ظهرت المحاولات الأولى لتدوين السيرة النبوية في أواخر القرن الأول الهجري. تصدى لتلك المهمة مجموعة من كبار التابعين من أمثال كل من عروة بن الزبير المتوفى 92هـ، وأبان بن عثمان المتوفى 105هـ، ووهب بن منبه المتوفى 110هـ، فضلًا عن ابن شهاب الزهري المتوفى 124هـ. في الحقيقة، لم يصل إلينا أي نص مكتمل من تلك الكتابات. فقط، حُفظت لنا بعض الروايات التي نقلها المؤرخون اللاحقون في مدوناتهم.

في أواسط القرن الثاني الهجري، قام محمد بن إسحاق بتدوين السيرة النبوية، ونُقلت تلك السيرة إلى ابن هشام الحميري، الذي قام بتحريرها وإعادة ترتيبها وتنظيمها، وتلقفها عنه تلاميذه ونشروها شرقًا وغربًا لتصبح أحد أهم المصادر التي يُعول عليها للتعرف على حقبة الإسلام المبكر.

مَن هو ابن إسحاق؟

في سنة 12هـ، انتصر المسلمون على الفرس ومن حالفهم من القبائل العربية في معركة عين التمرة بالقرب من مدينة الأنبار العراقية. يذكر ابن كثير الدمشقي المتوفى 774هـ في كتابه «البداية والنهاية» أن قائد المسلمين خالد بن الوليد لمّا دخل إلى المدينة وجد أن أربعين غلامًا كانوا قد تجمعوا داخل الكنيسة، وأنهم كانوا يعكفون على دراسة الإنجيل.

يؤكد ابن كثير أن خالدًا قد فرق هؤلاء الغلمان على أمراء جيشه وأنه أرسل الأسرى إلى المدينة المنورة، فكانوا «أول سبي دخل المدينة من العراق» بحسب ما يذكر ابن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ في كتابه «تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس».

يسار، وهو واحد من هؤلاء الأطفال المسيحيين الذين كانوا في الكنيسة، وجد نفسه في بيت الصحابي قيس بن مخرمة. لا نعرف إذا كان قيس قد شارك في المعركة أم أنه ابتاع الطفل من سوق الرقيق.

ولكن من المؤكد أن يسار قد اعتنق الإسلام بعد فترة وأنه اشترى حريته في ما بعد وصار من موالي قيس بن مخرمة. تزوج يسار وأنجب إسحاق، ولم يلبث إسحاق أن كبر هو الآخر فتزوج وولد له محمد سنة 80هـ.

لا نعرف الكثير عن الفترة المبكرة من حياة محمد بن إسحاق. تذكر بعض المصادر أنه قد عُرف بجماله ووسامته، وذكر البعض أنه اتُهم بأنه يجلس في مؤخر المسجد للصلاة فيغازل بعض النساء، فأمر أمير المدينة إبراهيم بن هشام بإحضاره وجلده ونهاه عن الجلوس في مؤخر المسجد.

بعد تلك الحادثة غادر ابن اسحاق المدينة المنورة. يذكر المؤرخون أنه قد سافر في طلب العلم والحديث، وزار كلًا من الجزيرة، والكوفة، والريّ، وبغداد، والإسكندرية. واستقر في نهاية المطاف في العراق واتصل بخلفاء بني العباس، وفي سنة 151هـ، توفي ابن إسحاق ودُفن في مقبرة الخيزران- أم الخليفة هارون الرشيد- ببغداد.

ابن إسحاق في ميزان الجرح والتعديل

تمكن ابن إسحاق في رحلاته من جمع كثير من الروايات التي تحكي عن تاريخ الإسلام المبكر. عدّه كثيرون من معاصريه واحدًا من أهم الرواة الذين جمعوا أخبار النبي.

على سبيل المثال وصفه ابن سعد المتوفى 230هـ في كتابه «الطبقات الكبرى»، بأنه «أول من جمع مغازي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وألَّفها…». ابن عساكر المتوفى 571هـ نقل المعنى نفسه في كتابه «تاريخ دمشق» عندما أورد قول محمد بن إدريس الشافعي «من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق».

رغم ذلك، وجِّهت عدد من الانتقادات اللاذعة لابن إسحاق. كان هشام بن عروة بن الزبير أول من شكك في الأمانة العلمية لابن إسحاق عندما اتهمه بالكذب في نقله بعض الروايات عن فاطمة بنت المنذر، زوجة هشام.

ابن عروة غضب مما أشاعه ابن اسحاق من كونه قد سمع الحديث عن فاطمة. من الممكن أن نتفهم غضب هشام من قول ابن إسحاق إذا ما رجعنا للروايات التي تحدثت عن مغازلة الأخير للنساء في شبابه.

كان الإمام مالك بن أنس الأصبحي المتوفى 179هـ هو ثاني المشككين في ابن إسحاق. يذكر شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ في كتابه «سيّر أعلام النبلاء» أن ابن إسحاق كان ينتقد أحاديث مالك، وأنه كان يقول لأصحابه: «هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله»، وكان يقول في أوقات أخرى: «اعرضوا علي علم مالك فإني بيطاره». مالك رد بقوة على تلك الانتقادات، إذ قال: «ما ابن إسحاق؟! إنما هو دجال من الدجاجلة، نحن أخرجناه من المدينة».

فسّر الذهبي الخصومة المنعقدة بين مالك وابن إسحاق بالغيرة العلمية، وعمل على توضيح أثر قدح كل من الرجلين في صاحبه، فقال: «…وهذان الرجلان كل منهما قد نال من صاحبه، لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة، وارتفع مالك، وصار كالنجم، والآخر، فله ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السيّر، وأما في أحاديث الأحكام، فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا في ما شذ فيه، فإنه يُعدّ منكرًا. هذا الذي عندي في حاله، والله أعلم».

بعض المؤرخين أشار لجانب غير ظاهر في شخصية ابن إسحاق، ألا وهو اتهامه بالتشيع. على سبيل المثال يذكر الحافظ جمال الدين المزي المتوفى 742هـ في كتابه «تهذيب الكمال» «وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأسباب منها: أنه كان يتشيع، ويُنسب إلى القدر…». على الرغم من غياب أي معلومة موثقة تدل على تشيع ابن إسحاق، فإن بعض علماء الشيعة عدّوه من ضمن أصحاب الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق، ومن هؤلاء كل من أحمد بن محمد بن خالد البرقي المتوفى 274هـ، ومحمد بن الحسن الطوسي المتوفى 460هـ.

كيف دونت سيرة ابن إسحاق؟

ينقل الخطيب البغدادي المتوفى 463هـ في كتابه «تاريخ بغداد»، إحدى الروايات التي توضح الظرف التاريخي الذي صاحب تصنيف ابن إسحاق لكتابه الأشهر. يقول البغدادي: «دخل محمد بن إسحاق على المنصور وبين يديه ابنه المهدي فقال له: أتعرف هذا يا ابن إسحاق؟ قال: نعم هذا ابن أمير المؤمنين، قال: اذهب فصنف له كتابًا منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى يومك هذا. قال: فذهب فصنف له هذا الكتاب. فقال له: لقد طولته يا ابن إسحاق، اذهب فاختصره. فذهب فاختصره فهو هذا الكتاب المختصر، وألقى الكتاب الكبير في خزانة أمير المؤمنين…».

ذكرت بعض الكتب أن هذا اللقاء قد وقع في الحيرة قبل أن ينتقل المنصور إلى بغداد. من هنا يغلب الظن أن تأليف الكتاب قد تم قبل عام 146هـ، وهو العام الذي شهد انتقال المنصور لعاصمته الجديدة.

بحسب ما يذكر المؤرخون فإن ابن إسحاق قد قسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول، وهو المبتدأ، ويتناول تاريخ البشرية منذ آدم وبدء الخليقة. القسم الثاني، وهو المبعث، ويتناول حياة النبي في مكة ثم هجرته إلى يثرب. أما القسم الثالث، فهو المغازي، ويشمل حياة النبي في المدينة المنورة، وما قام به من غزوات وحروب.

مِن ابن إسحاق إلى ابن هشام

ضاع كتاب ابن إسحاق ولم يصل إلينا، ولكن من حسن الحظ أن واحدًا من تلاميذ ابن إسحاق قد حفظه كاملًا. هذا التلميذ النجيب كان زياد بن عبد الله البكائي المتوفى 183هـ.

اختلف المحدثون حول توثيق البكائي، ولكنهم اتفقوا على كونه أفضل من روى سيرة ابن إسحاق. يبرر الذهبي هذا الأمر بأن البكائي قد صاحب شيخه في العديد من رحلاته، وأنه قد تلقى عنه كتاب المغازي مرتين.

البكائي حافظ على مؤلف أستاذه عندما بثه بين تلاميذه. كان أحد هؤلاء التلاميذ هو أبو محمد عبد الملك ابن هشام بن أيوب الحميري. ولد ابن هشام ونشأ في البصرة، وقدم إلى مصر، وقابل الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وتوفي فيها في سنة 213هـ في بعض الأقوال، أو في 218هـ في أقوال أخرى.

يذكر ابن خلكان المتوفى 681هـ في كتابه «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان»، في سياق ترجمة ابن هشام «وهذا ابن هشام هو الذي جمع سيرة رسول الله من «المغازي والسير» لابن إسحاق وهذبها… وهي الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام…».

لم يكتف ابن هشام بإعادة رواية سيرة ابن إسحاق بحسب ما سمعها من أستاذه البكائي، بل إنه أعاد ترتيبها وتنظيمها، وحذف منها وأضاف إليها، ولذلك عُرفت هذه السيرة بسيرة ابن هشام، لتميزها عن السيرة التي ضاعت لابن إسحاق.

يقول ابن هشام في مقدمة كتابه موضحًا عمله في سيرة ابن إسحاق:

[…]وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وآله من ولده، وأولادهم لأصلابهم، الأول فالأول، من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل، على هذه الجهة، للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرًا له، ولا شاهدًا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارًا ذكرها لم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به.

هذا الاعتراف، فتح الباب على مصراعيه أمام الباحثين الذين تساءلوا عن ماهية النصوص التي تصرف فيها ابن هشام بالحذف والتعديل، وإذا كانت تلك النصوص قد حُذفت لأسباب دينية أو مذهبية أو سياسية؟

مما يقوي هذا السؤال أنه قد نُقل عن بعض المحدثين قولهم «ولو لم يكن لمحمد بن إسحق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن كتب لا يحصل منها شيء فصرف أشغالهم حتى اشتغلوا بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبتدأ الخلق، ومبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فهذه فضيلة لابن إسحق سبق بها. ثم بعده صنفها قوم آخرون، فلم يبلغوا مبلغ ابن إسحق منها».

يُفهم من هذا القول إن ابن إسحاق قد تعمد أن يصنف كتابه بالطريقة التي تثير اهتمام الملوك والخلفاء بالمقام الأول، وأنه قد صاغ الكتاب بالشكل الذي يتشابه مع الكتب الملحمية- لا سيما الفارسية والبيزنطية- التي كانت شائعة في هذا العصر. في السياق ذاته يسأل البعض عن الأثر السياسي في سيرة ابن إسحاق، وإذا كان الكتاب قد عمل على تعظيم دور العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله- الآباء الأوائل للبيت العباسي- مجاملةً للخليفة أبي جعفر المنصور؟

في سياق آخر، تساءل البعض عن أثر الأصول المسيحية لابن إسحاق في صياغته لسيرة النبي. تُرى هل تعمد ابن إسحاق أن يطعن في النبي من خلال إضافة بعض الحوادث والوقائع التي تسيء إلى مقام النبوة؟ وهل قام ابن هشام بحذف تلك الأخبار من كتابه عندما قال: «إني تارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب… بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره».

بدوره، عمل العقل الشيعي على استثمار حالة الجدل التي أثارتها كلمات ابن هشام. بعض الآراء الشيعية أكدت أن ابن هشام قد حذف كثيرًا من الروايات التي ذكرها ابن إسحاق في معرض تأكيده على فضائل الإمام علي بن أبي طالب وآل البيت.

على سبيل المثال يقول رجل الدين الشيعي المعاصر جعفر السبحاني في كتابه «دور الشــيعــة في بناء الحضارة الاِسلاميّة”: «لمّا كان المترجم- يقصد ابن إسحاق- شيعيًا مجاهرًا في ولائه لأهل البيت عمد ابن هشام بتلخيص كتابه على أساس حذف ما لا يلائم نزعته فحذف أكثر ما له صلة بفضائل الإمام علي وأهل بيته. فعلى الشيعة الغيارى التفحّص في مكتبات العالم وفهارسها، حتّى يعثروا على نسخة الاُم، وينشروا هذا الكنز الدفين…».

الرأي السني التقليدي يرفض جميع الأقوال السابقة، ويؤكد أن ابن إسحاق كان عالمًا مسلمًا صحيح الإسلام، وأنه لم يتشيع كما يزعم علماء الشيعة. وهنا يفسر علماء السنة ما ورد على لسان ابن هشام، بأنه كان يقصد بعض الإسرائيليات والأخبار الضعيفة.

في ذلك المعنى يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه «السيرة النبوية الصحيحة»:

[…]حذف ابن هشام منها- أي من سيرة ابن إسحاق- كثيرًا من الإسرائيليات والأشعار المنتحلة، وأضاف إليها معلومات في اللغة والأنساب، مما جعلها- بعد التهذيب- تنال رضا جمهور العلماء، فليس من مؤلف بعده إلا كان عيالًا عليه[…].