في كتابه «الفيلسوف وفن الموسيقى» يصف «جوليوس بورتنوي» الدور الذي لعبه الفلاسفة في تاريخ الموسيقى بالسلبي والمذموم، لما فيه من إخضاع للموسيقى وجماليتها تحت سطوة العقل والمنطق، ممّا شكّل عقبة أمام تقدم الموسيقى [1]. ولكن قبل الخوض في تفاصيل هذا الدور وأبعاده، دعونا نطرح سؤالًا -رغم بداهته- يستحق الوقوف عنده: ما هي الموسيقى؟

إذا عرّفنا الموسيقى بطريقة مباشرة ومبسطة، سنجد أنها عبارة عن أصوات إيقاعية ونغمية منظمة، لكن هل هذه الأصوات المنظمة وحدها تُمثِّل الموسيقى؟

يجيب «جوليوس» في كتابه بـ «لا»، فهو يرى أنه «من واجبنا ألّا نتصور أبدًا أن هذه الرموز هي الموسيقى ذاتها، وإلّا كنّا نخلط بين الرمز وما يدل عليه. فالموسيقى هي ما يُنتِجه العازف بالأنغام والإيقاعات على آلته، وهي في أساسها لحن وإيقاع يثير انفعالاتنا، ويُوقِظ خيالنا، وقبل هذا كله، فالموسيقى هي ما نضيفه نحن أنفسنا على هذه الألحان والإيقاعات من تجربتنا الخاصة ومن آمالنا وأمانينا». [2]

إذن، فالموسيقى ليست فنًا قائمًا بذاته -إن صح التعبير- فهي لا تكتفي بالدور الذي يؤديه صانعها، لا تكتفي بمبادئها وقواعدها الأساسية، تحتاج إلى طرف ثانٍ يُكمِّل دور الصانع الأول (الفنان)، هذا الطرف هو المتلقي الذي بدوره يتفاعل معها ويُضفي عليها شيئًا من تجربته التفاعلية الخاصة.

ومن هنا يمكننا القول: لا توجد موسيقى حزينة أو سعيدة، نحن المتلقون منْ نُضفي هذه السمة على الموسيقى، من خلال ما تثيره فينا من مشاعر وانفعالات. [3]

الموسيقى والكون

اعتبر الفلاسفة أن الموسيقى نقطة انطلاق لفهم طبيعة الكون، وتمهيدًا لدراسة الفلسفة، وقد رأى أفلاطون وأتباعه في الموسيقى فنًا يُحاكي الواقع، بينما جعل أرسطو منزلة الموسيقى تعلو على الواقع.

ربط أفلاطون الإيقاعات الموسيقية ربطًا وثيقًا بالكون والعلاقات بين البشر؛ فالعزف والإيقاع الناشز بالنسبة له يؤديان حتمًا إلى غياب الانسجام والأُلفة بين البشر. فهو يرى أن للإيقاع الموسيقي أثرًا كبيرًا على النفس البشرية وانفعالاتها، ومن هنا انبثق اهتمامه وحرصه الشديدان على أهمية تسخير الموسيقى لمصلحة الفرد وتقويم سلوكه الأخلاقي.

تطويق الموسيقى

ناقش أفلاطون في كتابه «الجمهورية» عددًا من المبادئ والآراء الفلسفية، التي وضعها لتقييم وتصنيف قيمة الموسيقى، ومنها:

  1. التأثير الأخلاقي للموسيقى، وتعني مدى ميل الألحان والإيقاعات إلى زيادة الفضائل أو الرذائل في نفس المرء.
  2. التأثير النفسي للموسيقى، أي قدرة الموسيقى على تعزيز وتثبيط معنويات المتلقي.
  3. ضرورة قيام علاقة سليمة بين الأنغام والكلمات، وإيثار الموسيقى المصاحبة للغناء على الموسيقى الخالصة في معظم الأحيان.
  4. الشك في قيمة التجديدات الموسيقية، والنظر إليها بعين الحذر على أساس أن التجديدات في هذا المجال قد تؤدي إلى اضطراب في النفوس، وبالتالي إلى اختلال في نظم الدولة. [4]

كان لهذه الآراء تأثيرها الكبير على رأي الكثير من الفلاسفة عن الموسيقى ونظرتهم السلبية لها، ومنهم الفيلسوف الألماني «أوسفالد شبينغلر» الذي رأى أن الموسيقى ليست إلا وجهًا للحضارة الغربية، والتي باعتقاده تشهد تدهورًا كبيرًا، وأن الفن لاسيما الموسيقى قد انتهى زمنه. [5]

ولكن في المقابل، هناك قلة قليلة من الفلاسفة ممّن رفضوا ربط الأخلاق بالموسيقى، ومنهم تلميذ أرسطو «أرسطو كسينوس»، حيث إنه لم يقبل أي معيار ميتافيزيقي أو أخلاقي أو حتى رياضي لتقييم الموسيقى، واكتفى بالقيم الإنسانية الجمالية للموسيقى. [6]

امتد تأثير آراء أفلاطون الموسيقية، التي ناقشها في كتابه الجمهورية، إلى قوانين الكنيسة والدولة، حيث تم اعتماد كل من تلك الآراء كمبادئ جمالية أساسية للموسيقى. وكان ذلك جليًا وواضحًا في فتوى «البابا بيوس» أن هدف الموسيقى الحقيقي هو «زيادة فعالية النص حتى يتسنى له أن يُحرِّك في نفس المؤمن مشاعر التقوى بمزيد من اليسر». [7]

ونلاحظ من آراء أفلاطون الموسيقية أنه يضع على عاتق الموسيقى مسئولية أخلاقية، ويربط الذائقة الموسيقية بسلوك الفرد ومستوى تعليمه؛ فأفضل أنواع الموسيقى عنده هي تلك التي تُبهِج الشخص الفاضل خُلقًا وتعليمًا، أي أنه يضع معيارًا أخلاقيًا لتقييم جودة الموسيقى، مُتجاهلًا تماًما الجانب الجمالي فيها، حيث ربط أفلاطون الموسيقى بتقويم سلوك الفرد.

لم يكتفِ أفلاطون بتسخير الموسيقى فلسفيًا وأخلاقيًا، بل عارض أيضًا –بشدة- المحاولات الرامية إلى تجديدها، بحجة أنها قد تُلحِق الضرر والفوضى بالدولة، بحسب زعمه. [8]

هل تخضع الموسيقى للأخلاق؟

أخضع الفلاسفة، وعلى رأسهم أفلاطون، الموسيقى إلى العقل، وبما يتماشى مع تعاليم فلسفته، فكانت النتيجة تطويق الموسيقى وحصرها في زاوية مُحددة.

لكن الحقيقة أن المهمة التي أوكلها الفلاسفة إلى العقل في هذا السياق لم يكن العقل مُؤهلًا لها، وليست من اختصاصه في شيء؛ ذلك أن الموسيقى تقوم في جوهرها على المشاعر والانفعالات وليس المنطق أو التحليل.مع ذلك، فإن آراء أفلاطون الفلسفية وربطه الأخلاق بالموسيقى تدفعنا إلى طرح السؤال التالي: هل ثمة علاقة تربط الأخلاق بالموسيقى؟ وهل هناك موسيقى جيدة وأخرى سيئة من الناحية الأخلاقية؟

في مقالته «الأخلاق والموسيقى» ذكر الكاتب «هالبرت هـ. بريتان» أنه من الصعب التنبؤ بالقيمة الأخلاقية للموسيقى، لافتقارنا إلى معيار واضح وصريح يمكن الاعتماد عليه، هناك موسيقيون جيدون وآخرون سيئون، لكن هذا وحده لا يخبرنا بشيء حول القيمة الأخلاقية للموسيقى.

من المهم إذن أن نُفرِّق دائمًا بين الصانع والصنعة، الموسيقى وصاحبها (المُوسيِقي)، لأن هذا شيء وذاك شيءٌ آخر، ولا ينبغي الخلط بينهما؛ فالموسيقى لا تمثل إلا نفسها، نغماتها، إيقاعاتها، والمشاعر التي تثيرها في نفس المتلقي.

إذن، فمحاولة التقييم الأخلاقي من خلال ربط المُوسيِقي بموسيقاه غير مجدية وغير سليمة تمامًا.

بقي أمامنا خيار واحد وهو تقييم الموسيقى لذاتها، وهذا بطبيعة الحال يُحيِلنا إلى حديثنا في بداية المقال عن طبيعة الموسيقى وماهيتها ووظيفتها، أو الدور الذي تلعبه. الموسيقى كسائر أشكال الفن، جوهرها جمالي، وهي غالبًا ما تُخاطِب مشاعرنا وعواطفنا بطريقة مباشرة وبلغة مفهومة لدى المتلقين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم.

إن تجربة الاستماع للموسيقى هي تجربة جمالية في المقام الأول، ولا يمكن تقييمها وتصنيفها إلا من هذا المنطلق.

إن مستمع الموسيقى له الحق أن يترك الجمال النغمي والنماذج الإيقاعية لحركة اللحن تسحره وتَخلب لبه، ومن الواجب خلال الاستماع ألّا يكون هناك شيء له قيمة سوى المتعة والنشوة التي تثيرها فينا الموسيقى، لأن هذه هي طبيعة التجربة الجمالية. [9]

المراجع
  1. جوليوس بورتنوى، «الفيلسوف وفن الموسيقى»، ترجمة: فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، القاهرة، ص298.
  2. المصدر السابق، ص313.
  3. المصدر السابق، ص314.
  4. المصدر السابق، ص6.
  5. المصدر السابق، ص303.
  6. المصدر السابق، ص305.
  7. المصدر السابق، ص260.
  8. المصدر السابق، ص268.
  9. المصدر السابق، ص318.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.