أنا سعيد جدًا بالفوز، لكن ماذا الآن؟

چيري، أرجنتيني يشاطرك على الأغلب نفس الشعور؛ لا يزال يرتدي قميصًا يتوسطه اسم «ميسي»، يعيد تشغيل مباراة «لوسيل» كلما سنحت له الفرصة ويحفظ مجريات المباراة المُعقّدة أمام فرنسا عن ظهر قلبٍ. كيف لا، وقد اختبر قبل أيام تجربته الكروية الأمتع على الإطلاق، حين توّج منتخب بلاده بالنجمة العالمية الثالثة. 

ومع ذلك، يشعر الشاب الذي ولد في مدينة «ميندوزا» أنّه يعاني من أعراض اكتئاب، مثل كثير من مشجعي كرة القدم حول العالم، الذين وجدوا أنفسهم فجأة أمام سؤال واحد: «ماذا الآن؟» 

في انتظار المصعد

معظم الناس، عند انتظار المصعد، يستمرون في الضغط على الزر كما لو أن ذلك سيجعل المصعد يأتي بشكل أسرع. سلوك غير منطقي، لكنّه يحدث. 
بالاجي جايا براكاش، الأستاذ بمركز علم الأعصاب في المعهد الهندي للعلوم.

مع انتهاء نسخة كأس العالم قطر الاستثنائية 2022، دارت عجلة دوريات كرة القدم سريعًا، وبعد جرعة مكثفة من كرة القدم الدولية طوال نحو شهرٍ كامل، تبدأ فترة من الملل، الشعور بالغياب، كما لو أنّ مشجع كرة القدم فقد شيئًا ذا مغزى. 

وفقًا لمؤسسة الصحة العقلية البريطانية، اكتئاب ما بعد كأس العالم شعور حقيقي للغاية. حيث اتضح بعد دراسة العلاقة بين المشجع وكرة القدم، أن السبب في فترة الفراغ التي يعاني منها المشجع بعد انتهاء حدث دولي ضخم يرجع بالأساس لفقدانه اثنين من مظاهر التشجيع: «التنفيس» و«الهوّية». 

تؤكد الإنجليزية «راشيل بوشان»، الطبيبة النفسية، أنّ أثر انتهاء تجربة مثل كأس العالم على المشجع يشبه تمامًا انتهاء العطلة: أي إحساس بالفجوة بين ما هو ممتع ومثير وكُل ما هو روتيني. بالتالي، حرمان المشجِّع من حقه في التنفيس عن غضبه تجاه حياته العادية بشكل مُبرر. 

من جهة أخرى، يعتقد «مارك رولان»، مدير التواصل بمؤسسة الصحة العقلية البريطانية، أن السبب الثاني لهذه الحالة من الملل هو اختفاء رابط الهويّة، الذي يجمع ملايين البشر حول شيء واحد، وليكُن تشجيع منتخب ما، حيث يستثمر هؤلاء في إنشاء روابط عاطفية مع مجموعات من أخرى من البشر، يشتركون معهم فقط في إيمانهم بنفس الروايات الكروية. 

لذا، حين تنتهي البطولة، يظل المُشجِّع يبحث عن نفس الجرعة من الدوبامين التي منحته إياها أجواء المسابقة على مدار شهر بشكل تدريجي دون جدوى أو بالأحرى، يستمر في الضغط على زر المصعد في انتظار أن يأتي سريعًا. بينما يكون الشعور بالفراغ رد فعل طبيعي على عدم الاستجابة، بشكل يشبه أعراض الانسحاب من الإدمان. 

لست وحدك

كأس العالم تستنزف اللاعبين. 
چيريمي سناب، الطبيب النفسي السابق بنادي كريستال بالاس الإنجليزي. 

سواءً كان سعيدًا قدر سعادة «ميسي» بتحقيق الكأس، أو مُحبط مثل «مبابي»، الذي لم تسعفه ثلاثيته في النهائي في الظفر باللقب، يتأثَّر كل اللاعبين ذهنيًا بالمشاركة في كأس العالم. وعلى عكس المشجِّع، يحتاج اللاعب المحترف لفترة من الوقت حتى يتأقلم مع انتهاء كأس العالم. 

يعتقد رينيه مولنستين، مدرب مانشستر يونايتد السابق، أنّ شعور اللاعبين بالفراغ بعد المونديال يبدو منطقيًا؛ لأنّ اللاعبين عليهم التعامُل مع عدد كبير من المباريات في وقت ضيق، إضافة لاختبار التعامل في دوّامات من خيبات الأمل والنشوة. والأهم، ابتلاع التجربة كاملةً؛ لعدم توفُّر وقت مناسب لهضمها وتحليلها بشكل منطقي. 

في الواقع، يُرجَّح أن التأثير الذهني لكأس العالم 2022 على اللاعبين سيكون أكثر تعقيدًا؛ لأن الفارق الزمني بين انتهاء البطولة وبداية الدوريات المحلية قليل جدًا، 8 أيامٍ فقط في حالة الدوري الإنجليزي الممتاز، عكس فترة الراحة الطبيعية التي كانت تمتد عادة لشهر كامل. 

ربما نقف الآن أمام حالة جديدة، فطبقًا لمصدر لم يصرّح موقع «ذي أثليتيك» باسمه، بعض اللاعبين تعاملوا مع بطولة كأس العالم المقامة بالدوحة كأنَّها نهاية موسمهم الكروي، ربما شرد ذهنك وتوقعت أسماء بعض هؤلاء اللاعبين الآن. الأهم، أن ذلك يعني بداهةً صعوبة إقناعهم بأن كأس العالم انتهت، وأن الموسم الرياضي لا يزال في منتصفه، وعليهم أن يخلقوا مجموعة من الدوافع الجديدة لاستكمال الموسم. 

عندما يكون لدى اللاعب هدف كبير، يفرز دماغه مادتي الدوبامين والتيستوستيرون، المسؤولتين عن التركيز والتصميم والثقة في الأداء. وعند انتهاء هذا الرحلة، يجد اللاعب نفسه مطالبًا بالمُضي قدمًا في رحلة أخرى لكنّها طويلة الأمد (المنافسة على لقب الدوري). 
ما سيحدث بشكل طبيعي في الدماغ والجسم هو انخفاض في الدوبامين والتستوستيرون، الذي يعني تراجعًا في مستويات أداء اللاعب وتركيزه. 
مارك بودين، استشاري الأداء العقلي لبعض أندية الدوري الإنجليزي. 

هذه هي المشكلة الحقيقية، التعامل مع اللاعبين كروبوتات ليس أمرًا جديدًا، لكن في هذه الحالة تحديدًا، على اللاعب أن يتناسى كونه بطل عالم أو أكثر البشر إحباطًا، فقط ليعود من أجل المشاركة مع فريقه في الدوري المحلي. 

خرافة الإجهاد 

في المستوى العالي من كرة القدم، الإرهاق البدني أثناء المباراة يكون نتيجة الإرهاق الذهني، غير ذلك هو مجرّد شماعة.  
مُحمدي علوي، المحلل الفني لقنوات «Bein Sports».

على الرغم من تأكيد عدة متخصصين أن تراجع مستوى أي لاعب عقب اشتراكه بمسابقة دولية كُبرى مثل كأس العالم مشكلة ذهنية، يجادل البعض الآخر أنّ بطولة كأس العالم قطر 2022 قد تتسبب في انهيار موسم بعض اللاعبين. لكن كيف؟ 

في سبتمبر/أيلول 2022، أي قبل انطلاق كأس العالم بنحو شهرين، نشر موقع «ESPN» الإنجليزي تقريرًا بعنوان: «هل ستكون كأس العالم مليئة بالنجوم المتعبين؟». خلال التقرير تطرَّق الكاتب لتأثير تلاحم المباريات بالسلب على مردود اللاعبين، حيث أشار إلى ما يُعرف بـ«عتبة الـ55 مباراة»، وهو الحد الأقصى الذي يجب أن يلعبه لاعب كرة القدم المحترف خلال عام واحد. 

من ضمن 204 لاعبين كانوا قد كسروا بالفعل هذا الحاجز وقت كتابة التقرير، وجود نحو 100 لاعب منهم داخل قوائم المنتخبات المشاركة في كأس العالم. الأمر الذي  يجعلهم أكثر تعرضًا للمواقف التي تنتج عنها إصابات، أو على أقل تقدير، أقل قدرة على الاستشفاء بشكل مناسب. 

من ناحية أخرى، فرض كأس العالم استراحة أطول للّاعبين الذين لم يشاركوا في كأس العالم، لمدة وصلت لـ42 يومًا دون منافسات رسمية، لذلك عندما تستأنف الدوريات قد تمثِّل المشاركة في المباريات ارتفاعًا في كثافة الأعباء على اللاعبين؛ لأنّ متطلبات اللعب في مباريات رسمية أعلى بكثير من متطلبات التدريب، مما قد يؤدي أيضًا إلى ارتفاع احتمالية التعرُّض لإصابات عضلية. 

حقيقةً، من السذاجة أن نحاول توقُّع الفترة التي يحتاجها اللاعبون والمدربون وحتى المُشجِّعون للتعامل مع الوضع الراهن؛ لأننا لكننا لم نخضع فقط هنا لنخبرك أنّ اكتئاب ما بعد كأس العالم لم يُصبك وحدك، بل رُبما تكون الأقل تضررًا من القصة برمتها؛ فانتظارك للمصعد مسألة وقت فقط، قد لا تؤثر فعليًا على مصدر دخلك الأساسي.