وإذ يتبدل الحال، وتكتسي جغرافية العالم العربي بلون الدم وروائح العرق ونشهد بأعيننا تغيرًا سياسيًا جذريًا على هيئة ثورات تضرب أغلب أقطار الشرق الأوسط، وإذ تتغير الوجوه الحاكمة وأزياؤها من زي عسكري؛ لمدني؛ لديني، وإذ يكتسب الوعي العربي تجربة تاريخية جديدة استقبلها في إرهاصاتها بالانفعال والحماس الزائد، وإذ تحمس الجميع سياسيًّا وبدأ الحديث عن السياسة وأمورها وأهلها وممارسيها في حرية لم يعتدها كثيرون منذ قرون طويلة تشهد بالغياب، وإذ يظهر لنا الواقع بترتيبه وفوضاه معًا فنهتز من داخلنا حين يصعب علينا الاشتباك معه وفهمه وفض تناقضاته والإمساك به، وإذ ندرك أن الأمور لا تتم أبدًا وفق أيديولوجيات «التنبؤ والحتمية»؛ أقول: بينما نحن ننهمك في كل ذلك، يظل شيء واحد يثقل علينا كالجاثوم Incubus ، ولا يبدو عليه أي بوادر للمغادرة؛ ألا وهو الاستبداد.

أخفقت المقاربة السياسية –إن لم نقل السياسوية– في إحداث التغيير الفعلي المنشود، وعجزت عن المسير في اتجاه القيم التي يحلم أغلب سكان الشرق الأوسط بتحقيقها، بل وأخفقت كل تعويلات «الآخر» الغربي على التيار السياسي المعارض في أغلب الأقطار العربية؛ أي تيار الإسلام السياسي الذي بدا وكأنه قد عجز هو أيضًا عن تحقيق وعوده في بلوغ النهضة التي طال انتظارها، وبدا كأن التيار القديم الذي ثار عليه الناس والتيار الجديد لا يختلفان في الجوهر مهما تباينت أشكال التجلي أمام الناظرين.

إنه الاستبداد وهو يحاصرنا جميعًا، لم تصمد أمامه ثورات ولا سياسات. كانت هذه ضريبة تاريخ طويل، وقرارات تم اتخاذها في لحظات تأسيسية في مسار الحراك التاريخي أوصلتنا للارتباك الحالي ولعل آثارها تمتد لفترة غير معلومة الأجل تجعل من أي قول في المستقبل ضربًا من التكهن الخالص. إننا نجني محصولًا، لا نزرع نبتًا.

وإذن نتسمَّر في أماكننا مكبلي الأيدي، في شبه عجزٍ تام عن الفعل، ننشغل بما يجري أمامنا ظاهريًّا دون الغوص في جذور الأزمة. وهنا تتوقف المقاربة السياسية عن أن «تقول» وتظهر الحاجة ماسة لمقاربة تأسيسية كقول في «الثقافة».


الهيمنة الثقافية للعقيدة الأشعرية

يتخطى الإسلام في عالم العرب مجرد كونه دينًا، بل ويتخطى كونه الدين الإبراهيمي الخاتم ليصل إلى مرتبة التأسيس على المستوى الثقافي، وهي ثقافة تشكلت من خلال النص الأول للدين (القرآن)، وما تلاه من نصوص شارحة أو مفسّرة، تتعمق في مجالي اللاهوت والناسوت. وإذ تشمل كلمة الإسلام ما تراكم تاريخيًّا من فقه وعقيدة وفلسفة..، إلخ، فإنه يصبح المكون الثقافي الأكثر مركزية في العالم العربي.

وفيما يتعلق بمجال العقيدة، فإننا نجد «الأشعرية» تقف أمامنا كعقيدة مهيمنة ثقافيًّا، قام مؤسسها بالتعالي بخطابه لمقام يجعلهما –هو وخطابه– عصيّيْن على النقد والمساءلة.

«وإذا كان سعيًا للتحرر من سطوة شيء لا يتحقق إلا عبر السيطرة عليه بالوعي، فإنه يلزم أن سعيًا للانفلات من سطوة الأشعرية هو مما يستحيل تمامًا إلا عبر مقاربة لها تتجاوز مضمونها ومحتواها (وقد بدا أن نقدهما أو حتى تقويضهما لا يمنع من إعادة إنتاجها) إلى صميم بنيتها ونظامها الأعمق»، فإنه يمكن لنا المحاججة بأن مقاربة علي مبروك للخطاب الأشعري – انطلاقًا من الوحدة البنيوية لكل من العقل والخطاب – بعيدة – كما نرى – عن أن يتم وصمها بالثقافوية. يتأكد لنا ذلك حين ندرك أن الخطاب الأشعري – وهو الخطاب المهيمن على مستوى العقيدة في العالم العربي وعلى الأخص بمصر – يتسلل، ليس فقط إلى وعي الباحثين والمثقفين والمهتمين بالقراءات التراثية، بل يمتد ليشمل عموم المسلمين والمسلمات من خلال باب الاعتقاد/ العقيدة وتحت مسمى الإيمان أو تنزيه الله. وغني عن الذكر أن الخطاب الأشعري قد حقق هيمنته منتقلًا من مستوى الحضور النوعي في إطار الحقل المعرفي للعقائد إلى مستوى الثقافة» التي حقق هيمنته كاملة عليها».

ويجوز لنا القول بأن السؤال المركزي الذي احتل فضاء أعمال علي مبروك كان يتعلق بسؤال «الإنسان» في الثقافة العربية/ الإسلامية؛ في محاولات متكررة منه للنفاذ والعبور نقدًا ثم البدء من جديد اشتغالًا على الخطابات التي كُتبَ لها الهيمنة ثقافيًا في عالمنا. وما قول علي مبروك في الخطاب الأشعري إلا محاولة للاشتباك النقدي المعرفي مع إحدى أهم هذه الخطابات، بل وأعمقها تأثيرًا. هل يمكننا التصديق بأننا أشاعرة سواء أكنا ندري ذلك أم لا؟، أي سطوة للخطاب؟، أي إمساك قام به ذلك الخطاب لوعينا، بل بلا- وعينا كذلك؟.

المفكر الأكاديمي الراحل علي مبروك

بناءً على ما سبق، يمكننا الحديث عن أصل الاستبداد والذي يلزم التأكيد على أن مركزيته داخل الثقافة «لا تحيل إلى طريقة واحدة في حضوره؛ بل إن ثمة تباين في كيفية حضوره بين التيارات التي تتصارع داخلها، إلى أن تحققت هيمنة لإحدى هذه التيارات على النحو الذي آل إلى تسييد خطابها على مستوى الثقافة، وبحيث يصبح خطابًا للثقافة بأسرها، بدل أن يكون خطاب أحد تياراتها».

وإن كانت الثقافة تمثل حقل انبناء كل من العقل والخطاب ونظام المعنى وطرائق التفكير وآليات إنتاج المعرفة التي تقف جميعًا وراء ضروب الممارسة التي تسود واقعًا ما، فإنه يستحيل اكتناه ظاهرة الاستبداد العربي، على نحو جدّي، إلا عبر الوعي بالشروط المؤسسة لها في عالم المعنى ونظام الخطاب؛ اللذين يجدان، بدورهما ما يؤسس لهما في نظام الثقافة المهيمنة».

الثقافة، إذن، هي المؤثر الأكبر – بل منبع التأثير – في فضاء الممارسة الذي راحت من خلاله السياسة تملي رغباتها وترسخ من حضورها المتخفي باعتبارها لاهوتًا أو بالأحرى دينًا.


الإنسان في المنظور الأشعري

والحق أن اللاهوت الأشعري، بالرغم من كونه خطابًا عن الله بشكل أساسي، إلا أن هذا الخطاب يظل خطابًا بشريًّا، لا يتولد من فراغ أو انفصال عن الواقع وواقع الاجتماع وما يعتمل بداخله من ممارسة سياسية. إنه خطاب عن «الُمفارق» بلغة الـ «هنا، والآن» بكل ما يتخفى وراء هذه اللغة من قصد واعتبارات الزمان والمكان والاجتماع والسياسة؛ بمعنى إجمالي: بكل ما يتخفى وراءها من «الإنساني»؛ بمعنى آخر، يمكن القول بأن «اللاهوت هو – في الحقيقة – قول في الناسوت».

تتكامل رؤية الخطاب الأشعري للإنسان ووعيه بشكل متناسق في إقصائيته على العموم للإنسان كذات فاعلة تمتلك إرادة حرة، وللوعي في قدرته على الفهم المستقل دون الخضوع لأي سلطة.

تتكامل رؤية الخطاب الأشعري للإنسان ووعيه بشكل متناسق في إقصائيته على العموم للإنسان كذات فاعلة تمتلك إرادة حرة، وللوعي في قدرته على الفهم المستقل دون الخضوع لأي سلطة تجعله محل خضوع على الدوام؛ بدءًا من علم – هو وحده – يسبق الوعي ويتخطاه – ألا وهو السمع والنقل وبما يعني أنه «العلم من مصدر مفارق يفرض نفسه على الوعي ويوجهه كليًّا» – تتم المصادرة على الوعي «من حيث هو نشاط وفاعلية للعقل (يمارس من خلالها ضروبًا من التحليل والتركيب والتجريد والتصنيف والمقارنة وغيرها) … (و) يبقى أن ما صارت إليه الأشعرية من اختزال هذا العلم النظري في مجرد الاستدلال – انطلاقًا من «أن كل ما عدا (العلم الضروري) هو علم استدلال» – بحسب الباقلاني – (فإن ذلك) كان لا بد أن يؤول إلى إفقار مفهوم الوعي أو حتى إهداره على نحو كامل».

وفي محاولة منه لفهم طبيعة ذلك اللاهوت، الذي استحال لعقيدة المؤسسة الأزهرية بالإضافة لكون تجلياته و/أو نتائجه قد صارت من المعلوم في وعي المسلم العربي – ومن يتأثرون بمنطق الخطاب الديني الإسلامي/ العربي السائد – بالضرورة، حاول علي مبروك شرح الكيفية التي أسَّس من خلالها اللاهوت، بما هو قول في الله وعالمه (على مستوى الأنطولوجيا)، القول في «السياسة». ولقد كانت الوسيلة لذلك هي مبدأ الخرق والفوات.

والقول الأشعري في الإنسان لا يتحرك في فضاءات اللاهوت وإنما في «شوارع السياسة». ورصف هذه الشوارع لا يتم إلا من خلال تكريس رؤية أنطولوجية تسمح بقراءة السياسي بالطبيعي أو الأنطولوجي أو تسمح بالانتقال من الفوات في الطبيعة إلى الفوات في السياسة.


المنظور الأشعري سياسيًّا

صورة للمفكر الراحل علي مبروك
صورة للمفكر الراحل علي مبروك

وإذا كان الاستبداد يتعلق من أحد أوجهه الرئيسية بالنظرة للإنسان وتكريس التفاوت بين البشر، فإنه يمكن القول بأن ما صار إليه الغزالي في كتابه «إلجام العوام عن علوم الكلام» من «رفع الفارق بين الله والسلطان إلى حد تكريس ضرب من التماهي شبه الكامل بينهما (حيث) الحضرة الإلهية لا تُفهم إلا بالتمثيل على الحضرة السلطانية؛ (وبالتالي فهو) يترفع بالسلطان إلى المقام الذي يكون طرفًا في مماثلة مع الله. ولعل الأمر يتجاوز مجرد إحضاره طرفًا في المماثلة مع الله، إلى أن يكون الطرف/ الأصل، بينما الله هو الطرف/ الفرع. وإذ يرتقي الغزالي بالسلطان، على هذا النحو، إلى مقام التماثل مع الله، فإن ذلك يجعله من طائفة البشر الأعلى الذي يتعالى به الغزالي ومعه كل أهل حضرته طبعًا – على إمكان الدخول في مماثلة مع البشر الأدنى. إن اللافت هنا هو أن الغزالي يماثل بين الله والسلطان، بينما ينتمي كل واحد منهما إلى مجال وجودي مغاير للآخر على نحو كامل، بينما يجعل التماثل مستحيلًا بين البشر الأعلى والبشر الأدنى، وهما ينتميان إلى مجال وجودي واحد … وهكذا فإن الغزالي لا يقيم التفاوت – في الحقيقة – بين الله والإنسان بقدر ما يقوم بترسيخه بين طائفتين من البشر؛ إحداهما تقوم في الأعلى والأخرى تتنزل تحتها في الأدنى».

وهكذا – (ومن خلال القصد السياسي الفاضح) – فإن الأشعرية تجد نفسها مضطرة –وعلى الرغم منها– إلى التكشف عن حقيقة أن ما يشغلها ليس إفراد الله بالتعالي والسمو، بقدر ما أن شاغلها هو الارتقاء بالسلطان إلى حيث تصبح طاعته فريضة.

وسعيًا وراء الاشتباك مع الرؤية الأشعرية لله والوجود والتي يبدو فيها العالم في حالة تلاشٍ كامل في قبضة الإرادة المطلقة التي لا تلتزم ولا تتقيد بأي قانون، فإن علي مبروك يرى أن هذا التصور «لم يكن أبدًا من مقتضيات العقيدة، بقدر ما فرضته لوازم السياسة وضروراتها». ويمكننا القول بأنه كلما تمّ التعالي بالله وتنزيهه عن الالتزام بالقوانين التي تضبط الكون، تحقق للحاكم إمكانية أكبر للانخلاع من أي حساب أو مساءلة. «(و)الحق أنه ليس مما يتعارض أبدًا ومقتضيات العقيدة أن يكون الله قد خلق العالم لمرة واحدة فقط، ثم أمدّه بقوانين ثابتة وسنن شاملة، تحفظ وجوده وتنظم حركته، هي انعكاس لعلمه وحكمته، ومن دون أن يكون بقاء العالم موقوفًا على التدخل المباشر من الله في كل لحظة، وبكيفية يكون معها «نظام القانون» وليس «مطلق الإرادة» هو ما ينتظم علاقتهما ويحددها».

وإطلاق القدرة لله لا يرتد عن رغبة في تنزيه الله بحق بقدر ما يرتد إلى الواقع «السياسي»؛ إما في راهنية لحظته التاريخية أو في تطلعه للحظة تمكين أكثر عمقًا. الأمر الذي يعني أن «القصد إلى ترسيخ الإرادة كلية ومطلقة للسلطان هو الأصل في إطلاقها لله، وبما يحيل إلى أن «السياسي» يحدد «الديني» ضمن هذه المقايسة، ولكنه يعود ليتحدد بدوره بعد ذلك».

(إن) القصد من وراء نفي القدرة على الفعل أو المعرفة أو الحكم، ليس إفراد الله بالقدرة كما تشيع الأشعرية، بل التغطية به بالأحرى على مظالم المستبدين والمحتكرين والقتلة، ولو أدى ذلك إلى نسبة الظلم إليه.

وعلى الجانب المقابل من الرؤية الأنطولوجية للأشعرية، تقف الرؤية الأنطولوجية للمعتزلة –في فتراتها المبكرة- من خلال فكرة «الطبع» التي احتاجها المعتزلة ليقوموا بتحديد طبيعة تصورهم للعلاقة بين الله والعالم الذي خلقه وهي تنضبط بقانون الطبع وهو القانون الذي ينطوي على «السعي إلى ترسيخ فكرة عالم ينتظمه القانون على الرغم من كونه مخلوقاً لله».

والمعتزلة في سعيهم لترسيخ هذا القانون أو التصور إنما يسعون لتحديد أو ضبط «علاقة الحاكم بالمحكوم، في المجال السياسي، بحسب نفس القانون».

وإذا كان الحال كذلك، فهل يمكن لثورة تريد إزاحة الاستبداد أن يظل أتباعها يتبنّون –على المستوى الثقافي، وهو المستوى الذي يبتلع في جوفه كل مستويات إنتاج المعنى وتداول المعرفة على تنوع مصادرها- الأشعرية كعقيدة إيمانية بينما تصورات الأشعرية حول الإنسان بالذات «لم تقصد إلا إلى تحويل البشر إلى كيانات نموذجية تؤمن بالاستبداد كمعتقد، وتتعامل مع العنف كقدر»، وهو الأمر الذي تحقق عبر «النفي الكامل لفاعلية الإنسان وقدرته على الفعل والمعرفة وإنتاج القيمة، بل وكذا على الكينونة والوجود».

إن قراءة متأنية لأعمال علي مبروك لن تصف ما يحاول فعله إلا بالارتداد؛ وأقصد ذلك الارتداد من «المتعالي» إلى «الإنساني». إنها محاولة معرفية للإمساك بالخطابات التي هيمنت ثقافيًّا وقامت بتشكيل وعينا ووعي من سبقونا – وربما لوقت غير معلوم الأجل، وعي من يأتون بعدنا من أجيال متلاحقة، وبما يعني سعيه للخروج من (سلطة) الخطابات المهيمنة ثقافيًّا، وسطوتها كذلك.

إن ذلك الخروج، ومعه ذلك الارتداد، ممكنان. لكننا نحتاج أن نتحول من التلقي والإذعان للنقد والمساءلة؛ سعيًا وراء التجاوز، سعيًا وراء الإنسان.

المراجع
  1. علي مبروك: في لاهوت الاستبداد والعنف والفريضة الغائبة في خطاب التجديد الإسلامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2014.
  2. علي مبروك: الخطاب السياسي الأشعري – من إمام الحرمين إلى إمام العنف، مصر العربية للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 2015.
  3. علي مبروك: ما وراء تأسيس الأصول – مساهمة في نزع أقنعة التقديس، دار رؤية للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 2007.