كشفت مصر عن التصميمات الأولى لعملتها البلاستيكية الجديدة، وهي الخطوة التي فتحت الباب واسعًا لنقاشات مطوّلة حول مدى جدوى هذه الخطوة.

لماذا اتّجهت مصر إلى النقود البلاستيكية؟ وهل سيكون لها تأثير اقتصادي؟ أم أن الخطوة «شكلية» فقط، لا تعدو تغيير تصميم بآخر؟

لماذا الحديث عن النقود مهم بشكلٍ عام؟

يعود الفضل إلى الصينيين في اختراع النقود الورقية، بعد اختراعهم الورق في القرن الأول الميلادي، إذ ظهرت أول ورقة موثقة تاريخيًا في عهد أسرة تانج الأول (618-907م). والآن، لا يوجد منتج صناعي يضاهي طباعة النقود فالجميع يتعامل بها ومعها وعلى نحو متكرر، ولا يوجد فرع من فروع الصناعة معزول بمثل هذا الإحكام الشديد عن عين الجمهور ولا يوجد مجال آخر يكتنفه الغموض كطباعة النقود كما يقول الاقتصادي الألماني كلاوس بيندر.

هل هناك قيود على عمليات إنتاج النقود؟

طباعة النقود من قبل البنك المركزي عملية فنية معقدة اقتصاديًا. فكل وحدة نقدية مطبوعة لا بد أن يقابلها رصيد من احتياطي النقد الأجنبي أو رصيد ذهبي، أو سلع وخدمات حقيقية تم إنتاجها في المجتمع، حتى تكون النقود المتداولة في السوق ذات قيمة حقيقية وليست مجرد أوراق مطبوعة.

ولأن النقود تتسم بكفاءة استخدام أكبر من المعادن الأخرى ولا تعتمد تعديلات المعروض منها على مقدار المعادن النفيسة الموجودة، فإن التعقيد في صناعتها يزداد على هذا النحو. وسرعان ما تزداد الإغراءات لدى الحكومات بل وبشكل دائم لإصدار المزيد من النقود، وذلك لاستخدامها في شراء المزيد من السلع والخدمات وتعيين عدد أكبر من الأشخاص ودفع مزيد من الأجور وزيادة شعبيتها وقبولها لدى المواطنين من ناحية.

ومن ناحية أخرى، فإن طبع مقادير زائدة من النقود يساهم في رفع الأسعار، ومع وجود توقعات بمزيد من الزيادات يدخل الاقتصاد في حلزونية الأجر السعر، حتى لا تستطيع الحكومات التدخل لإيقاف هذه الحلزونية اللهم إلا التخفيف شيئًا قليلًا من درجة زيادتها، فتتناقص قيمة العملة وربما تفقد قيمتها كاملة. ولعل هذا هو ما يحدث حالة التضخم الجامح كنوع من التضخم وإذا كانت الدولة تتمتع بنمو ضعيف أو هش يطلق عليه التضخم الركودي.

هل النقود البلاستيكية ضرورة حتمية؟

رغم وجود توجهات فكرية وتطبيقية سابقة أكدت استحالة فكرة التخلي والاستغناء عن النقود الورقية، فإنه في الآونة الأخيرة ظهرت العملات الإلكترونية والافتراضية أو الرقمية، وتزايد الاعتماد عليها بما يمكن معه دحض هذه الفكرة وتنحيتها جانبًا. فمع الولوج في عصر الثورة الصناعية الرابعة لم يعد هناك مستحيل فيما يتعلق بفكرة وجود عالم بلا نقود ورقية.

في المقابل، لا يزال الحديث عن طباعة النقود، يكتسي طابعًا خاصًا وتثور حوله تساؤلات عدة يتقدمها ماهية هذه الطباعة وسريتها وكذلك مدى توافقها مع الإنتاج من السلع والخدمات؟

يقول الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان، إنه لا بد من وجود مواءمة بين النقود والسلع، بمعنى لا تجعل نقودًا قليلة تجري خلف سلع كثيرة فيحدث ركود، والعكس لا تجعل نقودًا كثيرة تجري خلف سلع قليلة.

النقود البلاستيكية: لماذا؟ ومتى بدأت؟

على الرغم من شيوع النقود الورقية في العالم بأسره، فإن التطورات التكنولوجية الحديثة، أتاحت للدول تغيير «مادة نقودها» من الورق إلى البلاستيك.

توفر الأوراق النقدية البلاستيكية، المصنوعة من البوليمر ميزات أمان إضافية إلى جانب طول العمر.

كما أنها مهمة للدول المعنية بالتأثير البيئي لعملتها، ولهذا فإن التحوّل إلى الأوراق النقدية المصنوعة من البوليمر أمر منطقي مع توقيع البلدان على اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ.

ظهرت الأوراق النقدية المصنوعة من البوليمر أول مرة في عام 1988 من قبل أستراليا التي تستخدم، حاليًا، النقود البلاستيكية فقط، وهي على وشك إطلاق سلسلة جديدة من الأوراق النقدية، بدءًا من فئة 5 دولارات في سبتمبر المقبل.

وحاليًا، تُستخدم النقود البلاستيكية في أكثر من 20 دولة متنوعة مثل أستراليا وكندا وفيجي وموريشيوس ونيوزيلندا وبابوا غينيا الجديدة ورومانيا وفيتنام.

ما فوائد النقود البلاستيكية؟

قبل شروعها في الاعتماد على النقود البلاستيكية 2011م، قيّمت كندا التأثير البيئة لهذه الخطوة.

وفقًا للدراسة، سيُخفِّض الاعتماد على النقود البلاستيكية 32% من إمكانية الاحتباس الحراري و30% من الطلب على الطاقة الأولية.

الأهم من ذلك، أن أوراق البوليمر تدوم أكثر من ضعف ما تدوم الأوراق النقدية الورقية، وهذا يعني أن الاعتماد عليه سيتطلب إنتاج أوراقٍ أقل.

كما أن وزن أوراق البوليمر أقل من الأوراق الورقية، لذا فإن نقلها وتوزيعها أسهل على البيئة.

أما عند نهاية خدمتها، فإن النقود البلاستيكية أيضًا تتفوّق؛ فبينما تُمزّق الأوراق وتُعاد إلى مكبِّ النفايات، أما أوراق البوليمر فإنها عقب انتهاء فعاليتها في التداول ستتحوّل إلى حبيبات يُمكن استخدامها في صنع البلاستيك.

كما قام بنك إنجلترا المركزي بدراسة مماثلة، تبنّت نفس الرأي الكندي، وبدأت في تنفيذها من سبتمبر 2016م.

وقال مارك كارني محافظ بنك إنجلترا، حينها: «جودة الأوراق النقدية المصنوعة من البوليمر أعلى، وهي أكثر أمانًا من التزوير، ويمكن إنتاجها بتكلفة أقل لدافعي الضرائب».

مصر والنقود البلاستيكية: كيف بدأت القصة؟

بدأ الحديث عن تطبيق النقود البلاستيكية في مصر، في أعقاب تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي في نوفمبر 2016، وتنامت الحاجة إليها عقب تفشي جائحة كورونا واعتبار أن النقود الورقية تسهم في نقل العدوى.

وفي الأول من أغسطس 2021، أعلنت مصر أن أول نقود بلاستيكية مصرية ستكون متاحة للتداول في السوق في نوفمبر من هذا العام.

جرت هذه الخطوة بالتنسيق مع مجمّع Secured & Smart Documents لتوفير مواد خام متطورة وفقًا لأحدث المعايير الدولية للأوراق النقدية الجديدة.

كما أعلن طارق عامر محافظ البنك المركزي المصري، أن المطبعة الجديدة التي يجري إنشاؤها في العاصمة الإدارية الجديدة، تحوي بعض خطوط إنتاجها ماكينات لتصنيع العملات البلاستيكية.

وفضلاً عن المزايا المتعددة التي يوفّرها الاعتماد على النقود البلاستيكية، فإنها تكفل لمصر العديد من المزايا الإضافية:

1. مواكبة التطورات العالمية فيما يتعلق بتحويل شكل النقد المتداولة.
2. تخفيض كلفة طباعة النقود وتمتعها بعمر افتراضي أطول.
3. ظهرت أهميتها في ظِل جائحة كورونا، وصلاحيتها لعدم نقل أي عدوى عبر التلامس.
4. سعي الدولة الدائم لرسمنة الاقتصاد وتحويل النقد في الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمية.
5. تمتعها بالقبول العام مثلها مثل النقود الورقية.

هل يؤثّر طرح النقود البلاستيكية على السوق المصرية؟

لا يوجد إجراء اقتصادي لا تنعكس آثاره على الاقتصاد، فكل قرار، مهما كان صغيرًا أو شكليًّا، عادةً ما يكون مصحوبًا بتبعات اقتصادية، وهو ما ينطبق أيضًا على قرار الاعتماد على النقود البلاستيكية.

الفئات التي تستهدف مصر طرحها نقودًا بلاستيكية من فئة الـ10 والـ20 جنيهًا، وهي الفئات الأكثر استخدامًا من قِبل الطبقات الفقيرة والمتوسطة في مصر، والتي تتداولها في تعاملاتها اليومية.

وبالتالي، فإن الحرص على إبقاء هذه الفئات النقدية متداولة بكثافة في السوق، هو أمر ضروري لدعم القوة الشرائية لأصحاب هذه الطبقات.

تغيير العملة هو مجرد خطوة من خطة كبيرة تسير عليها مصر نحو الشمول المالي، في مساعيها لحصر أغلب التعاملات المالية في القطاع البنكي، على أن يكون أي تعامل محدود خارجه بِاستخدام النقود البلاستيكية، غير القابلة للتزوير، في «تعاملات الفكة» اليومية.

وذلك بغرض مكافحة جرائم غسيل الأموال، ورصد أنشطة الاقتصاد غير الرسمي، ما يُحقق للدولة السيطرة التامة على «سوق النقد» ويكفل لها رصدًا دقيقًا لإنتاج السوق وللسلوك الاستهلاكية للمواطن.

كما أن مواكبة التطورات الحديثة في مجال طباعة النقود، هو أمر يقوّي من هوية الدولة؛ لأن «حالة العملة» هي دليل قوة الدولة أو ضعفها، وتستمد رمزيتها ليست فقط من قيمتها الاقتصادية، ولكن بما تُمثله من رمزية تاريخية وهوية تراثية أيضًا، ينبغي أن تكون في «أحسن وأشيك» حال تعبيرًا عن قوة الدولة.