يظن البعض أن مصر أصابها الركود تمامًا بعد دخول العثمانيين عام 1517؛ وإن كنّا لا نشك في الركود، ولا ما ترتب عليه من تدهور الأوضاع على كافة المستويات، فاقتصاديًا تراجعت مصر تمامًا (لأنها أصبحتْ ولاية عثمانية)، وتدهورت الزراعة والصناعة والتجارة؛ وازداد الفقر في المدينة والريف على السواء، ولم يعبأ باشوات العثمانيين (الولاة) إلا بجمع الضرائب ونهب الفقراء؛ فتدهورت الأحوال الاجتماعية للمصريين، وثَقُل القهر والقمع من قبل الباشا العثماني وأجهزة الدولة وخاصة الإنكشارية.

ورغم ذلك لم تنعدم حركة التاريخ تمامًا، فظهرتْ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حركة استقلالية فتيّة قادها واحد من زعماء المماليك في مصر، حاولتْ سلخ مصر عن الدولة العثمانية وبناء دولة مستقلة.

مقدمات ظهور علي بك الكبير

ظهور أي حركة فارقة أو شبه فارقة في التاريخ، يرتبط بجملة من الظروف الموضوعية والذاتية، وحركة علي بك الكبير ليستْ بدعًا من الحركات، فهي أتتْ كاستجابة لظروف موضوعية وذاتية؛ ظروف موضوعية فرضها واقع المجتمع المصري حينئذ؛ وكذلك واقع الدولة العثمانية ذاتها، وواقع الأقاليم العربية الخاضعة للعثمانيين.

فقد عانى المجتمع المصري تحت حكم العثمانيين الذين يمثلهم الوالي الباشا المقيم في القلعة، ولا هم له إلا جمع الضرائب بكل سبل التعسف والتنكيل بالمصريين؛ فيرسل ما يرسله إلى إسطنبول، ويُبقي له ولحاشيته والإنكشارية ما تبقّى؛ ولكن ذلك لم يكن خالصًا.

فقد نازع الباشا الوالي نخبة من أمراء المماليك، عُرِفوا بـ «البكوات»، كانت بأيديهم مقاليد ما يمكن أن نسميه بالإدارة المحلية، فظهرت بيوتات مملوكية عدة تتصارع فيما بينها على منصب شيخ البلد، وهو منصب يتولاه أحد أمراء المماليك الكبار من ذوي القوة والبأس يكون مؤيدًا بفرمان من السلطان العثماني في إسطنبول.

وكانت هذه الصراعات، وحسبما سجّل لنا الجبرتي في تاريخه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، تتحول إلى تقاتل واحتراب؛ مما يجلب على المصريين المزيد من الفقر والدمار؛ فدائمًا كان المصريون -سواء في الحواضر أو الأرياف- هم ضحايا هذه الصراعات الناشبة.

وكما قلنا في المقدمة أعلاه فإن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كانت متردية طوال هذه الحقبة، وقد سجّل لنا الرحّالة الأوروبيون مدى ما عاناه الشعب المصري، وكذلك في تقارير القناصل ومندوبي الدول الأوروبية التي يرسلونها إلى دولهم.

وقد انعكس ذلك على أوضاع الأمن؛ فانتشر قُطّاع الطرق والنهّابة، وازداد تعسف العُربان الذين يغيرُون على القرى من أجل النهب والسلب. وتمثّلت هذه المظاهر في هجرة الفلاحين للأرض بسبب ثقل الضرائب وسوء نظام الالتزام (القبالة)، وخربتْ القرى بسبب ترك الفلاحين، فضلًا عن انتشار الأمراض والأوبئة التي كانت تحصد أرواح آلاف الفلاحين، ولم يهتم العثمانيون ولا البكوات المماليك بأمر الترع والجسور والقنوات.

ولم تكن المدن بأحسن حالًا، حيث عانى الحرفيون وعانتْ حرفهم بسبب كثرة الضرائب والمكوس وتدهور العملة وارتفاع أسعار الخامات ودخول المنتجات الأجنبية، مما انعكس على مستوى المعيشة في المدن، وكسدت التجارة نتيجة انعدام الأمن؛ فأدى ذلك لظاهرة الصعلكة، وانتشار ما أسماهم الجبرتي بـ «الزعار والشطار والمناسر»، وفقراء الصوفية، ولقد صوّر لنا الأديب «عبد الغفار مكاوي» مأساوية الوضع في روايته الأثيرة: «السائرون نيامًا»، وذكر الجبرتي في تاريخه الكثير من الأمثلة والحوادث في هذا الصدد.

أمّا واقع الدولة العثمانية وأقاليمها العربية، وحتى في أوروبا الشرقية والوسطى وشرق الأناضول المتاخم للقاجاريين (إيران)، كانت الحركات الانفصالية وشبه الاستقلالية بدأت تنشط بقوة إبان القرن الثامن عشر، فحركة علي بك الكبير في مصر والشام جاءت في سياق انشقاقات عديدة يضيق الحديث عنها، ونجد ذلك في إشارة واضحة للشيخ «ضاهر (أو ظاهر) العمر» حليف وصديق علي بك الكبير الذي انشق في الشام، وكان هو وعلي بك الكبير أكبر تحدٍ واجهه الأتراك العثمانيون حينئذ.

ونود أنْ نُشير إلى أن ظروف الحرب بين العثمانيين وروسيا القيصرية كانت عاملًا مُشجِّعًا لظهور حركة علي بك الكبير في مصر في ستينيات القرن الثامن عشر.

في ظل هذا الوضع المتفاقم ظهرتْ شخصية مملوكية كبيرة تولتْ مشيخة البلد، واستطاعت التخلص من السيطرة العثمانية نسبيًا، وحاولت بناء دولة مستقلة، هي شخصية علي بك الكبير، وهذا لا يعني أنْ نعتبر حركة علي بك الكبير حركة قوامها الشعب وخرجتْ من قلب الشعب؛ فهي تظل ضمن سياق الصراع (المملوكي-المملوكي) والصراع (المملوكي-العثماني)، ولكن ما فعله علي بك الكبير كانت له انعكاسات على طبقات الشعب المصري، وخاصةً العامة أو السواد الأعظم التي تتأثر سلبًا أو إيجابًا بالمتغيرات السياسية، وهذا ما سنلمسه في الفقرات التالية.

منْ هو علي بك الكبير؟

معلوماتنا عن الأمراء المماليك وسلاطينهم في طفولتهم محدودة أو ضئيلة، فالمصادر التاريخية لم تعبأ بهم إلا وهم في قمة شهرتهم ومجدهم، تواجهنا مشكلة كبيرة في معرفة نشأة علي بك في طفولته، كل ما هنالك مجرد أقاويل متداولة لا يُعتد بها كثيرًا. ولكن أمامنا مصدر مهم حاول أن يسد هذه الفجوة وهو كتاب «سوفور لوزينيان» المُعنوَن بالإنجليزية «A History Of The Revolt Ali Bey».

يذكر لوزينيان والذي نقل عنه الباحث المصري «محمد رفعت رمضان» في رسالته للماجستير التي قدمها لجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا) عام 1950، أن علي بك الكبير اسمه «يوسف بن داوود»، وهو من أسرة مسيحية أرثوذكسية من بلاد الأبخاز (الأباظة) التي استقلت عن جمهورية جورجيا السوفييتية في تسعينيات القرن الماضي. وغالبًا كان مولده عام 1728. والمثير في المعلومات الواردة أن والد علي بك الكبير كان قسًا أرثوذكسيًا، وكان يَعُد ابنه ليكون كذلك لولا أنه تم اختطافه من قبل قُطّاع الطرق حينما كان يمرح مع أصدقائه في إحدى الغابات، وتم بيعه لـ «كرد أحمد» (أحد أهم تُجّار الرقيق في تلك الحقبة)، والذي باعه بدوره في الإسكندرية لمديري جمركها اليهوديين (إسحاق ويوسف وهما أخوان)، وبدورها أهدياه لـ «إبراهيم جاويش اليكجيري». [1]

تعلم الفتى يوسف أصول القراءة والكتابة، كما كل المماليك، وتعلّم شيئًا من القرآن والدين، وكذلك تعلّم الكتابة بالتركية والعربية، وسُمِّي «علي» بعد أنْ اعتنق الإسلام، والتحق بخدمة أحد الأمراء المماليك الكبار، وهو «إبراهيم الكيخيا»، وصار واحدًا من أهم رجاله؛ خاصةً بعد أنْ تولى كشوفية الشرقية، ثم أصبح صنجقًا [2] عام 1754 بعد وفاة أستاذه إبراهيم الكيخيا.

لقّبه المصريون بـ «جن علي»، وهو يعني النشيط الذي يَغلِب ولا يُغلَبْ؛ لأنه استطاع القضاء على فساد العربان الذين طالما كانوا يهاجمون الأرياف والمدن لسلبها ونهبها وترويع الناس. كان البك شديد المكر والدهاء كان يتحيّن الفرصة تلو الأخرى لتحقيق طموحاته التي لا يحدها حدود، ومن مفارقات القدر أنْ صار علي بك الكبير أميرًا للحج (وهو منصب مرموق ويحوز من أسند إليه شرفًا عظيمًا) وذاك عام 1766.

مرتان حاز فيهما علي بك الكبير منصب شيخ البلد، وعُزِل بينهما، أو بمعنى أدق تم الانقلاب عليه، لكنه عاد في الثانية بشكل أكثر قوة واستطاع الإطاحة بكل خصومه من الأمراء المنافسين وخاصة: صالح بك وحسين بك (المشهور بكشكش)، كما أطاح بـ «عبد الرحمن كتخدا»، ودانت له القاهرة والوجه البحري، ودعّمه الباب العالي في البداية.

كما استطاع القضاء على حركة العربان في الدلتا بقضائه على كبيرهم (سويلم بن حبيب)، ثم اتجه للصعيد الذي وقع في قبضة همام شيخ العرب، وكان قد استقل لبعض الوقت عن باقي القطر المصري، ثم تطلعت أنظاره إلى الخارج، فأرسل حملة للحجاز بقيادة ساعده الأيمن وزوج ابنته «محمد بك الخازندار» -الذي عُرف فيما بعد بـ «محمد بك أبو الذهب»- وذلك لحسم الصراع على إمارة مكة بين الفريقين المتنازعين على منصب الشريف، وكان النزاع بين كل من: مساعد بن سعيد، وعبد الله بن حسين بن يحيي من آل بركات، الذي استنجد بعلي بك الكبير.

وفعلًا استطاعت حملة محمد بك أبو الذهب بعد دراسة الموقف بأمر من علي بك، التدخل وإعادة الشريف عبد الله بن حسين، ومن هنا بسط علي بك الكبير نفوذه على الحجاز، وأمّن طريق تجارة الترانزيت (المرور) عبر البحر الأحمر، الذي كانت تَدخُله الأساطيل التجارية القادمة من الشرق الأقصى والهند، وكان ميناء جدة ذا أهمية قصوى في هذا الصدد، وجدة كما هو معروف تقع ضمن نطاق المدينة المقدسة.

وبتحالف علي بك الكبير مع الشيخ ضاهر العمر (أقوى أمراء الشام) والذي حكم فلسطين، استطاع علي بك كبير ضم الشام، ودخل الجيش المصري دمشق، لولا أن العثمانيين قد استمالوا قائده محمد بك أبو الذهب الذي انسحب بحاميته دون أسباب، وانقلب على سيده وولي نعمته؛ ليلقى علي بك مصرعه بعد خيانة محمد بك وعدد من مماليكه، وكان ذلك حدًا لنفوذ البك الذي هدّد السلطنة العثمانية؛ لتعود التجربة مرة أخرى بعد عدة عقود على يد محمد علي باشا الكبير عام 1805.

إصلاحات علي بك الكبير وموقف الشعب

حينما نُعدِّد إصلاحات علي بك الكبير، فيمكن إجمالها فيما يلي:

  1. القضاء على قُطّاع الطرق ومفاسد العربان.
  2. ضبط العملة، وصكّ عملة جديدة.
  3. عقد عدد من الاتفاقيات التجارية مع القناصل الأوروبية؛ للتبادل التجاري، فأصبحت مصر بموجبها قبلة التجارة في الشرق الأوسط، وقد نقل العديد من القناصل والتُجّار نشاطهم من إسطنبول إلى القاهرة.
  4. الاهتمام بالزراعة والصناعة والتجارة، ومحاولة ضبط الأسعار، وإصلاح أحوال الناس المعيشية؛ بإسقاط العديد من الضرائب والمكوس، وعدم اللجوء لفرض ضرائب جديدة إلا عند الضرورة.
  5. الاهتمام بالطرق التجارية وإصلاح الموانئ، بعد أن استطاع علي بك الكبير السيطرة على الحجاز، والشام، كما أمّن طريق الأربعين الذي يبدأ من أسيوط حتى يصل إلى السودان ووسط أفريقيا.

هذه الإصلاحات، وخاصةً فيما يتعلق بالأسواق والأسعار لأنها تمس حياة الناس، جعلت عامة الناس يحسون بشيء من الأمان والطمأنينة، وأحسّوا بأن وطأة القهر والاستغلال قد خفتْ بعض الشيء، مما جعل عامة الناس تلتف حول حركة بك الكبير، وسانده كذلك عدد لا بأس به من علماء الأزهر. ولكن ذلك لم يمنع من بعض التجاوزات التي كان يقوم بها مماليك علي بك الكبير كما جرت به العادة في هذا العصر.

تقييم عام

ويتبقّى مشروع عن دوافع هذه الحركة وما وراءها. بالطبع لا يمكن الارتكان لتفسير آحادي أرجعه البعض إلى حب علي بك الكبير لجاريته نفيسة (نفيسة البيضاء) وهي شركسية الأصل اشتراها وتزوجها على زوجته عائشة خاتون، ونفيسة هذه معروفة بحبها للخير، وأحبّت المصريين وأحبتْ مصر؛ فلذلك رأى البعض أنها هي الدافع لتصرفات علي بك الكبير.

هذا طرح يبدو ساذجًا، فحركة التاريخ لا تُؤخذ هكذا، هناك قوانين موضوعية هي التي ساهمت في ظهور علي بك الكبير، وفرضت نفسها على عصره فجعلته يتصرف بتلك الطريقة أو تلك، ولا ننفي بالقطع العامل الذاتي الذي كان له أكبر الأثر بالقطع، وهو منظور جدلي (ديالكتيكي) بين الذاتي والموضوعي.

كانت حركة علي بك الكبير ستكون أعمق وأكثر جذرية لو أنها خرجت من أحشاء حركة جماهيرية مناوئة للعثمانيين والمماليك على السواء؛ ولكن لم تكن الظروف الموضوعية مُهيأة للمصريين حينئذ. ما فعله علي بك الكبير بالقطع لو استمر كان سينقل مصر نقلة نوعية مبكرة، هذه النقلة تأخرت حتى اعتلى محمد علي باشا عرش مصر في أوائل القرن التاسع عشر.

المراجع
  1. Lusignan: A History of the Revolt Ali Bey. P.56.
    وراجع كذلك: محمد رفعت رمضان، “على بك الكبير”، القاهرة، دار الفكر العربي، 1950، صـ 18-19.
  2. الصنجق أو السنجق بالسين، وكذا بالصاد: هي كلمة تركية تعني العلم أو الراية، كما تعني كذلك الرمح أو اللواء، وكانت وظيفة وُجدتْ في العصر العثماني، ولها جذور في العصر المملوكي، وهي تشير إلى حامل اللواء أو العلم أو الراية أو اللواء، وكان له إقطاع معين يعرف بالصنجقية/السنجقية. وتُجمَع على سناجق/صناجق. راجع: محمد أحمد دهمان، “معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي”، بيروت، دار الفكر المعاصر، دمشق، دار الفكر، 1410هـ، 1990م، صـ 93. بالإضافة إلى: الجبرتي، “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، ترجمة: عبد الرحمن عبد الرحيم، تقديم: عبد العظيم رمضان، دار الكتب، القاهرة، 1997م، ج1، (فترة علي بك الكبير كاملة).

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.