محتوى مترجم
المصدر
The Cairo Review of Global Affairs
التاريخ
2022/12/21
الكاتب
ناثان براون

يستحضر مصطلح «الإسلام السياسي» تشكيلة من الأفكار والحركات والمؤسسات والتنظيمات، أو أي مجال تتردد فيه المعتقدات أو الممارسات أو التعاليم أو الجهات الإسلامية على الساحة السياسية. تتضمن سياسات الإسلام جوانب عديدة لننتبه إليها. ويجب أن يُفهم مصطلح «الإسلام السياسي» في 2022 بالضبط وفقًا لمعانٍ بهذا التعدد.

لكن هذا يختلف عما كان الأمر عليه منذ عقد مضى، عندما كان المصطلح يعني أمرًا أكثر تحديدًا: محاولة من مجموعة بعينها من الجهات الاجتماعية – يُلقبون بـ«الإسلاميين» – لدخول ساحة التنافس السياسي، واعتمادًا بالتحديد على القنوات والقواعد الانتخابية المقررة (إذا كثُر تزعزعها والتفاوض بشأنها). ومن هذا المنظور، يمكن أن توصف قصة العقد الماضي في المنطقة بأنها كانت انهيارًا لمشروع الإسلام السياسي، وكذلك انهزامًا وانحلالًا له.

لكن بتأمله من منظور أكثر تنوعًا في المعاني، فإن سياسة الإسلام تستمر في العمل في طرق عديدة. ومن هذا المنطلق، فإن سياسة الإسلام أصبحت اليوم قوة عالمية أكثر مما كانت في العقد الماضي. اعتاد الإسلاميون -ومعارضوهم- أن يجعلوا كل تركيزهم على ما يحدث داخل حدود بلادهم، وبحثوا خارجها عن النماذج والشعارات والمخططات والتكتيكات والتوجهات. أما الآن، يفوق الأمر مجرد محاكاة على مستوى حدودي، إننا نتحدث عن الأسلحة والتمويلات وتحالفات تعبر حدود «الشرق الأوسط» و«أفريقيا الشمالية».

ورغم وجود عناصر مميزة للدور البارز للدين في السياسة الإقليمية، فإنه ليس بأمر غريب. فمجال الشؤون التي نشير إليها باسم «الدين» نادرًا ما تكون بمعزل تام عن السياسة أينما ذهبنا حول العالم. ورغم ذلك، فإن المظاهر الخاصة بالإسلام السياسي في «الشرق الأوسط» قد اتخذت أشكالًا فريدة في السنوات الأخيرة.

هل انهزم الإسلام السياسي؟

خلال العقدين الماضيين، ازداد انخراط الحركات الإسلامية في كثير من الدول في السياسة الانتخابية وإن لم يكن بقدر متساوٍ. لم تحصل أي منها على سلطة سياسية نتيجة للانتخابات -إذ لم تكن الانتخابات تنافسية بما يكفي للوصول إلى نتيجة كهذه – باستثناء «فلسطين». وكانت نتائج انتصار «حماس» في الانتخابات الفلسطينية البرلمانية لعام 2006 مزعزعة للاستقرار لدرجة تبني أغلب الأحزاب الإسلامية معادلتهم القائلة بـ«المشاركة وليس الهيمنة». صممت الحركات الإسلامية في كل من الأردن والمغرب والجزائر والكويت واليمن مؤسسات شبه حزبية كطريقة ليستمروا في مهمتهم لزيادة دور الإسلام في الحياة العامة.

في 2012، كان الإسلاميون الساعون خلف السلطة بأخذهم المسار الانتخابي هم أصحاب أقوى التوجهات الفاعلة في كثير من دول المنطقة. لم تكن هذه الصحوة مفاجئة إلا في مرحلة ما بعد الثورة، عندما أتيحت فرصة الحكم للأحزاب الإسلامية. وهذا عكس القول السابق بـ«المشاركة وليس الهيمنة» الذي تبنته الحركات الإسلامية طويلًا لطمأنة المنافسين والأنظمة بأنهم يريدون مقعدًا على الطاولة فحسب، وليس تأسيس أحكام ثيوقراطية. 

ومع ذلك، بدا أن الثورات التي اجتاحت العالم العربي في 2011 قد أتاحت فرصًا جديدة – وهو ما فعلته لفترة وجيزة. وقد تحول حزب حركة النهضة التونسي من اللاشرعية ليصبح أكبر حزب برلماني في الدولة، كما رأس حزب العدالة والتنمية المغربي مجلس الوزراء، كما كان الإسلاميون نشطون في سوريا واليمن وليبيا. وكانت جماعة الإخوان المسلمين الأبرز بين الجميع، إذ اتخذت الخطوة التي أحجمت عنها طويلًا بتأسيس حزب سياسي، والفوز بأغلبية برلمانية والفوز بالرئاسة بعد ذلك. 

كان هذا المنجز الأخير هو الذي شهد انعكاسًا جذريًا ومفاجئًا؛ وتاريخ دور الإخوان المسلمين في الحكم المصري في 2012 و2013 حافل ومثير للجدل لدرجة تستعصي على الشرح هنا، كما كان سقوطهم السريع والكلي غير مسبوق. لكن أحزابهم الشقيقة عانت من الانتكاسات في السنوات اللاحقة، فقد وقعت انشقاقات بين جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وفقدوا صفتهم القانونية، وانسحبت «الحركة الدستورية الإسلامية» الكويتية من دورتين انتخابيتين.

شهدت الدول الأخرى في الوقت ذاته تغيرات أقل أثبتت أن السياسة الانتخابية كانت محدودة في أي مما كان لها أن تحققه. فقد ظلت حماس الفلسطينية محصورة داخل غزة إلى يومنا – حيث حكمت دون منافس داخلي منذ الحرب الأهلية الفلسطينية القصيرة عام 2007. وبالنسبة إلى حزب الإصلاح اليمني، فقد وجد قدراته على إدارة الحملات البرلمانية محل جدال بينما كانت الدولة تغرق في نزاع مسلح مرير، وبالمثل، وجد الحزب الإسلامي العراقي قدراته المحدودة على تقديم مرشحين في المناطق العربية السنية لا تكاد تناسب المناخ الطائفي المضطرب لـ«عراق» ما بعد البعث. أما الثورة السورية فقد تحولت إلى حرب أهلية أقصيت فيها الأطراف المسلحة والأصولية الأطراف الأخرى عن الطريق.

كانت النتائج محبطة أيضًا في «شمال أفريقيا». وما كان يبدو عملية تسوية لم يفسح المجال للاحترام، بل للإسلاميين الذين هُمشوا في عام 2021 بعد عقد من أحداث 2011 الواعدة، حتى إن حزب العدالة والتنمية المغربي وجد نفسه مستبعدًا نتيجة للانتخابات. ووجد حزب النهضة التونسي أن المسار الانتخابي أدى إلى مأزق في المقام الأول، وبدا في ما بعد على شفير الانهيار عندما خرج الانقلاب الذاتي للرئيس في يوليو 2021 عن النظام الدستوري على نحو كامل.

بعض هذه الأحداث كانت ضعيفة الارتباط بالتحالف الإقليمي المتصاعد ضد مشروع «الأسلمة» عن طريق صناديق الاقتراع، بينما لم يكن بعضها الآخر متصلًا بهذا الأمر. لكن الاتجاه الإقليمي العام كان واضحًا. فربما استطاع الشاب المسلم الورع والطموح تنمية مهاراته الانتخابية في 2011، لكن في عام 2021، فإن مسلك كهذا يبدو غير واقعي في كل مكان تقريبًا في العالم العربي. وهذا يعني أن «الإسلام السياسي» إما أنه قد هُزم أو هُمش أو أُجبر على السبات.

سياسات الإسلام المستمرة 

لم يخرج الإسلام من المجال السياسي كليًا رغم ذلك. فبينما شهد كل من الحزب الإسلامي والسياسة الانتخابية انهيارًا إقليميًا عامًا، فإن الخلاف السياسي حول دور الإسلام في الحياة العامة ما زال موجودًا. لا يأتي هذا التنافس في منافسة انتخابية، لكنه انتقل إلى مجالات أخرى، بعضها ذات حدود واضحة والآخر غير محددة المعالم، لكن لا علاقة لأي منها بسياسات المنطقة.

أولًا، اتجهت بعض الجماعات ممن أظهروا ميلًا لاتباع طريق الإسلام السياسي – لا سيما الحركات السلفية التي دخلت عالم السياسة الانتخابية في مصر والكويت على وجه الخصوص- إلى تحويل مساراتها. لكنهم لم يختفوا ولم يكن انسحابهم دليلًا على الانمحاء.

وهذا يقودنا إلى الاتجاه الثاني الذي يعلن عن نفسه الآن، فقد عمّقت الفئات المختلفة لسياسات الإسلام تأثيرها على بعضها بعضًا عبر الحدود، بتأثيرات متتالية في أغلب الأحيان. فعلى سبيل المثال، أدى إلغاء الخيارات الانتخابية في بعض الدول إلى زيادة مصداقية الحركات الجهادية في دول أخرى، وكان للتحولات في المؤسسات الدينية في بعض الدول الرائدة مثل المملكة العربية السعودية ومصر تأثيرًا على مؤسسات أخرى حيث يختلط الإسلام مع السياسة. وبشكل خاص، قد تكون المواقف المحتدمة لقيادات المؤسسات السعودية والمصرية والإماراتية ضد جماعة الإخوان المسلمين حرمت تلك الحركة من منطقة كان بإمكانهم الاعتماد على رعاة متعاطفين وربما داعمين.

ثالثًا، تلك المؤسسات الدينية التابعة للدولة – التي رأى بعض النشطاء السياسيين الإسلاميين أن قادتها يشبهون الأنظمة القائمة كثيرًا – أثبتت أن لصوتها صدىً قويًا في المجتمع. ولا توجد مؤسسة دينية تُعد معقلًا لمعارضة النظام الذي يترأس جهاز الدولة، لكن بعضها- مثل الأزهر الشريف في مصر على نحو الخصوص

– حقق استقلالية بليغة في أعقاب 2011. أما في تونس، فقد اندلع صراعًا صامتًا بشأن إدارة «الزيتونة»، وهي أيضًا جامعة إسلامية ذات نفوذ وتأثير دوليين. وتقوم وزارات الشؤون الدينية أحيانًا بمراقبة الخطب – أو صوغها.

كذلك فإن التربية الدينية مادة إلزامية في المدارس الابتدائية والثانوية في أغلب دول المنطقة، مما يجعل المناهج الدراسية ساحة معركة أخرى بين المقاربات المقابلة للدين. المؤسسات الدينية الحكومية هي ساحة يتردد عليها تنافس مختلف التوجهات، سواءً تمثل ذلك في تنظيم المعلمين في الأردن، أو مناقشة استحسان الخطب المفروضة من الحكومة في مصر، أو تهميش أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الحكومية التي تُعد شبيهة بالإخوان المسلمين في المملكة العربية السعودية.

رابعًا، أثارت قوانين الأحوال الشخصية سلسلة من النقاشات في المنطقة، حول المواريث في تونس، والطلاق في كل من مصر وفلسطين، وكذلك الصيغ التشريعية في السعودية. قد تبدو أهمية هذه النقاشات مبالغ فيها للوهلة الأولى نظرًا لأنها تسفر عن أحاديث أكثر مما تؤدي إلى تغيرات جوهرية. لكن هذا بيت القصيد، فحتى في الدول التي تخضع السياسة فيها إلى القيود، حيث تكون حرية التعبير محدودة، وحيث تتعمق الشكوك المتبادلة بين مختلف التوجهات (المحافظ والنسوي والإصلاحي والمعني بالأمان)، فمن الصعب إجراء تغييرات فعلية على القانون بسبب كل من الأفراد المتأثرين بشدة – وعلى نحو شخصي – والأطراف السياسية – داخل وخارج الدولة – ممن يتعقبون عن كثب أي تغيير مقترح. حتى في الدول التي يمكن لقادتها السياسيين تحويل ما يريدونه إلى قانون دون نقاش جاد- وأقل معارضة ممكنة- فإن قانون الأحوال الشخصية برغم الحساسية التي يشكلها بالنسبة الجماعات المتدينة، يقاوم التغيرات الجوهرية.

خامسًا، ما زالت الجهادية تمثل قوة في المنطقة. فالحركات الجهادية عادة ما تقدم نفسها على أنها نقيض للإسلام السياسي – بالتعريف المحدود لهذا المصطلح، والجهاديون يظهرون ازدراءً عميقًا لفكرة أسلمة المجتمع باتخاذ المسار السياسي القانوني عبر اجتماعات اللجان البرلمانية أو عمليات فرز الأصوات الانتخابية أو من خلال الإصلاح التدريجي. لكن إن كانت الجهادية تقدم مسارًا بديلًا على نحو راديكالي، فيبدو أنه ليس مسارًا قابلًا لأن نسلكه. فقد بلغت الجهادية ذروتها بالانتشار السريع للدولة الإسلامية في منتصف العقد الماضي وما زالت تمثل قوة في كثير من دول المنطقة. وتركت الإجراءات المضادة لهذا التشدد آثارًا عميقة في الأنظمة الأمنية الصارمة، لذا فحتى إن كانت الحركات الجهادية قد بلغت ذروتها بالفعل كقوة، فإن تأثيرها سيظل محسوسًا لعدة سنوات. 

سادسًا، تزايدت الطائفية بشكل كبير كقوة سياسية في المنطقة. وكانت دومًا حاضرة بقوة في بعض الدول – لبنان على وجه أخص – لكن أبرز تطورات في العقد الماضي كان صعودها إلى مستوى السياسة الإقليمية. من المؤكد أن الطائفية ليست مصطلحًا دقيقًا، فليست المسائل العقائدية هي التي تحرك التحالفات الدولية والتدخلات العابرة للحدود. لكن التنافس وتدفقات الأسلحة والولاءات السياسية أصبحت أكثر ارتباطًا بالهويات الطائفية للشعوب والقادة أكثر من أي وقت مضى في القرون الأخيرة.

وأخيرًا، ربما توجد بعض المنافسات الهادئة وذات الأهمية البالغة في الوقت نفسه، لكنها لا تلقى اهتمامًا كافيًا، التي قد لا تظهر أهميتها السياسية لسنوات. كما أن فجوة عميقة بين الأجيال- في أغلب دول المنطقة- من ناحية التوجهات الثقافية ومصادر المعلومات وأنماط التفاعل الاجتماعي. وغالبًا ما يفهم الشباب- الذين يدخلون حياة البالغين الآن- أنهم  ثورات 2011 على أنها احتجاجات. ولم يبدأ الإحياء الديني الذي وقع في دول كثيرة منذ نصف عقد سياسيًا لهذه الدرجة، لكنه كان ذا أثر سياسي عميق على المدى الطويل. وإن كان أمرًا مشابهًا يحدث الآن، فقد لا نعرف عنه لوقت طويل. تشير التقارير المتواترة والانطباعية عن تراجع التدين في بعض الدوائر وقلة الإذعان لرموز السلطة الأكبر سنًا وخيبة أمل من معظم الأيديولوجيات السائدة إلى أن تغيرات مماثلة قد تكون على قدم وساق، لكنها لم تجلُ بعد بما يكفي لتعريفها ووصفها بدقة. 

المعيار العالمي

هل من المحتمل أن تتميز المنطقة بالارتباط الوثيق والمستمر بين الدين وعالم السياسة؟ وإذا كان المشروع المحدود للإسلام السياسي من الماضي، فهل من المحتمل أن تكون سياسة الإسلام قصة شرق أوسطية في العقد القادم؟ 

إلى حد ما. فليس هناك شيء غريب عندما يدور الأمر عن ارتباط الدين بالسياسة. وبالفعل، غالبًا ما تتطور علاقة الدين بالسياسة، لكن نادرًا أن تختفي. وما يختلف بتغير الوقت والمكان يقل أهمية عن الشكل الذي تتخذه. وقد ركز النضال السياسي على مر القرون في إسبانيا على مكانة الكنيسة، من ناحية ممتلكاتها ومكانتها في الهوية الوطنية ودورها في النظام التعليمي. لم يكن هذا النضال طويل الأمد فحسب، كان عنيفًا أيضًا. وأمور مثل مكانة البوذية في النظام السريلانكي، والعلاقة بين الهندوسية والدولة الهندية، ووضع الإسلام في “الصين” والجدالات بين التقليديين ودعاة العدالة الاجتماعية في الكاثوليكية أصبحت أكثر إثارة للجدل في العقود الأخيرة، وليس أقل. وقد دعا توماس جيفرسون Thomas Jefferson إلى الفصل بين الكنيسة والدولة في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن حتى في هذه الدولة -التي تبدو مهدًا للعلمانية- فإن سلطة هذه العبارة وكذلك معناها عند التنفيذ ما زالت موضع نقاش سياسي حاد إلى يومنا.

لا غرابة في السياسة الدينية. ربما ما يميز الشرق الأوسط هي مجموعة الهياكل المحددة – مثل الوزارات الشؤون الدينية ومفتي الدولة – وساحات الصراع – قوانين الأحوال الشخصية وتنظيم الخطب – الشائعة في المنطقة، ولكنها تفتقد على الأغلب إلى نظائر مماثلة تمامًا في أماكن أخرى. هذه الهياكل والساحات ليست خارج السياسة، بل ربما أصبحت أكثر تنازعًا على مدى العقد الماضي.

لم تحسم المسارات السياسية التي اتخذتها المجتمعات العربية طوال السنوات العشر الماضية أي نقاش. وأضعفت قوة الإسلام السياسي التي صورت بطريقة محدودة كمشروع انتخابي وتعرضت لسلسلة من الضربات مبرحة، لكن على أي حال، لن تسلك العقود القادمة طريق فصل السياسي عن الديني.