16 عامًا في منصب المستشارية جعلت من أنجيلا ميركل والسياسة الألمانية وجهين لعملة واحدة، لدرجة أن المتنافسين على المنصب بعدها يقدّمون أنفسهم للناخبين باعتبارهم ورثتها السياسيين وامتدادها. وهناك جيل كامل من الألمان لم يعرف مستشارًا ألمانيًا غير ميركل، المرأة القوية أول من يتصل بها الرئيس الأمريكي الجديد من بين كافة القادة الأوروبيين.

هذا الاختيار السهل الذي كان الألمان يختارونه حين يتوجهون إلى صناديق الاقتراع لم يعد موجودًا، وبات على الشارع الألماني أن يشهد انقسامًا سياسيًا لم يشهده منذ سنوات طويلة. فقد استطاع الحزب الاشتراكي الديموقراطي وحزب الخضر، حزب وسط اليسار، أن يضيفا 5% من الأصوات لرصيدهم الانتخابي. بينما قدّم حزب ميركل، الديموقراطي المسيحي، أسوأ أداء له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ما يعني أن الحزب الاشتراكي الديموقراطي هو من سيكون له الحق في محاولة تشكيل الحكومة الجديدة. رغم أنه لم يكن أحد منذ بضعة شهور مضت فحسب يتوقع أن الحزب الاشتراكي بقيادة أولاف شولتس سيكون هو المنوط بتشكيل الحكومة. لكن الحزب استطاع أن يتحول من مجرد حزب صغير في ائتلاف ميركل الكبير، الاتحاد الديموقراطي المسيحي، إلى كيان منافس بقاعدة جماهيرية كبيرة.

صعود أولاف شولتس للواجهة هو الوجه الآخر لفشل الاتحاد الديموقراطي المسيحي في تحديد وجهته بعد رحيل ميركل. رغم أن ميركل أعلنت عن رحيلها مبكرًا، منذ عام 2018، وقد كان أمام الاتحاد متسع من الوقت للتفكير في تلك الحقبة لكن خطط الاتحاد لم تنجح.

حاول الاتحاد أولًا تقديم أنجريت كرامب كارينباور لتكون خليفةً لميركل لكنها استقالت عام 2020 من القيادة. وفي اقتراع جديد اختار الاتحاد أرميت لاشيت زعيمًا للاتحاد، لكن أسلوبه السياسي فشل في اجتذاب الزخم الجماهيري المطلوب. وأتت السنة الماضية والجائحة الوبائية لتعيد تشكيل كل شيء، فمال الجمهور إلى أولاف شولتس ذي الطابع الوقور والكلام الهادئ.

اليمين المتطرف يتراجع إجمالًا

التعامل مع الحزب الاشتراكي الديموقراطي والحزب الديموقراطي المسيحي كأعداء غير صحيح، ولعل ذلك هو سبب النبرة الهادئة التي يتحدث بها شولتس. فقد صرّح سابقًا أنه لو أتيحت له فرصة تشكيل حكومة فسوف يشكلها بالتحالف مع حزب الخضر فقط. لكن النتائج التي تظهر تباعًا في الأيام الماضية تؤكد أن الاثنين لن يمتلكا النسبة الكافية لتسمح لهما بتشكيل حكومة منفردين، لذا فهما بحاجة إلى حزب ثالث بالتأكيد.

المعضلة ليست في تكوين حكومة ائتلافية، لأن الحكومات الائتلافية تكاد تكون هي القاعدة العامة في الحالة الألمانية. لدرجة أن التحالفات تُعطى أسماءً بناءً على الكيانات المتحالفة، فمثل كلمة الائتلاف الكبير تُطلق على تحالف الحزب الديموقراطي الاشتراكي والحزب الديموقراطي المسيحي كونهما أكبر حزبين. وائتلاف كينيا، يُطلق على ائتلاف السابقين مضافًا لهما حزب الخضر، أو ائتلاف جامايكا يُطلق على ائتلاف المسيحي والخضر والديموقراطي المروج للسوق الحرة.

وتُقدم الأحزاب علانيةً شروطها للانضمام إلى الائتلاف الحاكم، وبعضهم يُعلن أنه لن يُقدم أي تنازلات للدخول في أي تحالفات. فمثلاً الحزب الديموقراطي الحر يرفض أن يكون شريكًا صغيرًا في الحكومة تحت أي ظرف، ويُصر أن يحتفظ بمبادئه المُعلنة نقيةً. أما حزب اليسار فلم يُعلن عن شروطه للانضمام للتحالفات، لأنه يعيش كارثة أكبر، فقد خسر قرابة 50% من قواعده الجماهيرية، وفي أفضل السيناريوهات قد يجلس في البرلمان الألماني بأقل نسبة أصوات ممكنة.

وعلى ذِكر التراجع فقد تراجعت الأصوات الممنوحة لليمين المتطرف عمومًا، ولحزب البديل من أجل ألمانيا خاصة. هذا التراجع مطمئن إجمالًا، لكن بنظرة تفصيلية نجد أن التصويت لليمين المتطرف مرتفع في مناطق محددة مثل تورينجيا، وساكسونيا، وساكسونيا أنهاليت. اللافت في تلك المناطق تحديدًا أن المصوتين للحزب ليسوا من كبار السن الذين يحنّون لأيام الديكتاتورية، بل من الشباب صغار السن الذين يرفضون الهجرة، والذين رفضوا إجراءات مكافحة كورونا.

والمطئمن هو الاتفاق بين الأحزاب الأخرى على عدم التعاون مع ذلك الحزب ونبذه سياسيًا. خاصة بعد الانتفاضة التي قامت حين تحالفت أصوات من الديموقراطي الحر والديموقراطي المسيحي مع حزب البديل من أجل دعمهم في انتخابات الولاية، وعلى إثر ذلك التحالف قدمت كارينباور استقالتها من قيادة الديموقراطي المسيحي.

شولتس يفوز بحق المحاولة

في منتصف مارس/ آذار عام 2018 أعلنت ميركل تعيين شولتس وزيرًا للمالية ونائبًا لها، بسبب التحالف بينها وبين حزبه. شولتس هو من منح ميركل الولاية الرابعة بقبوله التحالف معها، وميركل منحته بابًا ذهبيًا للعودة للمشهد السياسي بعد أكثر من 9 سنوات خارجه مكتفيًا بمنصب عمدة مدينة هامبورج.

في منصبه كعمدة أدخل عددًا من الإصلاحات على اقتصاد المدينة جعلتها مركزًا اقتصاديًا ممتازًا، وساهمت إصلاحاته في انتعاش الاقتصاد الألماني ككل، لهذا كان منصب وزير المالية هو أفضل منصب له. واستطاع تجاوز الاختبار الصعب الذي فرضته جائحة كورونا، ونجح في مساعدة ألمانيا للخروج بأقل خسائر اقتصادية من بين جيرانها الأوروبيين، وذلك بفضل خطته التمويلية التي قامت على تقديم 750 مليار دولار للمواطنين والشركات الألمانية كدعم لتخطي الأزمة.

هذا النجاح الاقتصادي هو من دفع بالحزب الاشتراكي، أو الاجتماعي كما يُدعى أحيانًا، لإعلانه مرشحهم الرسمي لخلافة ميركل. رغم أن شولتس قد خسر انتخابات رئاسة الحزب قبل بداية الجائحة بشهور قليلة، فظنّ الجميع أنه خرج من السباق مبكرًا، لكنّه عاد إليه بقوة عبر الجائحة.

شولتس، وحزبه، يعلنون أنهم لا يكرهون المهاجرين، بل يرحبون بالجميع. ويدعمون فرض ضرائب متفاوتة تزيد على الأغنياء وتقل على الفقراء. كما يدعو شولتس لوقف بيع السلاح إلى الدول ذات السجل غير النظيف في مجال حقوق الإنسان. لكن الأمر لا يتوقف على هوى المستشار فقط، بل يخضع لموازنات معقدة قد تجعل تشكيل الحكومة أمرًا معقدًا يستغرق شهورًا كما حدث في حكومة ميركل الأخيرة، التي استغرقت 6 أشهر كاملة لتكوينها قبل أن تحلف ميركل اليمين الدستورية.

ويتوقع أن تكوين حكومة في ظل الاستقطاب الحالي سوف يكون أمرًا أصعب من السابق، خصوصًا أن الحزبين الكبيرين يتطلعان لمنصب المستشارية، ولا يقبل أحدهما أن يكون ظلًا للآخر.

فجوة في أوروبا

مهما يكن من سيخلف ميركل، شولتس الأقرب أو غيره، فإن أمام المستشار الألماني القادم سنوات صعبة كي يثبت فيها أن بإمكانه أن يحل محل ميركل أوروبيًا، وأن يملأ الفجوة الضخمة التي سوف يسببها رحيلها على الساحة الدولية. وقطعًا عليه أن يثبت كفاءته لناخبي الداخل الألماني، الذين تشغلهم قضايا مختلفة أبرزها في استطلاعات الرأي التغير المناخي والبيئة، والعدالة الاجتماعية، والهجرة، والاقتصاد وتعافيه من آثار الجائحة الوبائية.

كما أن المستشار الجديد سيكون أمام تحدٍ شديد الصعوبة هو الحسم والمواقف الواضحة. استطاعت ميركل طوال 16 عامًا أن تتجنب الدخول في معركة مباشرة مع أي خصم، ولم تتبنى موقفًا راديكاليًا في الغالب، بل عمدت إلى الحلول الوسط.

لكن توزيع الأصوات الحالي في البوندستاج يشير إلى أن الناخب الألماني بات يشعر من الملل من تلك الطريقة الخطابية الوسطية، وبدأت عدوى اليمين المتطرف التي أصابت دولًا عديدة في أوروبا بالتغلغل خفية إليه. صحيح أنها لم تظهر بقوة في الانتخابات الراهنة، لكن استطلاعات الرأي تؤكد أن الناخبين يطمحون لقرارات أشد جراءة وحسمًا من أحزابهم، بدلًا من المواقف الشعبية التقليدية.

ربما يمكن النظر إلى تلك الرغبة الشعبية في التجديد نظرة جيدة، فالمستشار الجديد سيكون أمامه فرصة بناء مساره الخاص، ولن تكبّله الميركليّة. فالشعب يفتقد ميركل كشخصية سياسية أحبها على مدار 16 عامًا، لكن الألمان حتى الآن لم يعلنوا في استطلاعات الرأي أنهم يريدون السير على نفس خطى ميركل ولكن في ظل أسماء ووجوه جديدة.