لا أعتقد أن هناك فلسفة ما تؤمن بأن الإصابة بشلل الأطفال أمر جيد
بيل جيتس – ميكروسوفت

ناقشنا في المقالين السابقين تاريخ مرض شلل الأطفال و المحاولات المتعددة لتطوير علاج للمرض، وتعرضنا لتاريخ تطور نمط انتشار المرض عبر التاريخ، كما ألقينا نظرة سريعة على الأدلة التاريخية لوجود المرض في الأزمنة القديمة بداية من حضارة المصريين القدماء وحتى القرن العشرين وكيف تسبب المرض في تاريخ طويل من المعاناة لملايين البشر على الرغم من المحاولات المتعددة لتطوير علاج للمرض.

على الرغم من المجهودات الكبيرة المبذولة في محاولات متعددة لإيجاد علاج لذلك المرض، إلا أن تلك الجهود لم تستطِع إيجاد علاج تام للمرض، ومن ثم كان التحول في وجهة النظر نحو محاولة منع المرض عن طريق الأمصال واللقاحات، تلك المرحلة التي بدأت بإنتاج مصل للمرض، يستخدم في خفض احتماليات الإصابة والتخفيف من حدة الأعراض المصاحبة للمرض والحد من تطور المرض، لكن ذلك المصل لم يوفر الحماية المأمولة ضد المرض، ومن ثم كان التحول نحو محاولات تطوير لقاح مضاد للمرض، يساعد على إكساب الجسم مناعة حقيقية ودائمة ضد المرض.


الإرهاصات الأولى

http://gty.im/3312163

كانت المحاولة الأولى لإنتاج لقاح مضاد لمرض شلل الأطفال في عام 1936م بواسطة «موريس برودي Maurice Brodie» الباحث المساعد في جامعة نيويورك، حيث حاول برودي إنتاج لقاح مضاد للمرض باستخدام فيروس تم قتله بواسطة الفورمالدهيد بعد استخراجه من النخاع الشوكي للقردة، وقام برودي باختبار اللقاح على نفسه ومساعديه أولا، ومن ثم قام بإعطاء اللقاح لمجموعة من ثلاثة آلاف طفل، أصيب العديد منهم بالحساسية من ذلك اللقاح، لكن أيا منهم لم يُبدِ أي استجابة مناعية ضد المرض نتيجة لاستخدام ذلك اللقاح (1).

في نفس العام، ادعى العالم المختص بعلم الأمراض «جون كولمر» أنه قام بتطوير لقاح مضاد للمرض أيضا، لكنه لم يكن أفضل حظا من زميله، حيث تسبب اللقاح الخاص به في عدة حالات من الإصابة بالمرض، منهم 9 حالات تسببت في وفاة أصحابها، كما أن ذلك اللقاح لم يؤدِ إلى أي استجابة مناعية في أي ممن تعرضوا له (1).

كيف تلعب الصدفة دورا في تطور العلم!

في عام 1948م كانت الخطوة الفارقة في تطوير لقاح ضد مرض شلل الأطفال، حيث استطاع فريق بحثي بقيادة «جون إندرز John Enders» بزراعة فيروس شلل الأطفال في نسيج بشري في المختبر في مستشفى بوسطن للأطفال (2). حيث كان ذلك الفريق قد نجح في زراعة فيروس النكاف منذ فترة قريبة، وكان «توماس ويلر Thomas H. Weller» يحاول زراعة فيروس varicella في نسيج رئوي جنيني مستخدما العدد المخطط له من أنابيب الاختبار، حين لاحظ وجود بعض أنابيب الاختبار غير المستعملة، فقام باستخراج عينات من مخ فأر مصاب بفيروس شلل الأطفال، وقام بإضافتها لأنابيب الاختبار غير المستعملة تحسبا لاحتمال إمكانية أن تكون تلك البيئة مناسبة لنمو فيروس شلل الأطفال، وقد كانت المفاجأة، حيث فشلت محاولة زرع فيروس varicella بينما نجحت عينات فيروس شلل الأطفال في النمو. وقد أدى ذلك التطور إلى جعل بحوث لقاحات شلل الأطفال أكثر بساطة وجدوًى، مما أدى إلى النجاح النهائي في تطوير لقاح ضد المرض، ومن الجدير بالذكر أن الفريق البحثي المسئول عن ذلك الاكتشاف قد تم منحه جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب عام 1954م (3).

ومن الخطوات المهمة أيضًا في تاريخ تطوير لقاح شلل الأطفال، اكتشاف ثلاثة أنواع جينية مختلفة لفيروس شلل الأطفال، فيروس شلل الأطفال من النوع الأول أو (PV1، ماهوني)، فيروس شلل الأطفال من النوع الثاني (PV2، لانسينج) وفيروس شلل الأطفال من النوع الثالثة (PV3، ليون)، وكذلك اكتشاف أنه قبل أن يتسبب الفيروس بإصابة المريض بالشلل، فإن الفيروس لابد وأن يكون متواجدا بالدم، وأن إعطاء أجسام مضادة في صورة جاما جلوبيولين يمنع الإصابة بالشلل (4) (5).


النجاح الأول

http://gty.im/109274461

تم تطوير أول لقاح فعال ضد مرض شلل الأطفال في عام 1952م على يد جوناس سالك وفريق من جامعة بيتسبرج، وعلى الرغم من أن اللقاح كان مكتملا في عام 1952م إلا أنه كان في حاجة لسنوات من الاختبارات لضمان سلامته قبل بدأ استخدامه بشكل موسع. في السادس والعشرين من مارس/آذار 1953م تحدث جوناس سالك على الراديو لإعلان نجاح تجربة اختبار صغيرة على مجموعة من الأطفال والبالغين، ونشرت نتيجة تلك التجربة بعدها بيومين في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية (6). في الثالث والعشرين من فبراير/شباط عام 1954م تم اختبار اللقاح في مدرسة أرسنال الابتدائية ونُزُل واطسون للأطفال في بيتسبرج، بنسلفانيا (7). بعد ذلك خضع ذلك اللقاح لواحدة من أكبر التجارب الطبية على مر التاريخ والتي أُطلق عليها “تجربة فرانسيس الميدانية Francis Field Trial”، وقد بدأ الاختبار بحوالي أربعة آلاف طفل في مدرسة فرانكلين شيرمان الابتدائية في ماكلين، فيرجينيا (8)، ثم استمرت لتشمل في نهايتها حوالي 1.8 مليون طفل من 44 ولاية مختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية (9). بنهاية التجربة، حصل حوالي 440 ألف طفل على جرعة واحدة أو أكثر من اللقاح، بينما حصل حوال 210 ألف طفل على «علاج وهمي Placebo» مكون من مواد غير مؤذية، بينما لم يحصل حوالي 1.2 مليون طفل على أي علاج ليتم متابعتهم كـ «مجموعة ضابطة Control Group» سيتم متابعتها لاحقا لمقارنة معدلات الإصابة بالمرض بينها وبين المجموعات التي حصلت على العلاج (10). تم إعلان نتيجة التجربة في الثاني عشر من أبريل/نيسان عام 1955م (والذي يوافق الذكرى العاشرة لوفاة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، الذي يعتقد أن فيروس شلل الأطفال كان هو المتسبب في إصابته بالشلل)، وأثبتت تلك النتائج أن لقاح سالك كان فعالا بنسبة ما بين 60% و 70% ضد فيروس شلل الأطفال من النوع الأول، وأنه فعال بنسبة أكبر من 90% ضد كل من النوعين الثاني والثالث من فيروس شلل الأطفال (11).

بمجرد ترخيص لقاح سالك للاستخدام في عام 1955م، بدأت حملات تطعيم الأطفال ضد المرض في الولايات المتحدة الأمريكية بدعم من مؤسسة March of Dimes غير الهادفة للربح التي أسسها فرانكلين روزفلت لمكافحة المرض، وقد كانت النتائج المباشرة مبشرة جدا، حيث انخفض عدد الحالات المصابة بالمرض من حوالي 35 ألف حالة عام 1953م إلى حوالي 5600 حالة عام 1957م (12) ثم إلى 161 حالة بحلول عام 1961م (13).


محاولات للتطوير

http://gty.im/451248032

لم يكن لقاح سالك لشلل الأطفال مثاليًا، حيث لم يكن يوفر الحماية الكاملة ضد الأنواع المختلفة من فيروس شلل الأطفال، كما أنه قد كان من الصعب التعامل مع الجرعات الدوائية الخاصة به نظرًا لأنه يعطى عن طريق الحقن، فلم يكن من السهل تداول العقار ولم يكن من السهل إعطاؤه للأطفال، كذلك فإن فترة الوقاية من المرض الناتجة من استعماله غير معروفة بشكل دقيق (14).

بناءً على تلك الأسباب كان البحث عن لقاح آخر للمرض يتجنب تلك العيوب، فكان تطوير لقاح سابين الذي يتم إعطاؤه عن طريق الفم، يستخدم ذلك اللقاح فيروسا حيًا لكن تم إضعافه لتحفيز الجهاز المناعي بشكل أكبر لإنتاج أجسام مضادة ضد الفيروس (15). كما أثبت اللقاح الجديد أنه أسهل في تداوله وإعطائه للمرضى حيث ألغى الحاجة لاستخدام الإبر المعقمة مما يجعله أكثر ملاءمة لحملات التطعيم واسعة النطاق.

تقوم جرعة واحدة من لقاح سابين بتحفيز الاستجابة المناعية ضد الأنواع الثلاثة من الفيروس في 50% ممن يتلقون تلك الجرعة (16) كما يؤدي الحصول على الجرعات الثلاثة من اللقاح إلى تكوين أجسام مضادة للأنواع الثلاثة من الفيروس في أكثر من 95% من المستفيدين. وكميزة إضافية مقارنة بلقاح سالك، فإن لقاح سابين يؤدي إلى زيادة مقاومة أنسجة الأمعاء للفيروس، وهي المكان الرئيسي الذي يقوم الفيروس من النوع الأول بدخول الجسم من خلاله، مما يساعد على تقليل نسب الإصابة بالمرض (17).

يعطينا تتبع تاريخ مرض شلل الأطفال الكثير من الأمل فيما يخص التحكم في الأمراض ومقاومتها، فذلك المرض الذي كان يصيب الملايين سنويا حتى منتصف القرن العشرين قد تم القضاء عليه نهائيا من الولايات المتحدة منذ عام 1994م (18)، وأعلنت قارة أوروبا خالية من المرض بالكامل في عام 2002م (19). واعتبارا من عام 2016م يمكننا القول بأن مرض شلل الأطفال لم يعد ينتشر بشكل نشط إلا في دولتين اثنتين (باكستان وأفغانستان) ويعود الفضل في ذلك التقدم الكبير إلى ذلك التاريخ الطويل من الجهد والعمل لمكافحة المرض.

المراجع
  1. Salk and Sabin: poliomyelitis immunisation
  2. Cultivation of the Lansing Strain of Poliomyelitis Virus in Cultures of Various Human Embryonic Tissues
  3. The Nobel Prize in Physiology or Medicine 1954
  4. VACCINE-DERIVED POLIOVIRUSES AND THE ENDGAME STRATEGY FOR GLOBAL POLIO ERADICATION
  5. Evaluation of Red Cross gamma globulin as a prophylactic agent for poliomyelitis. IV. Final report of results based on clinical diagnoses
  6. Offit, Paul A. (2007). The Cutter Incident: How America's First Polio Vaccine Led to the Growing Vaccine Crisis. Yale University Press. p. 38.
  7. Teri Shors (14 March 2008). Understanding viruses. Jones & Bartlett Learning. pp. 294
  8. 1954: Miracle Workers: More Than a Million Children Participated in the Salk Poliomyelitis Vaccine Trials of 1954, the Largest Public Health Experiment in American History
  9. Polio Victory Remembered as March of Dimes Marks 50th Anniversary of Salk Vaccine Field Trials
  10. Competition to develop an oral vaccine
  11. Patenting the sun: polio and the Salk vaccine
  12. The History of Polio A Hypertext Timeline – 1789 to 2000
  13. Mass Vaccination Against Polio
  14. The Immunological Basis for Immunization Series Module 6: Poliomyelitis
  15. LIVE, ORALLY GIVEN POLIOVIRUS VACCINE EFFECTS OF RAPID MASS IMMUNIZATION ON POPULATION UNDER CONDITIONS OF MASSIVE ENTERIC INFECTION WITH OTHER VIRUSES
  16. Epidemiology and Prevention of Vaccine-Preventable Diseases. Page: 106
  17. Poliomyelitis Prevention: Recommendations for Use of Inactivated Poliovirus Vaccine and Live Oral Poliovirus Vaccine
  18. International Notes Certification of Poliomyelitis Eradication — the Americas, 1994
  19. Europe achieves historical milestone as Region is declared polio polio-free