الأرقام القياسية تتحطم في التغيرات المناخية وفي حرائق الغابات، والأقمار الصناعية باتت منهكةً من التنقل والمتابعة. والمناخ المتطرف يضرب العالم أجمع بكوارث طبيعية تختلف بين نقيضين الفيضانات والنيران، والقاسم المشترك هو التدمير وسقوط الضحايا وإجلاء الرعايا.

الصين تعاني من فيضانات لم تشهدها من قبل، كذلك حاصرت الفيضانات مئات السكان في أفغانستان. أما الجانب الآخر من الكرة الأرضية فيعاني من الحرارة المرتفعة مثل كندا التي سجلت أرقامًا تاريخية في درجات الحرارة المرتفعة، والتهمت حرائق الغابات بلدة ليتون الكندية بالكامل.

وفي بلاد البحر المتوسط التهمت النيران مساحات شاسعة من الغابات في تركيا ولبنان واليونان. حتى الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن بعيدة عن الحرائق، فأكلت النيران 300 ألف فدان من الغابات. طبعًا في ظل الحرارة المرتفعة يمكن لشرارة ناتجة من احتكاك عجلة قطار، أو بقايا سيجارة ألقاها أحد السائقين على قارعة طريق يطل على الغابات، أن تشعل حريقًا ضخمًا.

لكن الحرائق التي يشهدها العالم حاليًّا هى حرائق ذاتية الاندلاع، وتلك الحرائق تتميز بقدرتها على الانتشار بسرعة 23 كيلومترًا في الساعة. كما أن انتشارها يزداد بوجود وقود إضافي، هذا الوقود هو كل شيء قابل للاشتعال في طريقها، مثل الزجاجات البلاستيكية، أو بقايا ورقية، أو منازل، أو أشجار جافة.

قد لا نملك الوقت الكافي

علماء المناخ باتوا في موقف صعب، من المعروف أنهم حذَّروا من التغير المناخي وما سيصاحبه من كوارث، لكن الوتيرة السريعة الحالية تثبت خطأهم في تقدير المدى الزمني اللازم للتصرف. وأخذ بعض علماء المناخ في إبداء صدمتهم مما يحدث، رغم أنهم الجهة التي قصدها الكثير من القادة الأوروبيين للبحث عن تفسير لما يحدث، كما عبَّر بعضهم عن أسفهم لأنهم استهانوا بمدى سرعة التغيُّر المناخي.

نحن نفهم بصعوبة معنى كلمة التغير المناخي، وملخصها في الأذهان أن المناخ المتطرف والقاسي سيكون هو السائد، الحر شديد والبرد قارس. لكن كيف يؤدي هذا المناخ المتطرف إلى إشعال حرائق الغابات التي نشهدها حاليًّا؟

أولًا، يجب أن تعرف مصطلح التيار النفاث. التيار النفاث هو تيار هوائي متعرج، سريع التدفق، يوجد في الغلاف العلوي للأرض على ارتفاع 12 كيلومترًا من سطح الأرض، يتدفق من الشرق للغرب. هذا التيار مهمته هي تنظيم درجات الحرارة في نصف الكرة الشمالي.

في حالتنا من التغير المناخي الشديد أصبحت تلك التيارات النفاثة أكثر بطئًا وأشد تعرجًا، ما جعل قدرتها على تنظيم الحرارة أقل. كذلك يحتفظ الهواء الساخن في تلك التيارات بدرجة رطوبة عالية. من المعروف أن الظواهر المناخية تتحرك من منطقة ذات ضغط مرتفع إلى منطقة ذات ضغط منخفض، لكن مع حدوث أي خلل في التيار النفاث يقول عنه علماء المناخ إنه يؤدي إلى زيادة حجم منطقة الضغط المرتفع والمنخفض، وتتعلق كل منطقة في مكانها.

ما يعني أن الحرارة الشديدة والجفاف المرتبطين بمناطق الضغط المرتفع تزداد احتمالية حدوثها، وخصوصًا في منطقة محددة يظل الضغط فيها مرتفعًا لفترة طويلة لأن التيار النفاث لم يعد قادرًا على معادلة هذا الضغط المرتفع. على الجهة الأخرى فإن الفيضانات والسيول المرتبطة بمناطق الضغط المنخفض يزداد حدوثها في مناطق محددة بسبب نفس الخلل في التيار النفاث.

الحر الشديد يلد الفيضان

لذا، فبكلمات بسيطة يجب أن ندرك أن التغير المناخي عبارة عن موجة، قد تبدأ في مكان بعيد عنك لكنها قد تصل إلى أسفل قدميك. وحدوث موجة عنيفة وأخرى هادئة أمر لا يعتمد على عامل واحد بسيط، بل عدة عوامل مرتبطة ومتشابكة. هذه العوامل ليس بالضرورة أن تكون عوامل مباشرة تحدث لحظة تغيُّر المناخ، بل عوامل تتراكم على مدى السنوات الماضية وسيكون أثرها لاحقًا بعد عقود قادمة.

بمعنى: هناك فيضانات ضربت لندن في  يوليو/ تموز 2021، سبب تلك الفيضانات هو العواصف الصيفية الممطرة. لكن تلك العواصف كان تتحرك بفعل ضغط الهواء الساخن المتصاعد من سطح الأرض، ذلك الهواء تراكم على مدى الفترة السابقة بفعل الموجة الحارة الشديدة التي ضربت لندن قبلها الفيضانات.

رغم بداهة تلك الحقيقة فإن علماء المناخ اعتمدوا في دراستهم على الظواهر المنفردة، فيضانات مستقلة عن حرائق الغابات. لكن ما يحدث حاليًّا هو الصادم بالنسبة للعلماء، أن تحدث الفيضانات متزامنة مع الحرائق، أو تالية لها بأيام معدودة. لهذا فإن الأحداث الراهنة سوف يكون لها تأثير على طريقة دراسة المناخ نفسها، فعلماء المناخ باتوا بحاجة إلى وضع نماذج متشابكة ومعقدة تربط بين العديد من العوامل المناخية في وقت واحد.

خصوصًا أن التغييرات المناخية الحالية سوف تؤثر على المناخ القادم. فحرائق الغابات التي تهلك ملايين الأفدنة من الأشجار سنويًّا ستجعل الدول أكثر دفئًا وأشد تلوثًا. فيُقدر العلماء أن 8 مليارات طن من ثاني أوكسيد الكربون قد انبعثت من حرائق الغابات على مدى العشرين عامًا الماضية. كذلك يقول العلماء إن حرائق الغابات عمومًا تساهم بنسبة 15% من ثاني أوكسيد الكربون المنبعث سنويًّا.

قمة قادمة

خبراء المناخ في الأمم المتحدة واصلوا الإعراب عن قلقهم مما يحدث، وحذروا من أن عام 2030 سيشهد كوارث أسوأ إذا لم يتوقف البشر عن تدمير الكوكب. وأن التغير المناخي يوشك أن يصل إلى مرحلة اللاعودة، ولن تبقى قارة أو دولة في منأى عن ذلك التغير وآثاره.

ليس الأمر متعلقًا فقط بالآثار البعيدة كالحر الشديد، بل هناك آثار لحظية مثل موت 3700 مدني في حرائق الغابات عام 2019، وإصابة 17 ألفًا آخرين. وتغير في طبيعة الاقتصاد بسبب خسارة الأفراد لوظائفهم وتركهم منازلهم، فقد خسرت الولايات المتحدة قرابة 15 مليار دولار في هيئة ممتلكات التهمتها الحرائق عام 2019، وبلغ إجمالي ما تكلفته الولايات المتحدة بسبب تلك الحرائق من إنفاق وخسائر 150 مليار دولار.

بجانب خسارة الدول التي تعاني من الفيضانات والحرائق لعوامل الجذب السياحي، وما يترتب عليه من تأثر الدخل الإجمالي لتلك الدول، كما أن معظم الدول تخصص ميزانية ضخمة، لا تُنفق كلها على المواجهة الفعلية، لمواجهة الحرائق والفيضانات. ففي روسيا تم تخصيص 123 مليون دولار لمكافحة حرائق الغابات، وهو رقم هزيل في رأي علماء المناخ.

والسبيل الدولي لإنقاذ الكوكب هو بتفعيل اتفاقية باريس للمناخ التي تنص على إبقاء الاحترار العالمي قيد السيطرة وتحت درجتين مئوتين حتى مرور القرن الحادي والعشرين. ربما هذا هو التحدي الذي سيكون أمام مؤتمر جلاسكو للمناخ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، الوصول لانبعاثات كربونية صفرية.

الإنذار الأحمر والأخير

تلك النتيجة الحالمة ستتحقق باستخدام مزيد من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرهما من مصادر الطاقة النظيفة، غير أنه من غير المتوقع حدوثها، فمثلًا حددت الصين أنها سوف تصل إليها عام 2060، رغم بعد التاريخ إلا أنها أيضًا تستمر في بناء محطات طاقة تعمل بالفحم، كما أن روسيا والهند، عملاقا الصناعة في العالم، رفضا التوقيع على الالتزام بخفض الانبعاث الحراري، وبريطانيا هي الأخرى تماطل في نشر استراتيجية الوصول لانبعاثات صفرية.

التباطؤ الدولي عواقبه مرعبة، فقبل 30 عامًا أصدرت الهيئة الدولية المعنية بالمناخ تقريرًا يحذر مما يحدث اليوم، وقبل 8 سنوات أصدر علماء المناخ البارزون بيانًا يحذرون من السموات البرتقالية المليئة بالنيران التي شهدناها حاليًّا في صور الأقمار الصناعية.

 تشترك جميع التقارير في التنيبه إلى أن الأثر تراكمي منذ بدء الثورة الصناعية، وذلك الأثر يزداد كل لحظة، وأن قادة العالم عليهم أن يدركوا أنهم لا يتعاملون مع مشكلة لحظية، بل مشكلة تراكمية وحلها يحتاج لعشر سنوات كحد أدنى، لذا فعليهم البدء فورًا.

لقد أخرج الكوكب الإنذار الأحمر لسكانه، وقدَّم لهم عرضًا صغيرًا على ما سيكون عليه مستقبلهم في العقود القادمة. جاء هذا العرض التشويقي قبل أسابيع من قمة المناخ القادمة في اسكتلندا، لذا من المتوقع، أو من الواجب، أن تخرج القمة القادمة بمزيد من ضخ الأموال ودعم كبير من بنوك التنمية لأجل تجنيب الأرض المصير المشتعل الذي تمضي إليه بثبات.