محتوى مترجم
المصدر
Monthly Review
التاريخ
2022/10/2
الكاتب
Ian Angus

في الجزء الثامن من رأس المال والمعنون بـ«ما يُسمى بالتراكم البدائي» يصف ماركس العمليات القاسية التي فصلت العاملين عن وسائل العيش، وأدت لتركيز الثروة في أيدي سادة الأرض والرأسماليين. بأنه واحد من أكثر أجزاء الكتاب درامية وإمتاعاً.

هذا المفهوم أيضًا هو مصدر دائم للالتباس والجدل. حاولت عشرات من المقالات- حرفيًا- شرح ماذا يعني «التراكم البدائي» حقًا. هل حدث فقط في الماضي البعيد، أم أنه مستمر حتى الآن؟ هل تُرجِمت «بدائي» بشكل خطأ؟ هل يجب تغيير الاسم؟ ماذا كانت بالضبط نظرية ماركس في «التراكم البدائي»؟

في هذا المقال، المخصص لكتابي القادم عن «الحرب ضد المألوف»، أحاجج أن ماركس اعتقد أن «التراكم البدائي» كان مفهومًا مضللًا وخطًأ. فهم ما كتبه فعليًا يلقي الضوء على اثنين من المفاهيم الماركسية المهمة: الاستغلال، والتجريد من الملكية.

هذه مجرد مسودة، ليست كلمتي الأخيرة. أتطلع لتعليقاتكم وتصحيحاتكم واقتراحاتكم.

في 20 و27 يونيو/حزيران 1865، ألقى ماركس محاضرة من جزأين على أعضاء الجمعية الدولية للشغيلة (الأممية الأولى) في لندن. بإنجليزية واضحة ومباشرة، عرض الأفكار التي سوف تظهر في الجزء الأول– شبه المكتمل– من رأس المال، ليشرح نظرية قيمة العمل، وفائض القيمة والصراع الطبقي وأهمية النقابات العمالية «كمراكز مقاومة ضد انتهاكات الرأسمالية». ولأن الترجمة الإنجليزية لرأس المال لم تنشر إلا بعد وفاته، فإن هذه الأحاديث كانت الفرصة الوحيدة للعمال المتحدثين بالإنجليزية لمعرفة تلك الأفكار مباشرة من صاحبها.

أثناء شرحه كيف يبيع العمال قوة عملهم، تساءل ماركس بطريقة بلاغية كيف أصبح هناك نوعان من الناس في السوق، الرأسماليين الذين يمتلكون وسائل الإنتاج، والعمال الذين عليهم بيع قوة عملهم كي يعيشوا.

كيف تنشأ تلك الظاهرة الغريبة، أن نجد في السوق قطاعًا من المشترين، يمتلكون الأرض والماكينات والمواد الخام ووسائل العيش كلها، يحتفظون بالأرض في صورتها الخام، وبمنتوجات العمل، وعلى الجهة الأخري، قطاع من البائعين الذين لا يمتلكون شيئًا يبيعونه سوى قوة عملهم، أذرعهم العاملة وعقولهم؟ إن القطاع الأول يشتري باستمرار ليحصل على ربح ويثري نفسه، بينما القطاع الآخر يبيع باستمرار ليكسب قوت يومه.

لم يكن تقديم إجابة كاملة يقع ضمن نطاق محاضرته كما قال، لكن «البحث في هذا السؤال سوف يكون بحثًا في ما يسميه الاقتصاديون «التراكم البدائي أو الأصلي» لكنه يجب أن يسمى المصادرة الأصلية للملكية».

سوف نجد أن ما يسمى «التراكم الأصلي» لا يعني إلا سلسلة من العمليات التاريخية التي أفضت إلى تفسخ الاتحاد البدائي بين الإنسان العامل وأدوات العمل .. وقتما يحدث الانفصال بين قوة العمل وأدوات العمل، فإن هذه الحالة تحافظ على نفسها وتعيد إنتاج نفسها على نطاق متسع باضطراد، حتى تقوم ثورة جوهرية جديدة في أسلوب الإنتاج لتقلبه من جديد وتستعيد هذا الاتحاد البدائي في شكل تاريخي جديد.

لقد كان ماركس حريصًا جدًا في استخدام كلماته. لم يستخف استبدال التراكم بالمصادرة. هذا التبديل ضروري بشكل خاص لأن تلك كانت المرة الوحيدة التي ناقش فيها الموضوع بإنجليزية لم تخضع لفلترة الترجمة.

في رأس المال، يحتل الموضوع ثمانية فصول في الجزء المعنون «Die sogenannte ursprüngliche Akkumulation» الذي نُقِل لاحقًا إلى الإنجليزية بعنوان «ما يُسمى التراكم البدائي». مرة أخرى، من المهم ملاحظة استخدام ماركس الحريص للكلمات، لقد أضاف «ما يُسمى» ليؤكد نقطة أن العمليات التاريخية تلك لم تكن بدائية ولم تكن تراكمًا. جزء كبير من الالتباس حول ما يعنيه ماركس راجع إلى الإخفاق في فهم روحه الساخرة هنا وفي أماكن أخرى.

إنه يخبرنا في الفقرة الأولى أن «ursprüngliche” Akkumulation”» هي ترجمته لكلمات آدم سميث «التراكم المسبق». وقد وضع كلمة «ursprüngliche» (المسبق) بين علامات تنصيص ليشير إلى أن الكلمة غير مناسبة. لسبب ما تم تجاهل علامات التنصيص في الترجمات الإنجليزية، لذا ضاعت سخريته.

في القرن التاسع عشر، كانت كلمة «البدائي» مرادفة للأصلي. على سبيل المثال، الكنيسة الميثودية البدائية أعلنت اتباع التعاليم الأصلية للميثودية. ونتيجة لذلك فإن الطبعة الفرنسية من رأس المال التي حررها ماركس في سبعينيات القرن التاسع عشر ترجمت «ursprüngliche» إلى«بدائي»، وهي الترجمة التي انتقلت للترجمة الإنجليزية في 1887 وقد علِقنا مع «التراكم البدائي» من وقتها، رغم أن معنى الكلمة قد تغير.

يشرح ماركس لماذا استخدم «ما يُسمى» وعلامات التنصيص في مقارنة فكرة التراكم المُسبق بالعقيدة المسيحية التي نعاني منها جميعًا لأن آدم وحواء أخطآ في الماضي الميثولوجي البعيد. أنصار التراكم المسبق يقصون علينا حكاية مكافئة لحكايات الحضانة تلك.

منذ وقت طويل جدًا كان هناك نوعان من الناس، الأولون هم النخبة المجتهدة الذكية وفوق كل هذا المقتصدة، والآخرون هم الأوغاد الكسولين الذين ينفقون مواردهم وأكثر في حياة عربيدة.. وهكذا حدث أن الأولين راكموا الثروة والنوع الآخر لم يعد لديهم في النهاية ما يبيعون سوى جلودهم. وإلى هذه الخطيئة الأصلية يرجع تاريخ فقر الغالبية العظمى الذين رغم كل عملهم لا يمتلكون حتى الآن شيئًا ليبيعوه سوى أنفسهم، وتاريخ ثراء القلة الذي يزداد باضطراد رغم توقفهم عن العمل منذ وقت طويل.

«مثل هذه الطفولية الشاذة نوعظ بها كل يوم دفاعًا عن الملكية» لكن حين ننظر إلى التاريخ الفعلي، «فإن الحقيقة سيئة السمعة أن الغزو والاستعباد والسرقة والقتل، باختصار، القوة تلعب الدور الأكبر» فصول ما يسمى «التراكم البدائي» تصف العمليات الوحشية التي بها «تم انتزاع الجماهير الغفيرة بالقوة من وسائل عيشها، ودفعها إلى سوق العمل كبروليتاريين أحرار بلا حماية أو حقوق».

أصبح الرجال المتحررون حديثًا بائعين لأنفسهم فقط بعد أن سُرقت منهم كل أدوات إنتاجهم، وكل ضمانات البقاء التي كفلتها الترتيبات الإقطاعية القديمة. هذا التاريخ، الذي هو تاريخ مصادرتهم، تمت كتابته في حوليات الجنس البشري بحروف من دم ونار.

تُركز سجلات ماركس على المصادرة في إنجلترا، لأن نزع ملكية الشعب العامل كانت الأكثر اكتمالاً هناك، لكنه أيضًا يشير إلى الإبادة الجماعية للسكان الأصليين في الأمريكتين، نهب الهند، وتجارة العبيد الأفارقة – «تلك الإجراءات الشاعرية هي اللحظات الرئيسية للتراكم البدائي». تلك الجملة – وأخريات مثلها – تكشف سخرية ماركس المستمرة من التراكم البدائي. إنه لا يصف التراكم البدائي، إنه يدين هؤلاء الذين يستخدمون المفهوم لإخفاء الحقيقة الوحشية للمصادرة.

الفشل في إدراك أن ماركس كان يحاجج ضد مفهوم «التراكم البدائي» أدى إلى مفهوم آخر مغلوط، أن ماركس ظن أنه حدث فقط في الماضي البعيد، وقتما كانت الرأسمالية تولد. كان هذا ما عناه آدم سميث وكتُاب آخرون من مؤيدي الرأسمالية بالتراكم المسبق، وكما رأينا، فإن ماركس قد قارن هذه الرؤية بأسطورة جنة عدن. لقد شددت فصول ماركس عما يسمى «التراكم البدائي» على المصادرات العنيفة التي أرست أسس الرأسمالية المبكرة حيث كان يرد على ادعاء أن الرأسمالية تطورت سلميًا. لكن سجله أيضًا يتضمن حروب الأفيون في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، تطهيرات المرتفعات في اسكتلندا الرأسمالية، المجاعة التي افتعلها الاستعمار لتقتل مليون شخص في أوريسا في الهند عام 1866، وخطط تطويق وخصخصة الأرض في أستراليا. كل هذه الأحداث وقعت في فترة حياة ماركس وأثناء كتابته لرأس المال. ولا شيء منها كان جزءًا من تاريخ ما قبل الرأسمالية.

إن المصادرات التي وقعت في قرون الرأسمالية الأولى كانت ساحقة، لكن بعيدة عن أن تكتمل. من وجهة نظر ماركس، رأس المال لم يستطع الراحة – هدفه النهائي هو «تجريد كل الأفراد من وسائل الإنتاج»، في أماكن أخرى، كتب عن رأسماليين كبار «ينزعون ملكية الرأسماليين الصغار ويصادرون البقية الأخيرة من المنتجين المباشرين الذين تبقَّى لديهم ما يمكن مصادرته. بكلمات أخرى، المصادرة تسير جيدًا بعد أن تنضج الرأسمالية».

عادة ما نستخدم كلمة التراكم من دون حساب، لنصف التجميع أو الاكتناز، لكن بالنسبة لماركس كان لها معنى خاص، زيادة رأس المال بإضافة فائض القيمة، عملية مستمرة تنتج عن استغلال العمل المأجور. الأمثلة التي يستخدمها في «ما يسمى التراكم البدائي» تشير إلى السرقة ونزع الملكية والمصادرة – استيلاءات فردية من دون تبادل مكافئ. مصادرة لا تراكم.

عبر تاريخ الرأسمالية، نلحظ تفاعلًا جدليًا مستمرًا بين شكلين من أشكال السرقة الطبقية رمز لهما بيتر لاينبو بـ X2 «المصادرة والنهب» (Expropriation and Exploitation).

المصادرة تسبق النهب، لكنهما مترابطان، إن المصادرة لا تمهد الأرض فقط بل إنها تعمق النهب.

المصادرة سرقة مفتوحة. إنها تتضمن الإغلاق القسري، نزع الملكية، العبودية وأشكال أخرى للسرقة، بلا مقابل مكافئ. النهب هو سرقة مموهة. يبدو وكأن العمال يحصلون على مدفوعات كاملة عن عملهم في صورة أجور، لكن الحقيقة أن صاحب العمل يحصل على قيمة أكبر مما يدفع للحصول عليها.

ما وصفه آدم سميث وآخرون على أنه بناء تدريجي للثروة قام به رجال أكثر إنتاجية واقتصادية من الآخرين، كان في الحقيقة مصادرة عنيفة وقسرية خلقت السياق الأساسي للنهب الذي استمرت في توسيعه منذ هذا الوقت. كما كتب جون بيلامي فوستر وبريت كلارك في «سرقة الطبيعة»:

كأي نظام معقد وديناميكي، لدى الرأسمالية القوة الداخلية التي تدفعها، والشروط الموضوعية خارجها التي تشكل حدودها، والعلاقات بين الاثنتين دائمة التغير. الديناميكية الداخلية للنظام محكومة بعملية نهب قوة العمل، تحت ستار التبادل المتكافئ، بينما علاقتها الأولية ببيئتها الخارجية هي علاقة مصادرة.

باختصار، لم يكن لدى ماركس «نظرية للتراكم البدائي». لقد كرس ثمانية فصول من «رأس المال» ليشرح كيف أن مختصي الاقتصاد السياسي الذين طوروا نظرية كهذه كانوا مخطئين، أنها كانت «حكاية أطفال» اختُرِعت لتبييض تاريخ الرأسمالية الحقيقي.

تفضيل ماركس لـ «المصادرة الأصلية»لم يكن تلاعباً بالكلمات. لقد لفت هذا التعبير نظره إلى أن «مصادرة الأرض من المنتجين المباشرين – ملكية خاصة للبعض، ومن غير المالكين في حالات أخرى – هي أساس نمط الإنتاج الرأسمالي». إن الانفصال المستمر بين البشر والعلاقة المباشرة بالأرض لم يكن ولن يكون عملية سلمية : لقد تمت كتابتها بحروف من دم ونار. هذا ما جعله يسبق تعبير «التراكم البدائي» بـ«ما يُسمى».

تمت الترجمة بتصريح من مجلة مونثلي ريفيو.