحت معلقًا بالمساء، بهذا الشخص الذي يتجوّل هناك لأتحقق منه، لأتحقق من أنه شخص حقيقي، وليس مجرد صورة خلقها خداع البصر. في الأمسيات التالية، فَقَدَت السماء كل الجاذبية التي كانت لها، كنت أنتظر ظهوره لكنه لم يظهر في الأيام التالية أيضًا، كأن انتظاري يُبدِّده.

الشقاء مرة أخرى، وبعث الصور القديمة. بدأت أفكر في «نفيسة»، في الأشخاص الذين يُقاسون الحب والكره صامتين. ثم رحت أنصت لكل ما حولي. سمعت أشياء غريبة تحدث على السلم وفي مداخل الشقق. أحاديث عن الحياة والطبيخ والعمل والأزمات التموينية، وتبدل الوزراء. ما زال الناس يعيشون أشياء الحياة البسيطة، كأن هناك أملاً في الإصلاح. تخلّف تفكيرنا التاريخي هو ما يوقعنا في الوهم بأن هناك حياة أفضل.

لو عرف الناس دروس التاريخ فسيكون عليهم أن يفقدوا كل أمل في المستقبل، ويعيشوا حياتهم كقدر لا فرار منه، قدر تاريخي، فالصدفة هي كل شيء. لو افترضنا، على سبيل المثال، أن الشاب الذي انتحر في مدينة صغيرة منذ عدة أشهر، بسبب فشله في الحصول على عمل، قد وُلد عام 1935، لأخذت حياته مجرى آخر، ربما عمل مذيعًا في الإذاعة أو سافر في بعثة إلى موسكو، أمّا إذا وُلد في فترات المجاعات حيث أكل الناس لحم البشر، فسيكون له قدر آخر.

الصدفة التاريخية هي القدر الذي لا يستطيع شقاء الفرد أو سعادته الفرار منه. لو انتشر الفكر التاريخي على يد علماء مُتبصِّرين لا موظفين حكوميين، لعرف الناس أنهم واقعون تحت نوع من الأقدار لا فِكاك منها.

سمعت ذات يوم على السلم، ضحكات أنثوية رنّانة -كنت أنصت للأصوات كي أهرب من انتظاري- قالت:

– سوف أمرّ مرة أخرى.

ردّ صوت رجالي خشن:

– ابعثيه لي، وسوف أعلِّمه الأدب… انتظري قليلًا حتى تأخذيه معك.

رد الصوت الأنثوي المَرِح:

– لا وقت عندي إنهم ينتظرونني في الكافتيريا… لا أعرف إن كان سيبتلع الطعم.

فقال:

– حاولي، وسوف ترين ماذا سأفعل به.

قالت أخرى بصوت خافت جاد لا يتناسب مع المرح الذي تتحدث به المرأة ذات الصوت العالي:

– أنتِ متأكدة؟

رنت ضحكة صاخبة بها كثير من الغنج والقوة والرغبة في الحياة:

– سوف ترين.

وسمعت صوت نقر الحذاء موسيقيَّا كرنين الضحكة.

كادت أفكاري تضيع، كل سوادي ونفيي، فهذا الحديث، كان يحمل معاني غامضة، كحركة الطبيعة، مُفعم بجوهر خبيء، وكدت أترك مكاني وأنزل لأتجول في الشوارع. جلست في مقعدي، هذا المساء يائسًا، وقد تحولت إلى إنصات كامل، وشعرت بأن هذا هو الوقت الذي لابد أن يأتوا فيه ويقبضوا علي، ويخلصوني من حياتي.

قلت لنفسي: لماذا أنتظرهم؟ سوف أذهب إليهم، وشملني الرعب، فقد كنت على وشك أن أقوم وأرتدي ملابسي وأذهب لأعترف بالتفاصيل الكاملة لجريمتي.

لم أكن أنظر إلى السماء، لكني شعرت به هناك، رفعت بصري فلمحته آتيًا من نفس المنطقة، من فوق تلك البيوت البعيدة، بنفس البنطلون الجينز والسويتر والكوفية؛ إنها نفس الملابس التي أرتديها. يمشي في نفس مساره، له نفس الهيئة الشاردة التي يُخيَّل إليّ أنها لي، عندما أسير في الشارع متروكًا لأفكاري وشرودي. اقترب من نافذتي، لكنه لم ينظر تجاهي ومضى في سيره كأنه لا يعرفني.

بقيت ليلتي غير قادر على الفهم، لم أنم غير دقائق، وطول الوقت أحدق في السماء، علّه يعود مرة أخرى يساعدني على الفهم والتحرر. الطريق بلا نهاية، محفوف بمخاطر ليست في الحسبان، وعرفت أن ما جئت لأجله لن يتحقق أبدًا، لن يتحقق الصمت، والتلاشي.

ظهرت بوادر الفجر في السماء. الصفحة الزرقاء مغسولة كأن الليل ولدها من جديد. سماء أخرى، لها طابع آخر متفتح، غير سماء المساء. سماء من البكور تستيقظ فيها الروائح، وأدركني حنين إلى النزول والتجول في الضوء الذي يتفتح في الشوارع، لم أدع مجالًا للتراجع، ارتديت ملابسي ونزلت. أقول لنفسي إنني فقط سوف أشاهد ظل سماء الفجر في الشوارع، وأرى بائعي الفول، وتحرُك أول الأتوبيسات، والعمال وهم في طريقهم إلى أعمالهم، والجنود الذين يغالبون النوم في الطريق إلى معسكراتهم.

رحت أتجول في الشوارع، أتشرّب بعيني لون الأسفلت والبيوت وسكون محطات الترام، والشجر المغسول بالندى، والأتوبيسات القليلة التي تنطلق مسرعة. قرّبني كل هذا من الإحساس الذي تحمله السماء؛ كان شيئًا جديدًا يُولد في هذا الكون، وأنا بعيد مُحاط بعزلتي.

لم أستطع أن أقاوم رائحة الفول وأكلت ساندويتشات على ناصية شارع صغير، وسمعت التحيات الصباحية الودودة لناس عابرين، وجلست على مقهى وشربت شايًا. كنت الشخص الوحيد في البداية، وبعد قليل، بدأ الروّاد يتوافدون، وشممت رائحة المعسل، والسُعال الذي يصحب أول مرات التدخين، ثم بدأ خوفي يشتعل، كنت على الحافة الآن وعليّ أن أهرب، عدت إلى مخبئي ونمت نومًا عميقًا مثل خلق الله.

صحوت مضطربًا على طرق على الباب، وخالفت عاداتي منذ أن سكنت هنا، وفتحت الباب دون انتظار. وجدت امرأة في لباس أسود، قالت: «أليست هده هي الشقة رقم 75»؟ قلت: «77». بدت أنها تعرفني وهي تقول: «آسفة».

ظلت نظرة المرأة مغروسة في دمى، تُحدِّق في أعماقي، وبقيت واقفًا فترة، مُستندًا بظهري على الباب المغلق. عرفت في هذا اليوم أنني فشلت تمامًا، وقلت لنفسي لو استمر توتري وقلقي، فإنني سأسلم نفسي لا محالة. ولم يخطر على بالي أنني لم أتأكد بعد من موت «حسين».