حوار أجراه محمد عثمانلي، الباحث في مجال العثمانيات، مع مصطفى عبد الظاهر، الكاتب والمترجم والباحث في العلوم الاجتماعية وتاريخ الشرق الأوسط.

في زمان حسّاس من الصعوبة أنّ تنفكّ فيه ثقافة الشعب العربي عن دينه الإسلامي، ومع مطالبات نخب محسوبة على التيار الإسلامي بترسيخ المرجعية الإسلامية في الحياة، ماذا يمكن أن يعني مصطلح «المؤرخ الإسلامي»؟

«مؤرخ إسلامي» بأيّ معنىً بالضبط؟ أهو متخصص في التاريخ الاسلامي، أم مؤرخ ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي؟ لو سنتحدث عن التخصص، فقد نجد أساتذة متميزين في مصر، على سبيل المثال، متخصصين في التاريخ لكنهم ليسوا مؤرخين، لا من ناحية المعرفة، ولا من ناحية المنهج، وبهذا المعنى سيصبح الدكتور هشام جعيط على سبيل المثال مؤرخًا إسلاميًا، ولا أعتقد أن هذا سيتوافق مع هدف هذا المفهوم. ولو سنتحدث عن كونه «منتمياً إلى الإسلام السياسي»؛ فقد لا نجد سوى أسماء معدودة في التاريخ الحديث كله. طبعًا هناك إسلاميون «كتبوا في التاريخ» مثل خالد محمد خالد، وأحمد رائف، وراغب السرجاني وغيرهم، على تفاوت اهتماماتهم ومستوياتهم، لكن عملهم قد قام على إثبات ما لا يحتاج إلى إثبات بالنسبة لهم. التعامل مع التاريخ على أنه «أمثولة» أو وعاء للأمثلة والعظات، هذا قد يخدم موقفًا دعويًا أو تبشيريًا، لكنه لا يعد منهجًا للتأريخ. هناك احتمالان آخران قد يندرج تحتهما معنى «مؤرخ إسلامي» الأول: ينتمي إلى مشروع إسلامية المعرفة، الذي بلغ أوجه في تسعينيات القرن المنصرم، وهو، في رأيي، مشروع أيديولوجي بلا مضمون. والثاني: أنه قد يندرج ضمن طموح نقد الاستشراق، وهذا أمر جيد، لكنني أعتقد أنه قلما تحرر من ثنائية شرق/غرب، التي اعتمد عليها الاستشراق نفسه.

أين إذًا مكانة نسبة «الإسلامي» من «التاريخ»، أو ماذا يمكن للإسلامي أن يمثّل للتاريخ؟

الإسلامي في التاريخ سيكون كالقومي في التاريخ، أيديولوجي، وهذا يعني وجوب تجاوزه من حيث التعريف. بمجرد الاستقرار عليه سيتم تجاوزه. الكتابة التاريخية فيها ما يكفيها من معضلات منهجية، ولا ينقصها الأيديولوجيا في حقيقة الأمر. مثلًا كلمة مؤرخ ماركسي لها معنى، أما مؤرخ ليبرالي، فلا. لأن الماركسية مادية تاريخية، والمادية التاريخية نظرية في التاريخ بالأساس خرجت منها نظرية سياسية.

أتعني أنه لا وجود للمؤرخ الليبيرالي؟

بالطبع هناك مؤرخون ليبراليون، سواءً من حيث المنهج أو الأيديولوجيا السياسية، في التأريخ المصري المعاصر اشتُهر الدكتور محمد شفيق غربال على سبيل المثال. ومن حيث المنهج، ارتبطت الليبرالية بإعلاء دور الفرد في صناعة التاريخ، التأريخ للأبطال والملوك وغيرهم، لكن هذا المنهج قد تعرض لنقد لا يُبقي من التأريخ الليبرالي إلا حكايا الأفلام.

هل يمكن تأسيس طريق موضوعي في الكتابة التاريخية؟

الموضوعية أمل أكثر منها منهج. لقد علمتنا الفلسفة الحديثة، منذ عرفنا النقد الكانطي في القرن الثامن عشر، أن الموضوعية في العلوم الاجتماعية أمر مستحيل تقريبًا، ولا يمكن لعلم «اجتماعي» كالتاريخ وعلم النفس والفلسفة والقانون أن يقوم بدور العلوم الطبيعية، أو ينتحل مناهجها، لأنه ببساطة يدرس البشر. يمكن للعلم الطبيعي التجريبي أن يدرس ظاهرة بمعادلة رياضية، بموضوعية، ومن ثم، يكون قادرًا على التنبؤ بما قد يعتريها في لاحق أمرها، أما العلوم الاجتماعية فلا.

ما مدى موضوعية مناهج التاريخ المادية إذًا؟

المادية كمنهج الحوليات، منهج له افتراضاته النظرية، يمكن تخطئتها، وهذا ما يجعلها منهجًا، أما التجرد والموضوعية، فهذا محال، كل تاريخ هو تاريخ معاصر كما يقول هيدن وايت (Hayden White)، لأنك أبدًا لن تتجرد من السرد حينها.

بما أن الموضوعية تستحيل، ومن باب التقليل من كل ما يخالف الموضوعية، فما برأيك أفضل وصف للكتابة التاريخية «غير الموضوعية» لتجنّبها؟

الموضوعي عكسه الذاتي، المؤدلج، غير العلمي، الغائيّ، الاسترجاعيّ، والاسترجاعية (Retrospective) هي ما يقع فيه كل مؤرخ مؤدلج.

يعني أن نضع هدفًا أمام ناصيتنا بالابتعاد عن هذه المساوئ المتعددة هو أفضل من ادّعاء الموضوعية برأيك، ذلك لأن الموضوعية أصبحت دعوى هلامية زائفة؟

طبعًا، لكني مع أن نكون منهجيين قبل كل شيء، حتى لو تبنّيت أسوأ المناهج، سيكون لديك شيء من النقد الذاتيّ يمكنك من رؤية قصورك الذاتي، والإقرار بعيوبه. كل المناهج التاريخية «تاريخية». بمعنى أنها بنت زمانها، نتجت عن تاريخ، وتحاول أن تدرس زمنًا آخر، ونبعت من إشكاليات خاصّة بزمانها، لتفرضها فرضًا على أزمنة أخرى. خذ مثالًا سؤال السلطة في الإسلام، لقد تعرّفنا على إشكالية اسمها «الدولة» (l’état) في العصر الحديث، فلأسباب شرعية، اتجهنا إلى البحث عن موقف السلف من السلطة، وكأنّه كان لديهم سلطة ومؤسسات وفصل بين السلطات، ولديهم معها مشكلة واضحة وقدموا حلولًا أيضًا، هذا الخلط الكبير هو ما يسمى بالاسترجاعية أو خلط الأزمنة (anachronism). وإذا حاولت الإجابة على مثل هذا السؤال من خلال منهج، أي منهج، ستكون واقعًا في مقولة منطقية أولية، انطلقت منها دون وعي. هذه المقولة هي ما شكّلت بحثك، الذي ستضفي عليه طابعًا موضوعيًا بالتأكيد.

في إطار حديثك عن أن منشأ المنهج من أسئلة حاضرة لتجيب عن قضايا ماضيّة، هل يمكن اعتبار هذا أيضًا نوعًا من الاسترجاعية؟

طبعًا، يجب أنْ ننطلق من نقدنا لذاتنا من البداية، ما الأسباب المعاصرة التي قد تدفعنا للتأريخ لهذا الموضوع بعينه؟ لقد رأينا محاولات لاستكشاف مفهوم الاشتراكية في الإسلام المبكر، ومحاولات لفهم الأزمات «الدستورية» في الدولة الأموية. بالطبع يعلم الباحث الذي قال بهذا أن الاشتراكية والدستور مقولات حديثة، ولديه دافع لاستكشاف مقولات أخلاقية دينية يمكنها أن تساعد في حل إشكالات، لكن النتيجة أن الذي لديك بحث غائي (teleological).

فهل نحن هنا أمام تصحيح مقولة «دعوى الموضوعية» إلى الاقتراب قدر الإمكان من الموضوعية عبر تبنّي المنهج؟

نحن أمام محاولة لِتَفهُّم سبب ميلنا إلى ما نسميه بالموضوعية. على سبيل المثال، يمر البحث التاريخي بمراحل. جمع المصادر ومقارنتها، هذه لا تحتاج إلا إلى أمانة وبذل جهد. بعدها تكون محاولتنا لفهم أي موضوع بعينه، من خلال هذه المصادر، محاولة للربط بين عناصر مختلفة على طريقة التمرحل أو السبب والمسبب، لماذا مثلًا نبوّب أبواب التاريخ على أسماء الخلفاء؟ لأننا في الواقع نكتب تاريخ الخلفاء وأوامرهم، لا نكتب تاريخ العامة أو تاريخ الزراعة، ولأننا نعتقد أن المهم في هذه المرحلة هو «عاش الملك.. مات الملك»، وأن التاريخ يصنعه العظماء. كان تاريخ إسرائيل مثلاً يكتب «سرمديًا» كتاريخ قومي بالمعنى التقني، يدعي أنها دولة ذات جذور ممتدة في التاريخ بغير بداية. أصبحت المهمة التاريخية بعد ذلك، التي قام بها المؤرخون الجدد، نقد هذه الرواية، مما سيؤدي إلى نقد القومية الصهيونية، عن طريق الكشف عن معلومات ووثائق جديدة تدحض الفكرة القديمة.

ما المنهج، أو ما المقصود من الربط بين اختيار المنهج والوصول إلى الموضوعية؟

أقصد أن عليك اختيار أسئلتك جيدًا، لأنها ستحدد ما سيحكم على المنهج. المنهج: ما يمكنك من طرح سؤال جيد. هناك ملاحظة ذكية لزيجمونت باومان ذكرها في أحد حواراته قائلًا: «ليست النظرية/المنهج سوى إضاءة لبعض النقاط وإخفاء للبعض الآخر». هناك نقاط من الحقيقة ستختفي حتمًا، أو أنك ستجهلها ببساطة، فبالتالي عندما تختار سؤال «الجذور» (origins)، متى بدأت أمتنا في الوجود، متى بدأنا في تشكيل وعينا، أنت هنا مدفوع بقوة مساءلة، هناك شيء ما في عالمك يدفعك إلى الإجابة على هذا السؤال، كما يقول تيموثي ميتشيل (Timothy Mitchell): «يبدو أنه لكي تكون حديثًا يجب أن تكون قديمًا أيضًا». بمعنى أن تخترع تراثًا وجذورًا من شكل معين لتدعيم ما يجمع الأمة ثقافيًّا؛ وبالتالي ستسأل التاريخ عن موضوع مخترع لن تخترعه من العدم، ستجمع إجابات/إضاءات من كل حدب؛ لدعم وجهة نظرك القبلية، وبالتالي أنت لست في حاجة هنا إلى التاريخ، أنت تجمع أمثلة على وجهات نظر مسبقة.

إذًا كيف يمكن أن نؤسس للمنهج؟ وما علاقة الفلسفة بالمصادر التاريخية؟

بشكل أكثر واقعية، لدينا الآن سؤال وافتراض بُني عليه السؤال، وقوة مساءلة، وما هو متاح من مصادر؛ ستجد أنّك بحاجة إلى قوّة نقدية هائلة، قبل التفكير بأي منهج، هذا لا يعني أن المنهج غير مهم، فأنت بحاجة إلى مساءلة افتراضاتك، فالمنهج هنا هو مساءلة ما قمت بافتراضه. الأساس في المنهج هو رؤيتك للحياة، يذكر أستاذ علم الإناسة اللبناني غسان الحاج في مقالٍ عن طلاب الدكتوراه لديه، أنهم كانوا يأتون بلا رؤية للعالم، ويبدو أن على الأساتذة إمداد الطلاب برؤية للعالم ثم تعليمهم المناهج، فرؤية العالم هي ما يحتاجه الباحث، من أجل وضع تصوّر عن الأولويات، وتكوين فلسفة ثم مساءلة المصادر. لذلك أرى حتمية الفلسفة بالنسبة للتاريخ، فالفهم التاريخيّ لا ينفصل أبدًا عن الفلسفة، بالرغم من أن الفلسفة علم تجريدي، ونظري فيه الكثير من الأدبيات التي قد لا تفيد إلا المتخصص. وجهة نظري أن فلسفة التاريخ هي أمّ العلوم، كل تفكير سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي هو تفكير مبني على رؤية -واعية كانت أم غير واعية– للتاريخ، فالشيوعية مبنية على رؤية معيّنة للتاريخ، وعن عقلانية التاريخ، والإسلام السياسي مبني على رؤية للتاريخ، ولقد كتبت دراسة مطوّلة حول «علاقة فلسفة التاريخ بالأيديولوجيا عند سيّد قطب»، والليبيرالية مبنية على مفهوم للتاريخ. دون الفلسفة ستقع في فوضى المصادر، أثناء جمعها وتصنيفها، وتبوّب المراحل بلا منهج ولا نظرية، وبلا طائل في النهاية.

كيف يمكن التمثيل على هذا من خلال الكتابة التاريخية للعهد العثماني في مصر مثلًا؟

لو نظرت إلى أسباب البحث في التاريخ العثماني في مصر، ستجدها أسبابًا متبانية، ولكنها واضحة جدًا، فالتنويريون يبحثون فيه من أجل قولهم بأننا في مرحلة انحطاط، واتباعنا للأوروبيين سيخرجنا من هذه الحالة، والعصر العثماني كان بداية الانحطاط. آخرون كانوا ينتقدون الاستعمار، درسوا التاريخ العثماني من أجل القول بأنا كنّا على نهضة من الأمر، وكان لدينا الجبرتي والعطّار والكلنبويّ، وأن الاستعمار هو الذي قضى على تلك الحضارة، ففي النهاية لا أستطيع القول إن هؤلاء موضوعيون أو غير موضوعيين، ولكنهم بالفعل يستخدمون مناهج، مثلًا هذا الأخير هو منهج نقد الاستعمار، الذي قادته في حقل التاريخ العثماني أعمال بيتر جران ونيللي حنا ورءوف عبّاس وتلامذتهم، والذي يتركز على أن المركزية الأوروبية قد حرمتنا خيرات كثيرة. في هذا السياق علينا أن نختار التساؤل البحثيّ الأدق؛ هل كان الجبرتي والزبيدي يمثلان نهضة أم لا؟ أم نتّجه إلى السؤال الأهم؛ ضمن البحث في فترة ما قبل الاستعمار، والنظر في الأسباب الأدق للانحطاط دونما رمي كل الأسباب فقط على كاهل الاستعمار؟ مثلًا يعتبر الموضوع الأهم عند البعض هو الحديث عن «التطور اللامتكافئ» وأن الرأسمالية عندنا لم تتجذر بسبب أوضاع داخلية وعوامل هيكلية لم تساعد على التنمية؛ عندها هل نحن بحاجة إلى السؤال عن الجبرتي أو العطّار أو غيرهما؟ أعتقد هنا أن الحديث سيكون بلا معنى ولا موضوع. ولو قبلنا بأن الاستعمار هو الأزمة، فحينها ماذا نعني بكلمة «الحضارة» و«الأزمة»؟ هل الحضارة عبارة عن الثقافة أم وجود النخبة العلمية أم إصدار الكتب أم البناء المعماري؟ ولو كانت الحضارة تعني هذه المصطلحات، فحينها سنبحث في تاريخ كلّ منها، على سبيل المثال؛ عن تاريخ البنية المعماريّة، وحول تاريخ النخبة العلمية ودورها في المجتمع وتأثرها من السياسة، من مثيل ماذا أنتجت لنا، وما إصداراتها في ساحة العلم والمعرفة، وما الأسس التي أقامت عليها مفهومها في رفد «الحضارة» التي نبحث عنها في بين جنبات الاستعمار.

هل تقصد المزيد من بحوث ودراسات التاريخ المصغّر (Mikrogeschichte)؟

القصد هنا أنني لا أقول بتخطئة كل المناهج عدا منهجي، فقط أحاول التفرقة بين المنهج والأيديولوجيا. يمكنني -كمثال- أن أعدد لك عشر أطروحات منهجية في فهم نشأة الشرق الأوسط، ترتكز كلها على فلسفات، تعود بأصل نشأة ما يُسمى الشرق الأوسط، كمقولة، إلى بدايات شديدة التباين، بداية من الاستعمار ونشأة الرأسمالية، إلى تاريخ الأغاني الشعبية والخرائط والملاحة البحرية وتجارة الشاي. وكذلك، في الأطروحات التي تناقش بداية العصر الحديث، ردها البعض إلى موضوعات كبرى مثل الثورة الصناعية، وأفكار هيجل، نزولًا إلى موضوعات مثل «الأسكتلنديين وبناء العالم الحديث». هذه فكرة المنهج، فمثلاً لو رأينا أن الحضارة تعني المنجزات الثقافية، فبالتالي سأكتب التاريخ للمنجزات الثقافية في العصر محل الدراسة، وهنا يتكوّن المنهج، وهو هنا قابل للدحض والنقد. كذلك يمكن الحديث في هذا السياق عن «التاريخ من أسفل»؛ أي الفرض الذي يقول إنّه ليس هناك تاريخ سوى تاريخ الناس، أي التاريخ الاجتماعي، بترك تاريخ الملوك والسياسة، وفحص حياة الناس ومقولاتهم وما شاكل ذلك من مباحث التاريخ الشفوي والتعرف إلى الأحداث عن قرب، والاستماع إلى حكاياتهم عن أنفسهم وبلسانهم، وعدم الاكتفاء بالتعرّف إليهم من خلال مدونات المثقفين وعلية القوم التي لها علاقة سياسية تؤثر عليها السياسة والسلطة، وكل ذلك في سبيل الحديث عن أهمية سؤال ما وأهمية موضوع ما.

يقترب هذا كذلك من دراسات التاريخ الحولياتيّ (École des Annales)، صحيح؟

نعم، وأضيف أن الحوليات كذلك كانت ترى المجتمع ظاهرة شديدة التركيب، وأنّه ليس ثمّة سببية، أي ليس هناك ما يتّبع العبارة البسيطة العامة؛ بأن ليس هناك «شيء» (Quelque chose) يقود إلى شيء، على النقيض من المادية التاريخية التي تقول، إن نمط الإنتاج الاقتصادي هو ما يحدد شكل المجتمع، وعند دراسة التاريخ في هذه الحالة تجب دراسة هذا النمط، وهنا بيّنت مدرسة الحوليات أنّه في العصور الوسطى لم يكن الاقتصاد بهذه الأهمية، وبالتالي يحب أن ندرس كل نطاق من نطاقات الحياة على حدة، الأخلاق والعادات وتاريخ الكتابة. من هنا انطلق الحديث عن تاريخ الذهنيات (Psychohistory) ثم تاريخ الأفكار، ثم تاريخ الحياة اليومية، وكل هذه المناهج تطورت بشكل ديالكتيكي، نتاج تطوّر الفلسفة والجدل الفلسفي بطبيعة الحال، وهذا ما لا ينفصل عن عملية كتابة وتدوين التاريخ، كما تحدثت أعلاه، فالفلاسفة عندما يتحدثون عن تاريخ الأفكار، يتساءلون حول مدى قرب هذه الأفكار من الحياة الاجتماعية، وفي حال الحديث عن الذهنيات، يستاءلون هل لهؤلاء الناس أسلوب معيّن في التفكير يمكن رسم ملامحه مثلًا، ومن هنا كان منهج دراسة الحياة اليومية.

عندها يمكن القول إنّ عملية البحث عن منهج هي طريقة في التفكير النقدي؟

أقول هنا، إن كان الباحث ملزمًا بشيء، فهو ملزم أمام نفسه بأن يسائل أدواته ومنطلقاته وافتراضاته القبليّة، بل ويتعدّى ذلك إلى مساءلة أسئلته ومشكلاته البحثية من قبيل؛ لماذا أبحث في هذا الموضوع؟ هل أنا مهتمٌّ به؟ وماذا سيضيف بحثي للتراكم العلميّ الذي أُنتج في هذا السياق.

لو تعطينا نظرة عامة عن تاريخ الموضوعات؟

هي مثل الحديث عن تاريخ الجنون وتاريخ الموت، والجنس، والسجن والمحاكمات، هذه تنويعات فينومينولوجية ظاهراتية، راجعة إلى النظر في فلسفة الحياة، تابعة للتيار الذي ابتدأه هوسرل. بالطبع لا يمكنني أن أساوي بين هوسرل وميشيل فوكو، لكن هناك تشابهاً كبيراً يستحق النظر.

إذا أردنا الحديث بشكل مختصر حول الكتابة الشعبية للتاريخ العثماني، كظاهرة مشهودة، وعلاقتها بتيار ما بعد الكولونيالية، يعني بلغة أخرى، هل نشهد حالة تلاقح بين التيار الشعبي والآخر الما بعد كولونيالي ومن ثم تكوين نوع من «التطور الطبيعي» الجدلي الهيغلي لكتابات أمثال علي الصلابي وراغب السرجاني وإنتاج نمط مستجد منها؟

لا يمكن نسبة كتّاب التاريخ الشعبي المعاصر لدراسات أسبق، يعني أن تيار ما بعد الكولونيالية الذي ابتدأه أمثال بيتر غران ونيلّي حنّا ورؤوف عبّاس هو تيار سابقٌ، وقد أثّر بالتأكيد على التدوين غير المنهجي للتاريخ عمومًا الذي نراه في أيّامنا، كما يمكن وصف ذلك التدوين حول التاريخ العثماني بأنّه تيار ثيولوجي رومانسي (theo-romantic)، أي أنهم أناس في لحظة من اللحظات، قرّروا أن ثمّ مجد عثماني ما قد نُسِيَ، وأنّه يجب استعادته، وقد تأثر هذا كذلك بكلام الإسلاميين حول سقوط الخلافة واستعادتها، وهذه ظاهرة أيديولوجية. وفي الحقيقة قد يكون ثمّة نوع من الاختلاف اللفظي بين المدوّنين الأسبق لهذا التأريخ، كالتطور في كمّ القراءات، وعدد المعلومات، وطرح المواضيع ونقدها؛ نتاج التطوّر الأكيد في التفكير بين جيلين من المؤرّخين، إلا أنها بالمجموع تحوي كنهًا معنويًا واحدًا، وأهدافًا وغاية واحدة.

أيمكن القول بافتقار هذا النوع من الكتابات إلى الفلسفة -كنقطة قوّة- إبّان تدوينها للتاريخ، أم أنّها في حالة عدم تصالح مع الفلسفة من الأساس؟

الكثير من المثقفين في العالم العربي يعتبرون الفلسفة أيديولوجيا، ويرجون تجاوزها، بحسن نية أو بقلة معرفة، هذا أمر له أسبابه التي لا يتسع لها المقام. على سبيل المثال، لو فتحنا أي كتاب تاريخ تعليمي أكاديمي، ونظرنا في محتوياته؛ نجد أنها لا تفسر ظاهرة ما، الكتاب يقول «حدثت حرب كذا» ثم يقول: أسباب الحرب: هناك أسباب عسكرية وأخرى سياسية وثالثة أسرية ورابعة مزاجية وخامسة عاطفية..إلخ، هكذا بشكل معمّم. فأين هو السبب المركزي مثلًا، يعني لو أننا نبغي «الإصلاح»، عمّ سنبحث بالتحديد؟ هنا قام بتعديد أسباب متعددة كثيرة لظاهرة واحدة، هل لهذه الأسباب بداية، سبب قاد إلى آخر، أم يمكن قياسها على الخلق من العدم وأنها ظهرت جميعًا من انفجار ذرة لا يمكن التساؤل عنها؟ وهنا دور الفلسفة التي ستتكلم عن السببية والعليّة والتمحيص الدقيق لمجريات الأمور. المشكلة الكبرى، أنني أذكر أن أحد الباحثين قد أخبرني أن هذا بالتحديد معنى الموضوعية عنده، يقصد سرد كافة المعلومات الممكنة، وتصنيفها إلى موضوعات، دون تدخل.

بالطبع هذا مفهوم ساذج للموضوعية، ولا يعني كذلك عدم اتّباع طريقة تفكير ما، أو منهج ما كما تقدّم.

نعم، فهذه الطريقة في التفكير، أقصد في تسطيح المفاهيم، وعدم طرح الأسباب والعلائق بينها، وترك فلسفة التاريخ، كعملية نشطة، إلى التدوين العشوائي للتاريخ، مؤداها هو إعدام كل فهم حقيقيّ، وعندها تكثر الكتب كمًا لا نوعًا، وتنتشر عدوى النقل والنسخ في البحوث والمؤلفات، وتزداد الترجمات من غير منهج أو خطّة للترجمة، ويدمر الشكل والمضمون في الكتابة التاريخية حتّى. وبما أن المنهج هو وجهة نظر في نهاية المطاف فقد ينطبق عليهم قول إميل دوركهايم: إن كل الرافضين للمناهج، هم في الحقيقة مقتنعون بشكل لا واع بمنهج رديء. وكما يُذكر في فلسفة العلوم، إن كل ملاحظة لا تخلو من النظرية. لذلك فالبعض لديه نظرية لا واعية لتقويض كل النظريات ودحضها، وكأنه ينفلتُ من أسرٍ نظريٍّ ما، وفي الحقيقة هو يقعُ في أسرٍ آخر أكثرَ عشوائيةً وأقلّ قدرةً على التفسير.