تعرضنا في مقال سابق لـ ـ تاريخ مرض شلل الأطفال، وكيف تطور نمط انتشار المرض عبر التاريخ، كما ألقينا نظرة سريعة على الأدلة التاريخية لوجود المرض في الأزمنة القديمة بداية من حضارة المصريين القدماء وحتى القرن العشرين.

تسبب ذلك التاريخ الطويل من المرض والمعاناة في جعل مرض شلل الأطفال واحدًا من أكثر الأمراض رهبة في القرن العشرين، كان المرض يصيب الناس دون سابق إنذار ولم يكن من الممكن توقع من سوف يصاب. تلك المعاناة والرهبة جعلت المرض صوب اهتمام الأطباء والعلماء لتطوير علاج له، وهو ما سوف نناقشه في مقالنا الحالي.


العلاجات القديمة

http://gty.im/3277391

في بدايات القرن العشرين -وفي ظل عدم وجود علاج مؤكد للمرض- ظهر عدد من الاقتراحات الغريبة -كان بعضها يحمل احتمالا كبيرا بكونه مضرا- لعلاج المرض. في كتابه «A Monograph on the Epidemic of Poliomyelitis (Infantile Paralysis) in New York City in 1916» قام جون هافين إيمرسون بسرد وصف لأحد مقترحات علاج شلل الأطفال القديمة والتي كانت كما يلي (1): «إعطاء الأكسجين عن طريق الأطراف السفلية، بواسطة تيار كهربائي إيجابي. الاستحمام المتكرر باستخدام اللوز المطحون المعجون في الماء المؤكسد. استخدام كمادات من البابونج الروماني، الدردار الزلق، زهرة العطاس والخردل» (2).

وبعد وباء عام 1916م وكنتيجة للنجاح المحدود جدا في علاج مرض شلل الأطفال باستخدام الطرق المقترحة حينها، بدأ الباحثون في البحث الجاد عن علاجات جديدة أكثر فاعلية للمرض، وتمت تجربة العديد من التقنيات العلاجية (ومنها العلاج المائي، و العلاج الكهربائي) ما بين عامي 1917م و 1950م في محاولة لمنع التشوهات التي تصيب المرضى. وفي عام 1935م أعلن كلاوس جونجبلوت أن استخدام فيتامين (ج) يقوم بتعزيز مقاومة القرود لفيروس شلل الأطفال (3) وعلى الرغم من ذلك، فإن التجارب اللاحقة التي تم إجراؤها من قبل ألبرت سابين وكلاوس نفسه لم تقم بتأكيد تلك النتائج الواعدة (4) (5). في وقت لاحق، قام فريد كلينر بنشر نتائج تجاربه في استخدام فيتامين (ج) في علاج شلل الأطفال (6) (7) (8) (9) لكن عمله لم يلق قبولا في المجتمع العلمي، كما أنه لم يتم إجراء أي دراسات سريرية كبيرة لدراسة الموضوع على الإطلاق.

خلال تلك الأوقات، كانت التدخلات الجراحية لعلاج مضاعفات المرض والتحكم فيها شائعة جدا، فكان من المعتاد إجراء عمليات لإطالة الأوتار وتدعيم الأطراف المصابة عن طريق إطالة العضلات وغيرها من التقنيات الجراحية المختلفة التي تستهدف التعامل مع الإعاقة الحركية الناتجة عن الإصابة بمرض شلل الأطفال (10) (11). كان المرضى الذين يصابون بالشلل يعالجون باستخدام الجبائر، كما كان يتم تدريبهم على كيفية تعويض القدرات الجسدية المفقودة باستخدام العصي والكراسي المتحركة، وعلى الرغم من أن الجبائر الصلبة ومعدات التثبيت كانت تتسبب في ضمور العضلات نتيجة لنقص حركة المريض، إلا أنها كانت توصف كعلاجات ناجحة وفعالة (12)، كذلك فقد تم استخدام التدليك وتدريبات الحركة السلبية لعلاج ضحايا شلل الأطفال (11).

كل تلك الأساليب العلاجية أثبتت أنها ذات تأثير محدود في علاج المرض ونتائجه، وعلى الرغم من ذلك فقد ظهرت بعض الأساليب والتقنيات الفعالة لعلاج شلل الأطفال أو التحكم في مضاعفاته خلال تلك العقود، كاستخدام الرئة الحديدية (إحدى وسائل التنفس الصناعي) و مصل الأجسام المضادة المضاد للفيروس المسبب للمرض.


الرئة الحديدية وأجهزة التنفس الصناعي

http://gty.im/90728234

قام فيليب درينكر و لويس أجاسيز شاو وجيمس ويلسون من جامعة هارفارد باختراع أول رئة حديدية تم استخدامها في علاج المصابين بشلل الأطفال، وتم اختبارها في الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول في مستشفى الأطفال في بوسطن. كانت الرئة الحديدية الأولى تعمل من خلال محرك كهربائي متصل بمضختي هواء متصلتان بصندوق معدني محكم الغلق، يعمل المحرك الكهربائي على تغيير ضغط الهواء داخل الصندوق المعدني الذي يرقد المريض داخله، فحين يتم خفض الضغط داخل الصندوق المعدني يتسع القفص الصدري في محاولة لملأ الفراغ الجزئي الناتج عن نقص الضغط، ومن ثم يندفع الهواء داخل الرئتين، ويحدث العكس تماما عندما يتم زيادة الضغط داخل الصندوق المعدني، في حركة تشابه بدرجة كبيرة الحركة الفسيولوجية الطبيعية للتنفس. خضع ذلك التصميم للعديد من التعديلات في أوقات لاحقة، ومنها التعديل الذي أدخله جون هافن إيمرسون لجعل انتاج تلك الأجهزة أقل تكلفة وظل النموذج المعدل لإيمرسون يُنتج ويُستعمل حتى عام 1970م (13).

قامت أجهزة الرئات الحديدية بإنقاذ حياة آلاف البشر خلال أوبئة شلل الأطفال، لكنها كانت كبيرة ومكلفة للغاية (14)، ففي الثلاثينات من القرن الماضي، كان جهاز الرئة الحديدية الواحد يكلف حوالي 1500 دولار أمريكي، وهو ما يقارب سعر منزل متوسط الحجم في ذلك الوقت (15)، كذلك كانت تكلفة تشغيل تلك الأجهزة كبيرة جدا، حيث كان المرضى يوضعون في تلك الغرف المعدنية لمدة طويلة تصل لعدة سنوات، وفي بعض الأحيان يظلون بها مدة الحياة (13)، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن نسبة الوفيات في حالات شلل الأطفال التي تصيب المخ (bulbar Polio) كانت تتجاوز 90% (16).

أدت كل تلك السلبيات إلى تطوير واختراع أجهزة تنفس صناعي حديثة واستخدام التنفس الصناعي بضخ الهواء من خلال الشق الحنجري، وقد أدى استخدام تلك الأجهزة الحديثة إلى تقليل نسبة الوفيات في حالات إصابة الفيروس للمخ من 90% إلى 20% (17). في وباء شلل الأطفال في كوبنهاجن عام 1952م، حصل العديد من المرضى على التنفس الصناعي باستخدام حقائب التنفس (ambu bag) بواسطة طلاب الطب وأي شخص آخر متاح، بسبب ارتفاع عدد المصابين وعدم توافر أجهزة تنفس صناعي كافية (18).


العلاج المناعي السلبي

في عام 1950م، استطاع ويليام هامون من جامعة بيتسبرج، أن يقوم بعزل مصل يحتوي على الأجسام المضادة لفيروس شلل الأطفال من دم المرضى الذين تم شفاؤهم من المرض. كان من المتوقع أن يقوم ذلك المصل بمنع انتشار المرض والحد من شدة الأعراض في المرضى المصابين (19). في الفترة ما بين سبتمبر/أيلول 1951م حتى يوليو/تموز 1952م شارك ما يقرب من 55 ألف طفل في تجربة إكلينيكة لاختبار ذلك المصل (20)، وكانت نتائج تلك التجربة واعدة، حيث تبين أن المصل فعال بنسبة 80% تقريبا في منع الإصابة بالشلل الناتج عن العدوى بفيروس شلل الأطفال، كما تبين أن تلك الوقاية تستمر لخمسة أسابيع تقريبا إذا ما تم إعطاء المصل في ظروف مراقبة بدقة لضمان سلامة العملية (21)، كذلك أظهر المصل أنه قادر على الحد من شدة المرض في المرضى المصابين بالمرض فعليا. وعلى الرغم من تلك النتائج المبهرة، فإن استخدام المصل على نطاق واسع لمنع المرض كان له عددا من العيوب، منها أن الوقاية التي يوفرها المصل غير أكيدة (لا تصل لنسبة 100%) كما أنها لا تدوم طويلا، كذلك كان من الضروري إعادة حقن المصل مع كل انتشار وبائي للمرض مما يشكل تكلفة كبيرة، كما أن الوقت المثالي لإعطاء المصل لم يكن معروفا (19) وبسبب تلك العيوب فقد انتقل تركيز المجتمع الطبي سريعا نحو توفير وانتاج لقاح ضد المرض يعمل على منح الجسم مناعة دائمة ضد المرض (22) وهو ما سنناقشه في المقال القادم.

المراجع
  1. A monograph on the epidemic of poliomyelitis (infantile paralysis)
  2. A Summer Plague: Polio and Its Survivors. p. 23
  3. INACTIVATION OF POLIOMYELITIS VIRUS IN VITRO BY CRYSTALLINE VITAMIN C (ASCORBIC ACID)
  4. VITAMIN C IN RELATION TO EXPERIMENTAL POLIOMYELITIS WITH INCIDENTAL OBSERVATIONS ON CERTAIN MANIFESTATIONS IN MACACUS RHESUS MONKEYS ON A SCORBUTIC DIET
  5. A FURTHER CONTRIBUTION TO VITAMIN C THERAPY IN EXPERIMENTAL POLIOMYELITIS
  6. The Treatment of Poliomyelitis and Other Virus Diseases with Vitamin C
  7. Massive Doses of Vitamin C and the Virus Diseases
  8. The vitamin and massage treatment for acute poliomyelitis.
  9. The Use of Vitamin C as an Antibiotic
  10. Leboeuf C (1992). The late effects of Polio: Information For Health Care Providers. Commonwealth Department of Community Services and Health. ISBN 1-875412-05-0.
  11. Manual of infantile paralysis, with modern methods of treatment. Pathology: p. 79-101
  12. Sister Elizabeth Kenny, an Australian Nurse, and Treatment of Poliomyelitis Victims
  13. On Borrowed Time The last iron lung users face a future without repair service
  14. Braces, Wheelchairs, and Iron Lungs: The Paralyzed Body and the Machinery of Rehabilitation in the Polio Epidemics
  15. Whatever Happened to Polio?
  16. The physiological challenges of the 1952 Copenhagen poliomyelitis epidemic and a renaissance in clinical respiratory physiology
  17. Noninvasive Mechanical Ventilation at Home: Building Upon the Tradition
  18. Constructivist medicine
  19. Passive Immunization Against Poliomyelitis The Hammon Gamma Globulin Field Trials, 1951–1953 Read More: http://ajph.aphapublications.org/doi/abs/10.2105/AJPH.2004.040790
  20. Unsung Hero of the War on Polio
  21. Hammon WD, Coriell LL, Ludwig EH, et al. EVALUATION OF RED CROSS GAMMA GLOBULIN AS A PROPHYLACTIC AGENT FOR POLIOMYELITIS: 5. REANALYSIS OF RESULTS BASED ON LABORATORY-CONFIRMED CASES. JAMA. 1954;156(1):21-27. doi:10.1001/jama.1954.02950010023009.
  22. Tireless polio research effort bears fruit and indignation