تاريخيًّا في مصر، وضمن سياقات مختلفة، شغل جسد المرأة المجتمع، وظهرت آراء متعددة متشابهة ومتباينة حول تمظهره وتنميطه، وسلطته والسلطة عليه، وتحرره والرقابة عليه. وحددت أدوات بعينها شكل جسد المرأة المثالي الذي تصبح المرأة بامتلاكه ضمن دائرة مفاهيمية ومشاعرية مغايرة ذات سلطة، وقادرة على توظيف هذه السلطة (الجسد)، لنيل مشاعر الرضا والإعجاب والانبهار، الذاتي وغير الذاتي.

كل هذا ساعد في ترسيخه أدوات ثقافية مرئية متباينة، قديمًا في السينما والمسرح والدراما، وحديثًا ضمن وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما الأعوام الأخيرة التي شهدت ثورة من الحيوات المرئية (الأجساد) المعروضة عبر الشاشات، التي شغلت رأي عام شعبويًّا يصعب تحديد نسبيته، إذ له سياقات تاريخية مستندة إلى بنيات ثقافية واجتماعية، تشكلت بواسطة أدوات منها ما هو أسطوري وديني، ثقافي فني، ومنها ما هو سلطوي بشقيه السياسي والمجتمعي، بشكل ذاتي وآخري، فردي وجماعاتي، وكذلك مؤسسي ضمن السياسي والاقتصادي والمجتمعي.

التركيز على جسد المرأة، لا يعني أنه الشاغل الكلي في المجتمع، لا سيما الجغرافيات والطبقات محل النقاش، بل يمثل جسد الرجل مفاهيم وتمثلات أخرى لا تقل أهمية، بل وتتقاطع وتتفاعل مع تمثلات جسد المرأة. لكننا نركز هنا على ما الثقافة الشعبية (الممارسات) المستقاة من متخيل شعبي لجسد المرأة، تحديدًا منذ عام 2000 إلى وقتنا الحالي، وللتدقيق في ما سنذكره من تمثلات، سنبتعد عن النسبية والتنميط، لعدم توفر أي دراسة بيانية تناولت الأمر من قبل بالقدر الكافي الذي يمكننا الاستناد إليه، ما ينفي أي تعميم أو تنميط ضمن زمنية أو جغرافية محددة، إذ نختص بالثانية المناطق «الريفية والشعبية»، وهما بالأساس يمتلكان بعضًا، أو ربما كثيرًا، من المفاهيم والممارسات المتداخلة حول جسد المرأة المثالي.

في عام 2018، صدرت دراسة عنوانها: «الصورة الذهنية عن المرأة المصرية: الأبعاد والانعكاسات»، عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. تناولت الدراسة بتوسّع كثيرًا من الصور الذهنية لدى شريحة تبلغ 3000 إنسان مصري بالتساوي بين الذكور والإناث، وبين فئة عمرية من 18 إلى 55 عامًا، ضمن مناطق حضرية وريفية. لكن الدراسة هنا لا تكفي بأي حال من الأحوال لإطلاق أي تعميم أو تنميط على أثرها. كذلك لم تقترب الدراسة مما نريد إعطاء وجهة نظر فيه، وهو الصورة الذهنية لجسد المرأة المثالي ضمن حيزين جغرافيين متداخلين. لكن حتى في ما هو أقرب لنا، وفي ما يخص مسؤولية المرأة عن التحرش بها، أجمع 28.3% من النساء و48.3% من الرجال بمسؤوليتها عن التحرش، فيما يدل على وجود ما نتحدث عنه بشأن تمثلات السلطة والرقابة تحديدًا. ولهذا، نركز على تمثيل الجسد وليس على نسبية هذا التمثيل.

كانت السينما مع الغناء الشعبي (الأغنية الشعبية والمهرجان) من أهم الأدائيات المرئية والمسموعة والمؤثرة على سكان هذه الجغرافيا. السينما لأنها تصل إلى الجمهور كله، بخاصة الأفلام التجارية التي تعتمد الذوق الشعبي في الغناء والرقص وقصص الحارات. والأغنية الشعبية والمهرجان هما بالأساس من صناعة وذوق سكان هذه الجغرافيا، بغض النظر عن التحول الذي طرأ مؤخرًا، ضمن ما يعرف بالاستهلاك المتعدد، إذ أصبح المهرجان وجبة غذائية تتراقص عليها الطبقات المختلفة، بما في ذلك الطبقات العليا.[1]

ونناقش ماهية المواصفات الجمالية للجسد المثالي، ونرصد رمزية جسد المرأة المثالي في السينما المصرية، وفي المهرجان والأغنية الشعبية. ومن ثم أثر وتجليات هذا التمثيل الرمزي في الواقع، ضمن ممارسات، تتجلى في السلطة والرقابة والترقي والتحلل. أي كيف شكل الجسد المثالي سلطة (رأس مال رمزي) من ناحية، ومن أخرى كيف أصبحت هذه المثالية (السلطة) محل رقابة وتنافس ضمن مجتمعها الواقعي، فما هي أشكال الترقي والتحلل الذي صعد إليه هذا الجسد في ظل الفضاء التقني المعولم بسياسات نيوليبرالية، كما نحاول بعد توضيح هذه التمثلات، الإجابة عن مدى إمكانية امتلاك المرأة ذاتها لحق تمظهر جسدها.

 في جمالية الجسد المثالي

لم يقف تاريخ جمالية جسد المرأة عند شكل معين، بل أخذ عبر القرون الماضية أشكالاً متعددة ومستمرة في التغيّر، حتى وصل إلى ما سماه أستاذ علم الاجتماع الفرنسي جورج فيجاريلو بـ«الاجتياح الجسدي»؛ أي اجتياح الجسد ذاته للمرئي العام، اللحم الأبيض ذاته، بما يقصد به من مفاتن، بخاصة الأثداء البارزة والخصرين المثيرين والقوام المشدود، لتلتف من حوله مثالية الجمال، الجمال «الشبقي» المسكر للجمهور الذي يراه.[2]

ومنذ القرن التاسع عشر إلى وقتنا الحالي، ترسخ هذا الاجتياح بفعل أدوات كثيرةٍ، مرئية ومسموعة، سينمائية ومسرحية وأدائية وغيرها، كما حدث مؤخرًا بفعل هيمنة السياسة النيوليبرالية على التقنية. وأصبح الجسد المعروض، بمعنى المكشوف بمواصفاته المثالية هو الطاغي على الأشياء، فيما وصفه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين بـ«تدنيس العري»، أي تفريغ المقدس (الجسد) من محتواه عبر تشيّؤه الدائم والمطلق، حين تمثل ليس الجسد فقط، بل حتى الوجه المعروض كأداة بورنوجرافية خالصة، متخلصة من أي تعبير مقدس لذاتها تطغى الإيروتيكا على الجسد والوجه، وتنزع منهما أي مقدس.[3]

في السينما والأغنية المهرجان

على مر تاريخه، ساعد المجال الفني المصري بخاصة السينما، في رسم مخيال جسدي مثالي في أعين الجمهور، إذ كانت بطلات معظم الأفلام السينمائية فتاة ممشوقة العود، تمتلك مؤهلات جسدية مثالية من حيث الجمال والإغراء، بداية من سعاد حسني وهند رستم ونبيلة عبيد وشمس البارودي وصولاً إلى منى زكي ومنة شلبي ورانيا يوسف وغادة عبد الرازق وغيرهن. وهذا بالطبع لا ينفى مواهبهن الفنية، لكن أجسادهن زادت من فرصهن في التألق واستكمال مسيرتهن الفنية.

على سبيل المثال، لن تجد فنانة «سمينة» مثل «مها أحمد» في بطولة سينمائية، كما لم تحظ بالشهرة مثل أخواتها من الفنانات أبناء جيلها، وذلك لأن الجسد السمين للفتاة الشابة في المرئي المصري هو جسد كوميدي بالتعريف، لا يليق به أن يكون محور قصة عمل جاد، بل تدور حوله الضحوكات والتنكيت. هذا لأن السينما وكما يصفها الكاتب الفرنسي إيمانويل إيتيس «تصنع أو على الأقل تختار جسد بطلها أو نجمها الذي تقدمه للجماهير، من أجل إبهارها وهوسها به».[4]

والجسد كما هو صناعة فطرية، لكنه يحتاج كذلك إلى الحفاظ على ديمومة المثالية التي عليها، بفعل أدوات تجميلية ونظام غذائي وغير ذلك من مقومات لا تتوفر عند فقراء ومتوسطي الطبقة المادية. تتضح هذا أيضًا من الأحاديث التي تنتهي عند هذه الطبقات وغيرها -ربما بنسبة أقل- حول أجساد الفنانات والراقصات، حالمين بها وبالحصول عليها، أو الحصول على أجساد فتيات من طبقاتهم، لكنها تشبه الأجساد المثالية المرئية على الشاشات.

وفيما يخص البث الآخر، المرئي والمسموع ضمن الأغنية الشعبية والمهرجان، شغل جسد المرأة قدرًا مهمًا للغاية، إذ اِلتَفْت أغان كاملة حول جسد المرأة، في وصف تفاصيل جماليته، التفاصيل المثالية المترسخة في المخيال والواقع، الجسد الأبيض ممشوق القوام لكن بتعبيرات شعبية دارجة: أغنية سوق البنات (محمود الليثي -2011): «وتبقى بيضة ياما» – أغنية زلزال (محمود الليثي – 2014): «وقوام ملفوف لفة متقولش لفة جاتوهات» – أغنية بونبوناية (محمود الليثي -2015): «وسط أستك مش بلاستك، آه عودها ولعة وناري والعة، قوامها فلتة مَفيهش غلطة» – أغنية دي بت حلوة (إسماعيل وحمادة الليثي – 2014): «على جسمها ترسم تاتّو، تلبس لبس مِجسم ضيق، تلبس كعب الجزمة تزيق».

وفي المهرجان قديمًا وحديثًا: مهرجان هاتي بوسة يابت (أوكا وأورتيجا 2011): «هاتي بوسة يابت هاتي حتة يابت» – مهرجان إنتي خلبوصاية (عمر كمال وحسن شاكوش 2020): «إنتي خلبوصاية ملفوفة بالعباية» – مهرجان أوعدك (عمر كمال وسمية الخشاب 2021): «ما تبس يا واد بقى كفاية بص وبحلقة، جسمك جامد في الكتات وسط ملبن لأ مطاط».

كلمات طالما عبرت عن الهوس بالجسد المثالي، وتفصيلاته، من الشفايف والعيون حتى الخصر والكعوب، وأداء مرئي برفقة راقصة تجسد كل هذه الكلمات وإيحاءاتها، وجمهور يصفق ويتراقص وعيونه تدور متفحصة جسد الراقصة المثالي.

ليس فقط جسد المرأة الفاتن والمثالي هو ما تستند إليه كلمات الأغنية الشعبية والمهرجانات، بل توجد أعمدة أخرى، مثل المخدرات؛ تعاطيها وإدمانها والتعافي منها، كذلك ركن العلاقات الاجتماعية، بخاصة بين الأصدقاء بعضهم بعضًا، في ما يخص شهامة الأصدقاء وعلى النقيض خيانتهم.

 في السلطة والرقابة

في واقع المناطق الريفية والشعبية، يلتف حول الجسد المثالي مفاهيم عدة، يتفاعل معها وتتفاعل بدورها عليه. منها ما يمثل سلطة ومنها ما هو رقابي على هذه السلطة، كذلك هذه السلطة تساعد في الترقي، بالتوازي مع كل هذا يحدث تحلل لما كان صلبًا في الماضي. في ما يخص تمثل الجسد كسلطة، أو بتعبير الفرنسي بيير بورديو «رأس مالٍ رمزي»، الذي يحاكي تمامًا ما نناقشه، إذ الجسد المثالي يمكن صاحبه من الصعود نحو طبقات اجتماعية ومادية عليا، اختلفت بل وتطورت سبل هذا الصعود.[5]

قديمًا، أي قبل عولمة الأسواق وتجذر النيوليبرالية وانتشار مرئيات العرض والطلب من خلال مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كان صعود الجسد المثالي متمثلاً في أغلبه من خلال النسب، أي أن الجسد المثالي يحظى بفرص زواج من رجال أغنياء داخل المنطقة أو من خارجها، وبهذا ينتشل هذا الجسد من الفقر، وينتقل إلى ترقٍّ مادي يساعده على تحقيق رغباته المادية. وبدرجةٍ أقل، كانت هذه الأجساد، إن ساعدها القدر، تتعرف على أوساط فنية كالسينما والغناء والدراما، ليقوموا بأدوار هامشية، ربما تساعدهم أكثر في الصعود نحو طبقات اجتماعية ومادية عليا إن اكتشفوا وصعدوا إلى أدوار فنية ومرئية أعلى، في حال تخطي الـقيم الدينية والأعراف التي تمنعهم بنسبة كبيرة وبشكلٍ أو بآخر من الانخراط في هذه الأوساط. 

حاليًا وبفضل منظومتي النيوليبرالية والتقنية وشراكتهما، أصبح الجسد المثالي يحظى بفرص متعددة من أجل الارتقاء ماديًّا واجتماعيًّا. إذ أتاحت التقنية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فرصة لعرض هذه الأجساد من خلال محتوى يتمثل في رقص وغناء وتمثيل، ومن ثم تعطي هذه التطبيقات أموالاً ممتازة بفضل الحصول على إعلانات ومشاهدات للمحتوى. كما أن شركات المنتجات المختلفة تتعاقد مع هذه الأجساد لعرض منتجاتها للمستهلك أو الترويج لها في إعلانات الشركة، في حالة شركات السياحة والمطاعم وغير ذلك.

كما تنظم عدة مهرجانات وحفلات ترعاها شركات فنية وإعلامية وتجارية، تحضر فيها الأجساد التي تعمل كَفاشونيستا، ويتحدثون مثل الفنانات في مهرجان الجونة والقاهرة، عن الفساتين وأسعارها ومصمميها، لكن يكون الحديث أكثر جرأةً حيال جماليّة وإغرائية أجسادهن، مثل مهرجان همسة للفنون والآداب، ومهرجان إيجي فاشون الدولي Egyfashion وغيرهما. وهذا يعطي شهرة واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، ومن ثَم مساحة للاشتراك في أغاني الفنانين، مثل اشتراك الفاشونيستا سلمى الشيمي مع المطرب الشعبي المعروف محمود الليثي في أغنية «لامتى». واستضافتهن في ندوات واحتفالات المؤسسات المجتمعية، في تنحية تامة للمثقفين والمهتمين بشكل جاد للحديث عن هذه القضايا.

وفي الرقابة، يكون الجسد المثالي وسط بيئته محل حديثها الشاغل، سواء كانت هذه البيئة حي شعبي أو منطقة ريفية، ومثلما الجسد مثَّل سلطة، فعليه رقابة. في الحي الشعبية والريفي، يلتف الشباب، بخاصة «الأشقياء» منهم، حول هذا الجسد، يراقبونه دائمًا، ويتابعون تمظهره؛ أي ماذا يرتدي؟ إلى أين يذهب؟ وما مدى ارتباطه بالجنس الآخر، أي الذكر، وهل هذا الذكر الآخر إن وجد، يسكن داخل الحارة أم خارجها. وكلما كان الجسد المثالي محل المراقبة أكثر لامبالاة تجاه هؤلاء، كلما شغل حيزًا أكبر من الأحاديث الشارعية ومن السعي للارتباط به. ومن هنا تبدأ خطوات التنافس على هذا الجسد بكل الطرق الممكنة. يتعرى هذا الجسد من امتلاك إنسانيته وقراره الحياتي (العاطفي) في نظرهم، ويبحثون عن وسائل شتى للحديث معه.

قديمًا، أي قبل صعود وسائل التواصل الاجتماعي، كان الشباب ينتظرون هذا الجسد عندما يمر أمامهم، ويمشون وراءه بهدف لفت النظر، كي يوقفوه ويحدثوه عما يخطر في بالهم من إعجاب وعروض الارتباط، أو حتى يكتبوا أرقام هواتفهم في أوراق ويحاولون إيصاله له، بتوقيفه في الشارع أو إلقاء الرقم في شرفات البيوت في حالة الجيرة، وغير ذلك من طرق كانت شائعة حينها. أما الآن، فالطريقة الأولى هي البحث عن حسابات التواصل الاجتماعي لهذا الجسد، (فيسبوك أو إنستجرام) وعند إيجادها تبدأ محاولة الحديث عبر هذه الوسائل.

وفي حالة رفض التعاطي مع محاولات الارتباط، تبدأ في أحايين محاولات رد اعتبار الذات المفحولة التي اهينت بالرفض بالابتزاز والتهديد، من خلال الإصرار على الارتباط عبر كلمات الحب وهيام، فيما يسمى «الابتزاز العاطفي»، مرورًا بـ«الابتزاز» بصور خاصة قد يعثر عليها أحد ذكور المنطقة بطريقة ما، بالتعاون مع إحدى فتيات المنطقة على سبيل المثال، ووصولاً إلى التهديد بالضرب أو تشويه الجسد بخاصة الوجه، بالضرب بآلة حادة أو رشه بمياه النار.

ورغم التعارف على مثل هذه الممارسات التهديدية، سواء بالقول فقط أو بالفعل، فإن هذه التهديدات من أشقياء الحارة، الذين لم ينالوا قدرًا تعليميًّا وأخلاقيًّا جيدًا منذ نشأتهم، على عكس ما يحدث الآن من نمط عنف جديد، رأيناه مؤخرًا في ثلاث حوادث قتل لثلاثة فتيات قتلهن ثلاثة شباب، من بينهما شابان جامعيان، ذبحا بالسكين زميلتيهما لرفضهما الارتباط بهما. وهذا ما يأخذنا إلى نمط عنف متكرر ضد النساء، لكن ببنية عنفية لها سياقات مختلفة عما كانت في الماضي. العنف هنا نتيجة العلاقة المتوترة حسب الفيلسوف السويسري بيونج تشول هان بين «الذات والآخر».[6] الآخر الذي قرر القاتل أن ليس لوجوده معنى ما دام لم يستحوذ عليه، وبما أن «الجسد المثالي» هو السلطة التي رفضت منحها إلى القاتل، فلا بد أن تفنى هذه السلطة أو تشوه بما يكفي لمحو مثاليتها السلطوية.

ومع هذه السلطوية والرقابة إضافة إلى ما يقال عليها وما يعرضها دائمًا لشتى أنواع المخاطر، تصبح أجساد النساء دائمًا تحت ضغط نفسي، ليس فقط من غرباء الحارة، بل حتى من ذكوري العائلة (الذكورية هنا نقصد بها المتسلطين رجالاً بشكل أساسي ونساءً أحيانًا)، إذ تعنف النساء من أقاربهن عندما يعلمون أنهن أصبحن محل حديث لدى ذكوري الحارة، ولو لا علاقة بما يقال، فكل ما يقال بسبب أجسادهن وهوس الآخرين بها. ويمر هذا التعنيف بمراحل كثيرة بدايتها السب ونهايتها الموت. لهذا تجد ذكور العائلة، بخاصة الآباء والأعمام والأخوال والأبناء الكبار، في هذه المناطق حريصين على زواج بناتهم بأسرع وقت ولو دون رضاهن، معتبرين بشكل أو بآخر أن جسد ابنتهم حمل ثقيل، يريدون الخلاص منه بتزويجه، فيما يعرف بـ«الستر»، لأن استمرار عزوبيتها تعني بشكل أو بآخر، نفي الستر (العفة) عنها، ووجود احتمال تعرضها للخزي.

استطاعت السينما المصرية نقل تمثيل السلطة والرقابة على جسد المرأة المثالي في عديد من أفلامها. في فيلم «حلاوة روح» (2014)، كان جسد بطلة الفيلم (هيفاء وهبي) الشاغل الرئيسي للحارة التي تسكنها، جسدها المثالي أعطاها سلطة، فتقرب منها ثري وفتوة الحارة لنيل رضاها والزواج منها، وغنى لها المغني المصري حكيم «دا عشق الجسد مش دايم»، كما كانت تمر بالرقابة من خلال عيون الناس وأحاديثهم عنها، مرورًا بالتعنيف الذي بدأ بتوبيخ حماتها بسبب جسدها التي تتحرش به العيون والأجساد، ووصولاً لاغتصابها في آخر الفيلم من فتوة الحارة، التي لم يستطع الحصول عليها بموافقتها.

وفي فيلم «لامؤاخذة» (2014) تم تجسيد هذا الهوس، ليس فقط عند شباب الحارة اليافعين، بل عند أولاد المدارس الحكومية الصغار، في هوسهم بجسد معلمتهم المثالي، وجسده المخرج عمرو سلامة في أحد المشاهد التي يستمني فيها التلميذ على جسد معلمته، وهي ممارسة منقولة من الواقع (قلما ما تحدث). وهنا تجد اختلاف الفضاء، إذ المدرسة فضاء تعليمي، لكن اختلاف الفضاء لا ينفي بقاء المفاهيم والممارسات التي تدجن أطفال الطبقات الدنيا والمتوسطة الدنيا في الحارات، الذين يتعلمون في مدارس حكومية رديئة.

ويزيد الهوس بوجود فرح شعبي في المناطق الشعبية والريفية، حيث ينتظر جمهور الأحياء الشعبية، بلهفة شديدة أجساد الراقصات اللاتي سيحيين الفرح، كي يروا أجسادًا مثالية ترتدي بدل رقص، ليروا «جسدًا أبيض متعريًا» على الواقع لا يجدونه سوى على الشاشات، كما في فيلم «الفرح، 2009» حين وصلت الراقصة إلى الحارة، زفها الصغار «الرقاصة أهي يا ولاد، إي يا مزة»، لذلك يحرص أصحاب الفرح واقعيًّا ألا يصعد أحد من جمهور الحاضرين إلى المسرح، ويضعون حراسًا من أصدقائهم لمنع صعود أي شخص دون اتفاق مسبق، خوفًا من التحرّش بالراقصات والخناقات.

في الترقي والتحلل

كانت التقنية بوابة لهذه الأجساد، للدخول من خلالها إلى فضاءات وترقيات عدة. تطبيقات مثل فيسبوك ويوتيوب وتيك توك وإنستجرام. أتاحت لهذه الأجساد أن تكون مرئية، ليس فقط من الجماهير الكبيرة، من الذات نفسها؛ التي تناضل من أجل الاعتراف وفقًا لمفهوم أستاذ الاجتماع الألماني أكسل هونيث.[7] ذات طالما عاشت في الهامش غير مرئية، مستبعدة ومنبوذة من سلطويات سياسية واجتماعية واقتصادية، ثم أحييت بعد طول دفن في كثير من السلطويات القيمية.[8] من حيث الترقي المادي، فهذه المنصات ومن خلال ما تقدمه هذه الأجساد، سواء كانت يوميات بيتية، أو سكتشات تحاكي الرقص والتمثيل والغناء، أو فيديوهات على هيئة أفلام قصيرة، تدعي العبرة أو الموعظة، تدر أموالاً تساعدهم على نيل معيشة أفضل، ودخول فضاءات كانت محرمة عليهم.

تستقطب شركات الرأسمال الكبيرة والصغيرة، هذه الأجساد لاستخدامها لعرض منتجاتها، بخاصة شركات الملابس والذهب والإكسسوار، وهذا بهدف جذب المستهلك نحو الشراء، حيث الجسد المثالي الذي يروج للمنتح، يمثل حسب زيجمونت باومان مصدر أمان وثقة للمستهلك، إذ سماه الجسد الاستهلاكي الذي «أصبح مع الوقت ليس ملكًا للإنسان نفسه؛ بل ملكًا للجميع، بصورته المثالية التي يستحيل نقصانها»[9]، ومن خلال عقود الشركات التي تمضيها الأجساد العارضة، بإغراءات مادية لا يستطيع الكثير رفضها، في ظل انعدام الأمن الاجتماعي والاقتصادي الذي فشلت الدولة في تقديمه، بل كرست عكسه بسياساتها الاقتصادية الفاشلة، إذ ينطبع الجسد على أدائية العمل (العرض) ويصبح العمل والجسد لا ينفصلان، فيتحلل الجسد من كونه ملكًا لصاحبه، إلى ملك للمنظومة النيوليبرالية بطرفيها، البائع والمستهلك. وحيال هذا التلاقي بينهما في فضاء التقنية (التطبيقات) فإن التقنية هي ما جعلت التصرف مع الجسد بوصف الباحث العراقي مازن مرسول «كأنه آلة تصاغ وفق ما يشاء العالم، وذلك بحد ذاته لا يعد اهتمامًا بالجسد بقدر ما هو تهميش له وإلغاء لوجوده».[10]

فلسفة امتلاك الجسد ليست التحلل الوحيد، بل حدث تحلل في فلسفات قيمية وأخلاقية، كانت تتجلى في ممارسات يومية تخص مظهرية الجسد من حيث نمطية ملبسه، ومنها ما يترجم في لسانيات وسيميائيات في الممارسة بشكلٍ عام. وسواء كانت هذه القيم، صحيحة أم خاطئة، يقتنع بها صاحبها أم مجبر عليها، فإن هذه القيم تحللت جزئيًّا أو كليًّا، وكانت الوسائل المرئية سبيلاً لهذا التحلل، من خلال الممارسة والمظهرية المختلفة التي صرح الجسد بها عن نفسه.

في صفحته على فيس بوك، يعرض إسلام (مهند أبو البنات)، فيديوهات على شكل أفلام قصيرة، لا تختلف في محتواها عن العشرات مما يقدمه زملاؤه؛ حكايات حول العلاقات غير الشرعية؛ مثل الصديق الذي يخون صديقه مع أُخته، والزوجة التي تخون زوجها الكفيف/ العاجز/ المُسن، أي الخيانة أو العلاقات غير الشرعية. وبعد أن يعرض إسلام بضعة فيديوهات، يقدم بثًّا مباشرًا live، للحديث مع جمهوره. وفي واحد من أحاديثه الأخيرة، بدا إسلام مرتبكًا يدافع عن نفسه وعن الفتاة التي معه، تارة يقول «اللبس حرية شخصية»، وأخرى «عندكم حق في موضوع التعري ومش هيتكرر تاني». ارتبك إسلام حيال اتهامات الجمهور في التعليقات التي تتهمه بأن مقاطع الفيديو ما هي إلا جسد مُتعرٍ لبطلة الفيديو (ناهد) لجلب التفاعلات، وأن هذا العري سلوك خاطئ، يجب إبلاغ الدولة عنه، أو تحذيره بشكل مباشر من عقاب ما بعد الموت «الآخرة». هنا، يظهر مدى التحلل الذي أفرزته المرئيات، الذي لا يعرف أصحابه كيف يدافعون عنه، لأنهم بشكلٍ أو بآخر لا يزالون يتبنون القيم القديمة، أو لا يعترفون بتنازلهم عنها كمرجعية، حتى إن تنازلوا عنها كممارسة، لكن لا يمتلكون القناعة أو الشجاعة الكافية لمواجهة المراقبين الدائمين لهذه القيم.

حُذفت صفحة «إسلام أبو البنات» الرئيسية التي كان يبث من خلالها جميع فيديوهاته، بعد البث الأخير الذي قوبل باتهامات وتهديدات من الجمهور بإبلاغ الأمن المصري، ويبدو أن إغلاق الصفحة جاء خوفًا من القبض عليهما، بحجة نشر الفسق والفجور، كما هي المعتادة التي تضعها الدولة في قلبها الأجهزة الأمنية عند قبضها على كثير من الشباب والفتيات التي يقدمون محتوى على منصات التواصل الاجتماعي. ومؤخرًا قبض الأمن المصري على المواطن إبراهيم عبد المالك، الذي يصنع محتوى على المنصات برفقة فتيات، ووجهت له تُهم خدش الحياء والنشر والتحريض على الفسق والفجور، لما كان يتداوله من ألفاظ وإيحاءات جنسية.

ختامًا، لم يكن للمرأة وحدها، حق امتلاك مظهرة جسدها كيفما تشاء، بل شكلته سلطات عدة وفقًا لما يناسبها من مفاهيم ولما يساعدها على تحقيق مصلحتها، سواء كانت هذه المصلحة مادية تتمثل في الربح، أو ذاتية تتمثل في استحقاق الوجود، أو ثقافية تتناسب مع مرجعية دينية أو عرفية.[11]

لكن هذا التشكل مر بصراعات ضخمة ليس فقط مع السلطات الفردية والمؤسسيّة، بل مع السلطات الذاتية، فدائمًا ما تتغير مرجعيات المرأة الثقافية والبيئية، ما يجعلها في دينامية مستمرة في تغيير كيفية تمظهر جسدها. وأيضًا كان جسد المرأة ضمن حيز الجغرافيات سابقة الذكر، أكثر حصارًا مقارنة بأجساد أخرى في حيز جغرافي وثقافي مغاير، أعلى طبقيًّا، ما خفف عنه الكثير من الضغط السلطوي في كيفية تشكل الجسد في الفضاء الخاص والعام.

المراجع
  1. للمزيد، انظر مقال. أحمد عبد الحليم. الطبقة الثرية المصرية والمهرجانات.. من الاحتقار إلى الهوس، موقع ضفة ثالثة، نشر في 28 ديسمبر 2021.
  2. جورج فيجاريلو، تاريخ الجمال: الجسد وفن التزيين من عصر النهضة الأوروبية إلى أيامنا، ترجمة جمال شحيد، المنظمة العربية للترجمة، ط1 بيروت 2011، ص 212، 213 
  3. بيونج-شول هان، معاناة إيروس، ترجمة بدر الدين مصطفى، دار معنى للنشر والتوزيع، ط1 السعودية 2021، ص 41-42-43.
  4. إيمانويل ايتيس، علم اجتماع السينما وجماهيرها، ترجمة سلمى مبارك، دار معنى للنشر والتوزيع، ط1 السعودية 2021، ص 118.
  5. حسني إبراهيم عبد العظيم، الجسد والطبقة ورأس المال الثقافي: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو، إضافات: المجلة العربية لعلم الاجتماع، مركز دراسات الوحدة العربية، المجلد 2011، العدد 15 (31 يوليو/تموز 2011)، ص65.
  6. بيونج تشول هان، طوبولوجيا العنف، ترجمة بدر الدين مصطفى، دار معنى للنشر والتوزيع، ط1 السعودية 2021، ص77.
  7. أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف: القواعد الأخلاقية للمآزم الاجتماعية، ترجمة جورج كتورة، المكتبة الشرقية، ط1 بيروت 2015.
  8. للمزيد حول الحيوات العارية. أحمد عبد الحليم، الحياة العارية، موقع ضفة ثالثة، نشر في 2 نوفمبر 2021.
  9. زيجمونت باومان، الحياة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 بيروت 2016، ص 124
  10. مازن مرسول، حفريات في الجسد المقموع: مقاربة سوسيولوجية ثقافية، دار الأمان، ط1 الرباط 2015، ص 29.
  11. من ناحية الثقافة الأسطورية تجاه جسد المرأة، يمكن النظر إلى مقال حسني عبد العظيم، الجسد الأنثوي وجدلية الطهارة والدناسة، منصة معنى، نُشر في 2 مايو 2019.